السبت، 24 سبتمبر 2016

[ حنيناً أيها المهاجر ] قصة مؤثرة لأحد اخواننا الفضلاء من بلاد العراق الحبيب

- -

قصة مؤثرة لأحد اخواننا الفضلاء من بلاد العراق الحبيب.. 

درس .. وعاش .. ولا يزال يعيش في الغربة!


ما أشد على الإنسان العيش في الغربة! ..

كل منا يعلم ذلك ..

لا أب ولا أم.. لا اخوان ولا ديار .. فتن ، فساد ، غربة في الدين

وأقسى ألما .. حزن يفتت الحجر .. إذا صاحب ذلك تشتتا وفقرا !


هذا هو الأخ يروي قصته المريرة .. 


- -

حنيناً أيها المهاجر


الزمان . . . صيف عام ١٩٩٩ م

المكان . . . في الوسط الأوروبي حيث 
(براغ) عاصمة الجمهورية التشيكية


بدا لي شاحباً منذ رأيته أول مرة . . لا أعلم ما الذي جذبني إلى محياه . . ربما نظراته الشاردة وقامته النحيلة . . وربما لهجته العراقية الصافية عند ترحيبه بنا بعد قدومنا من المطار . . لست أدري بالضبط.

بعد وصولنا إلى مطار العاصمة (براغ) ومع دخولنا إلى المركز الإسلامي الوحيد فيها , التقينا بعدد من الطلاب والمقيمين العرب في هذه المدينة والذين قدموا إلى المركز الإسلامي للمشاركة في البرامج الثقافية التي أعدتها إحدى المؤسسات الدعوية للجالية العربية المتواجدة بهذه الدولة . . وكنت مع اثنين من الأصدقاء المكلفين بإعداد هذه البرامج.

تملكنا شعور بالمودة والأخوة الصادقة من حرارة الترحيب الذي لمسناه من المشاركين أثناء سلامنا عليهم . . أحسسنا بالوشائج الغليظة التي تربط أرواحنا وإن تباعدت بنا الديار . . كانوا في حدود الثلاثين أو أكثر قليلاً . . من جنسيات مختلفة . . من هيئاتهم بدا واضحاً أن الفقر صديق حميم لأكثرهم.

سألت أحدهم:
- ما اسم ذاك الشاب؟ . . لم أسمع اسمه جيداً أثناء سلامي عليه.

- تقصد عدنان.

- اسمه عدنان إذن . . هو عراقي أليس كذلك؟

- نعم . . . ثم أردف: في الجمهورية التشيكية يعيش كثير من العراقيين، غالبهم من الطلاب الذين أكملوا دراستهم هنا ثم لم يعودوا إلى العراق . . وحتى أكون أكثر دقة هم لا يستطيعون العودة إلى العراق . . طبعاً أنت لست بحاجة إلى أن أذكر لك السبب.

- أظن ذلك.

أثناء قيامنا بطرح البرامج الثقافية في الفترات المخصصة لها كانت الحيوية والتفاعل من قبل المشاركين سمة واضحة جداً . . يبدو أن هذه البرامج تعد لدى أكثرهم أشبه بالإجازة أو النزهة التي يقطعون بها رتابة أعمالهم اليومية الشاقة، ويتنفسون فيها الصعداء مع بقية المشاركين . . إضافة إلى كونها تعبق بروح الشرق، وتملأ صدورهم بنسائم الأجواء العربية، بعدما سئم أكثرهم الحياة في مجتمعات الغرب بعيداً عن أهلهم وديارهم.

لم نكن نتصور أن علاقة حميمية ستنشأ مع غالب المشاركين في نشاطات المركز خلال الأيام القلائل التي قضيناها في (براغ).
وبخاصة تلك الأحاديث الليلية التي كانت تجري يومياً على قرع أكواب الشاي مع غالب الحضور الذين كانوا ينامون تلك الليالي في أماكن مخصصة لهم داخل المركز.

كنا نتحدث عن كل شيء . . العالم العربي , قضية فلسطين , منظمة التحرير , السلام ,الحرب , العمل الإسلامي في الغرب . . ترتفع أصواتنا أحياناً وتخبوا أحياناً أخرى . . وتمضي الساعات دون أن يشعر أحد.

لا أعلم لم كنت أتعمد مراقبة عدنان طوال تلك الفترات . . شروده الدائم والحزن الذي تطفح به قسمات وجهه وامتناعه عن المشاركة مع البقية في الحديث ربما كانت السبب.

في إحدى الجلسات الليلية اقتربت ممن كان بجانبي وقلت له:
- ما بال عدنان . . يبدو شارداً وحزيناً طيلة الوقت . . هل أصابه مكروه؟

- عدنان عاطفي جداً . . . ثم أردف ذلك بضحكة وقال: يبدو أنه بدأ يحِنّ إلى وطنه.

- ألا يستطيع العودة؟

- كلا . . . وبعد لحظة صمت أضاف: عدنان أحد ضحايا السياسة . . كان على وشك إنهاء دراسة الماجستير في هندسة الطيران . . إذ بحرب الخليج تبتدئ . . طلبت منه حكومته الإسراع بالرجوع . . وكان يعني ذلك قطع دراسته بعد أربع سنين من الدراسة والتعب، ولم يكن قد تبقى له على إنهائها سوى أشهر قليلة . . كان يعرف أن الرجوع يعني قطع دراسته دون أن يحصل على الشهادة . . لذا قرر البقاء وإكمال دراسته . . كان يظن أن بإمكانه الرجوع متى انتهى منها . . ولكن أخبار من عادوا متأخرين كانت قد وصلت إليه . . فلم يكن أمامه سوى البقاء.

- وماذا يعمل الآن؟

- يعمل بائعاً في معرض صغير لبيع الكرستال يملكه أحد العرب بأجر لا يكاد يكفيه لآخر الشهر.

- لذلك يبدو هذا البؤس على وجهه.

قال وهو يبتسم:
- لا تحزن كثيراً . . فنصف الذين تراهم أمامك بمثل حاله . . وخصوصاً العراقيين.

- أيعقل ذلك.

- يمكنك أن تتأكد بنفسك.

لم أكن أتصور أن ذلك الأخ كان يعني بدقة ما يقول . . نصف هؤلاء . . أيمكن أن يحمل نصف هؤلاء نفس المصير . . الحياة في المنفى.
كيف لم نشعر بذلك . . تعساً لإنسانيتنا الكسيحة التي ما عرفت إلا مجتمع الرفاه والبذخ.

بدأت أحاول التقرب من عدنان . . أحادثه قليلاً . . وأستمع بإنصات لما يقول على قلة حديثه . . في صوته نبرة حزن واضحة . . لحنٌ جنائزي . . ربما كان كذلك . . لست أدري بالضبط.

ذات ليلة . . وبعد أن فرغنا من النشاطات المخصصة لذلك اليوم . . وبعد وجبة العشاء . . رأيته جالساً لوحده في إحدى زوايا صالة المحاضرات يحتسي كوباً من الشاي . . اقتربت منه وقلت له:
- الجو رائق هذه الليلة . . . ما رأيك أن نسير على أقدامنا في الخارج قليلاً؟

نهض معي دلالة استجابته لذلك . . خرجنا من المركز والساعة تشير إلى الثانية عشر ليلاً . . ونسائم الهواء الباردة تنعش أجسادنا المتعبة.

اتجهنا إلى طريق طويل بجوار سور مرتفع في شارع هادئ إلا من صوت سيارة عابرة كل بضع دقائق . . وأخذنا نسير.

عدنان بدا صامتاً كعادته وظلال من الشرود تلوح في عينيه . . لم أكن أعلم فيم يفكر . . حاولت أن أبدأ بالحديث وأن أثير كوامنه . . قلت له:
- عدنان . . ألحظ في عينيك أشجاناً غائرة وكآبة لا أجد جهداً في رؤيتها على محياك , فلم كل ذلك . . أعلم جيداً سماكة الحزن الذي يثقل كاهلك . . ولكن الحياة لابد أن تسير . . أنت تُحرق نفسك . . هل تشعر بذلك.

أجاب بعد لحظات من الصمت:
- ماذا تريدني أن أفعل . . أن أضحك بملء فمي على مرارات الحياة . . على صدى الحرمان في داخل أحشائي . . لا أستطيع . . صدقني لا أستطيع.

صمت قليلاً ثم قال:
- أتعرف أسعد؟

- نعم أعرفه . . رأيته في المركز وقت صلاة الجمعة . . هو عراقي أيضاً , أليس كذلك؟

- نعم . . أسعد يحمل شهادة الدكتوراه في أصعب فروع الهندسة الميكانيكية . . أتدري ماذا يعمل في (براغ) . . يعمل صرافاً في سوق قديم وبالكاد يجني ما يجعله يعيش الكفاف . . وجمال . . أظنك تعرفه أيضاً . . يحمل شهادة الماجستير في العلاقات الدولية ويعمل هو الآخر في بقالة صغيرة قام بإنشائها لبيع المأكولات العربية . . هل تريد أن أذكر لك نماذج أخرى.

- لا يكفي أرجوك . . أعتذر إذ أزعجتك . . يبدو أن لغتنا الخشبية باتت كمبضع جراح توغل في اللحم الحي دون أن تشعر.

- يا أخي وبماذا أزعجتني . . وهل ذكرت لك إلا ما كان حاضراً في ذهني تسع سنين.

التفت إلي فجأة وقال وملامح ابتسامة كادت أن تفلت من شفتيه:
- تسع سنين . . أليست طويلة . . ألا تكفي لأن تستجلب الكآبة من أغوارنا السحيقة . . آه لو تعلم يا أخي كم أشتاق إلى الوطن . . إلى دياري ودياركم . . كنت أتمنى أن أحصل على أي عمل في بلاد عربية . . هناك عبق الوطن . . ريح الأهل والأصحاب . . الغربة هنا حارقة . . لاهبة . . تكوي أرواحنا بجمودها وصلفها.

- ولم لا تتزوج؟

- وبماذا أتزوج؟
وأردف بعد قليل: أتعرف . . أثناء زيارتي الأخيرة إلى العراق كنت على وشك الزواج بابنة عمي . . قررت فقط أن أنتظر بضعة أشهر أنهي فيها دراستي في (براغ) وأعود إلى الوطن ليتم الزفاف . . ولكنني كما ترى لم أعد . . وعندما علم عمي بصعوبة عودتي إلى الوطن زوج ابنته على الفور ولم ينتظر طويلاً.

صوت عدنان بدا غائراً، متعثراً، ومحملاً بأطنان من الحزن وهو يقول:
كم هي مسكينة . . زُوجت رغماً عنها . . ولكنها اليوم أم لثلاثة أطفال . . أتمنى لها السعادة من كل قلبي . . هي طيبة القلب جداً . . ترى على محياها الوداعة والبراءة العذبة . . كأنها تحيا خارج زماننا الرديء . . كنت أحبها كثيراً . . أذكر جيداً عندما أتاني خبر زواجها . . كان ذلك بعد شهور من إنهاء دراستي هنا . . عندما سمعت بالخبر كدت أفقد صوابي . . انتابني شعور بالانفجار . . بالضياع . . بالحزن يحفر في قلبي أودية وأخاديد . . بالكره لكل العالم . . أخذت إجازة طويلة من المعرض الذي أعمل به . . واعتزلت في غرفتي . . كنت أبكي كل ليلة . . ولم أخرج من غرفتي أسبوعين متواصلين . . اجتاحني إحساس بالنهاية . . لا قيمة لأي شيء . . لم أكن أجد راحتي إلا في الصلاة . . عندما أرفع يداي إلى ربي وأدعوه باكياً أن يفرغ علي الصبر ويزيح عني الهم والحَزَن . . لم يفارقني خيالها عام كامل . . لم أكن أستطيع أن أنتزع صورتها من مخيلتي . . أعلم أنها أصبحت لغيري . . ولكن طيفها لا زال ملكي أدعوه متى أشاء.

- سُحقاً للحب . . أوَ يفعل كل هذا؟

- آآآه يا أخي . . . وتدعونا بعد ذلك أن نزيح الكآبة من على وجوهنا.

لم أشأ أن أواصل حفرياتي في أعماقه الدفينة . . فلذت بالصمت.

أخذنا نواصل السير دون هدف . . رذاذ المطر بدأ يلامس رؤوسنا العارية . . والهواء البارد يجتاح أجسادنا المنهكة من طول المسير . . كان الجو رائعاً.

بعد قليل من الصمت أخذت أشدو بصوت خفيض يسمعه عدنان بوضوح . .

العراق العراق العراق
....................
طبت يا مطر المناحة والمجاعة والأذى
والنفي والموت اللذيذ
وعلى امتداد جراحهم
يندى المدى
لا خير في البلد الردى
لا خير في البلد الردى
آه ما أروع الوطن المتجسد منهم جميعاً
فيه رُوح العراق
ورَوح العراق
وبوح العراق
فيه عِرق العراقي
ينزف . . ينزف . . ينزف
خوفاً وجوعا
وقلباً هلوعا
وحقداً ستحمر منه السفوح
فحتى متى سيدوم النزيف.

عدنان كان يستمع إلي وعلى وجهه بدت كل عذابات الأرض . . وعيناه تسبحان في ألق الماضي البعيد . . إلى حيث لا أدري.

عندما عدنا إلى المركز كانت الساعة تشير إلى الثالثة ليلاً وقد أعيانا التعب من السير المتواصل . . الكل في المركز قد غط في نوم عميق . . ذهبنا إلى وسائدنا كي ندرك ما تبقى من لحظات قبل صلاة الفجر . . غرقت في فراشي أطلب الدفء بعد لفح البرد والمطر . . أغمضت عينيَّ وأنا أتساءل . . هل سيجد النوم طريقه هذه الليلة إلى عينيَّ عدنان

تلك الليلة كانت آخر ليالي في العاصمة (براغ)

وعند الظهر كنا على موعد مع الطائرة التي ستقلنا إلى الرياض بعد أن نقضي عدة ساعات في العاصمة الرومانية (بوخارست).

وبعد أن أنهينا في صباح ذلك اليوم كامل المتعلقات , وسلمنا على المشاركين معنا في نشاطات المركز، اتجهنا إلى المطار . . وعند وصولنا أخذنا في إتمام إجراءات الحجز وركوب الطائرة . . وبعد فراغنا منها وبالقرب من المدخل المؤدي إلى الصالة الداخلية فوجئت بعدنان قد أتى مسرعاً لتوديعنا . . شعرت بخفقان في قلبي عندما رأيته . . سلم على رفاقي بحرارة . . وعندما أتى دوري شد بيده على يدي . . أحسست بحرارة جسده تنتقل إلى يديّ الباردتين . . قال لي وقد بدت على شفتيه ابتسامة واسعة هي الأولى التي أراها على محياه:
- سلم لي على أهل تلك الديار . . قل لهم أننا اشتقنا إليهم.

اجتاحتني رغبة عارمة في البكاء . . غالبت نفسي وضممت عدنان بشدة وأنا أقول له . . أعادك الله إلى أهلك وديارك.

في الرياض . . عندما عدت إلى المنزل . . أقفلت على نفسي باب غرفتي . . وفتحت جهاز الحاسب . . وسودت لعدنان رسالة بعثتها له عبر البريد الإلكتروني . .

أيها المهاجر
أوَ أسراب الطيور المهاجرة هي وحدها التي تحظى بالعودة إلى الديار
أم أن لسواها أن يحظى بذلك أيضاً
أشفق على قلبك المسكين من أن يكون كلأً لنار الغربة والضياع . . وأنت تعيش كشيخ صوفي جسده في عالم وروحه في آخر
فهل تنقضي حياتك على ذلك
يالعذابات المحروم في داخل أحشائك اليافعة أوَ تُبقي فيك نبض حياة للمستقبل
عدنان
وجهك الشاحب لم يفارق مخيلتي مذ عدت إلى الوطن
قصتك هزتني من الأعماق . . أتدري لماذا
لأني شعرت بقلبك النابض فوق سعير المرارة تلتهم بقاياه . . وأنا أرقب ذلك المشهد بخشوع ووقار بائس . . ثم لا أملك أن أصنع لك شيئاً سوى ذلك
أشكرك إذ علمتني الحرمان يشخص أمامي في قامتك النحيلة
قبل ذلك لم أكن أعرف منه إلا رسم الحروف وحكايات بين ثنايا ورق نقرأها كي تساعدنا على النوم . . ليس إلا
أعدت إلي عبق الإنسانية الضائعة بين ضجيج الحضارة وصخب الحياة
أشكرك عدنان.

◽️◽️

نواف القديمي
📚 مجلة حياة العدد (٢٨) شعبان ١٤٢٣ هـ

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق