١١ ـ أرقام مجنونة
كانت تنزوي في المقعد الجاثم عند المدخل الرئيسي للصالة ، كمن لا حيلة له وسط ضباب الأفق القاتم .. تتجهم للغموض المتلاحق على جبين الأحداث اليومية – في حياتها – بمستجدات غريبة ..
لم تكن تفهم تلك المعاني المبهمة في السلوكيات الأخيرة لزوجها ، ولم تشأ أن تغوص في أعماقه ، أو تنبش أفكاره .. حتى لا يصفعها بمفاجأة لعينة .. فتركت الأيام تحل لها لغز اعتكافه عنها .. في حين كانت أعصابها تزداد توتراً .. وقلقاً ، حيناً بعد آخر !
تنهدت بمرارة ، وقالت محدَّقة في الباب المغلق في آخر الردهة :
- آه .. لو أعرف ما يجري هناك !!
خطر لها – وسط حيرتها – أن تقوم من فورها وتقتحم حجرته لتقف على ما يدور بين جدرانها من أسرار ، لكنها سرعان ما تراجعت حين داهمها طيفه الواجم ، مذكراً إياها .. بأوامره الصارمة :
" لدي عمل هام .. ولا أريد أن يزعجني أحد ! "
كل يوم لديه عمل هام .. وكل يوم ينأى بجانبه عنها وعن أطفاله .. أي عمل هذا الذي يدفنه في أحشاء عزلته لساعات طويلة ! .. وأي عمل يجعله يزهد بكل شيء .. حتى بطعامه وشرابه .. !
أدركت أن ثمة سر خطير في الأمر ، فوسوست لها الهواجس بظنون جعلتها تنتفض :
- لا .. هل يعقل أنه يخطط لزواج جديد ؟! ..
ارتعشت وشحب لونها حتى شعرت بالدوار .. لم تقدر على الصبر أكثر من هذا .. فقفزت من مقعدها تفتش عن محاولة ناجحة لاقتحام المكان وبأي وسيلة .. وجاءتها أفكارها .. بخطة جهنمية !!
بدأتها بكوب من الشاي الساخن مرفقاً بطبق أنيق من البسكويت المزين بالقشدة ، ثم مرت بحجرتها بسرعة لتغير من هيئتها ، وتُغدق على أنوثتها بأناقة صارخة ..
راحت تحدثه – في همس – وهي تضع أحمر الشفاه : الويل لك يا عبد الرحمن إن كنت تنوي الزواج ..
ثم وهي تكز على أسنانها ، وتسرح شعرها بطريقة تعجبه :
- الويل .. والويل لك !
زجرت أفكارها أمام باب حجرته .. ثم رسمت على محباها ابتسامة رائعة ، وانسابت بعجلة إلى الداخل حتى لا تسمح لصوته بأن يأمرها بالعودة .. كانت تسير بسرعة كبيرة حين توقفت في منتصف المسافة ورسمت على جبينها علامة تعجب هائلة ..
هل تصدق ما ترى ! أم أنها ظلمته !!
بدا لها مخلوقاً آخر وهو منكمش على نفسه فوق مكتبه ، ومستغرقاً في عمل لا تدري – هي – ماهيته .. كان أشعث الرأس ، طويل الذقن .. يرتدي نظارة على عينيه ويضع الأخرى على قمة رأسه ، في حين كان يكتب بقلم ويعلق غيره فوق أذنه الشمال .. وكتب وملفات – وأجهزة حساب تبعثرت حوله بفوضى عجيبة !!
همست لنفسها بدهشة وهي تكمل سيرها نحوه :
" ترى .. ماذا يفعل هذا الرجل ؟ "
لكنها توقفت من جديد ، حين سمعته يتمتم بعبارات غريبة :
- إذن الشهر الثالث : دعوة إبراهيم + مصروفات أحمد في المستشفى + ثوب جديد لطلال + إصلاح السيارة .. يساوي ..
" هل يمكن أن يسجن نفسه من أجل هذه الحسابات فقط ! "
شعرت برغبة عارمة في الضحك من هواجسها المجنونة .. لكنها تماسكت ، ونادته تنبهه لوجودها :
- عبد الرحمن !
كان مستغرقاً في أرقامه حتى أذنيه ، فلم يسمعها .. كررت النداء هذه المرة وبصوت أقوى :
- عبد الرحمن ..
رفع إليها رأساً يكتنفه الدوار .. وتجهم لانتهاكها حرمة أوامره ، فاستدركت الوضع وقالت بدلال ومكر :
- لقد قلقت عليك .. ورأيت وقد انقضى عليك زمناً في مكتبك ، أن خير وسيلة لإنعاشك هو كوب من الشاي الساخن ..
وأردفت وهي تتوقف بمحاذاته :
- وقلت لنفسي لا بد وأنك تشعر بالجوع الآن ، لذا أحضرت لك قليلاً من الحلوى التي تفضلها !
ساورها الفضول من جديد وهي تنظر إلى الأوراق المتناثرة .. من فوق كتفه فسألته :
- ماذا تفعل .. ؟
أجابها بضجر .. مستنداً بجسده المنهك إلى ظهر المقعد :
- إنني أحاول أن أحل اللغز .. !
- أي لغز هذا .. ؟
سألته بلا مبالاة .. بينما أخذ هو يفسر لها المسألة بغيظ :
- لغز المعاش الذي بات يتبدد مني بعد انقضاء أسبوعين فقط من استلامه ..
وتابع يضرب المكتب بقبضته :
- لغز الديون التي بدأت تتراكم فوق رأسي .. والشكاوي التي بدأت تلاحقني .. !
ضربت على صدرها تسأله بذهول :
- ديون .. وشكاوي ، لماذا ؟ .. !
- أتريدين أن تعرفي لماذا .. اسمعي !
التقط ورقة من كومة الأوراق أمامه .. وراح يقرأ لها محتوياتها بصوت غاضب :
- أجور المنزل والخادمة والمدارس الخاصة ، فواتير الكهرباء والتليفون والمغسلة ، ملابس جديدة وإكسسوارات شهرياً ، حفلات وولائم لصديقاتك .. هدايا باهظة لجاراتك وقريباتك .. اشتراك نادي .. اشتراك شهري في المطاعم ، لأن حضرتك تأنفين من الطهي ..
حدقت به :
- ما شاء الله .. إذن أنا الجانية الوحيدة وسط هذه المشاكل ..
وأكملت تكيل عليه بالتهم :
- ولماذا لم تذكر مصروفاتك الشخصية ، ودعواتك الأسبوعية لأصدقائك .. لماذا لم تذكر الأجهزة المختلفة والساعات والعطور التي تشتريها بين الحين والآخر .. لماذا تلقي باللوم علي وحدي .. ؟!
قال بضيق يائساً :
- لأنك شريكتي في الحياة ، وسيدة هذا المنزل .. وعليك أن تشاركيني أعباء الإنفاق وتنظيمها .. ؟
قالت بعناد :
- مهما يكن .. لست وحدي المسؤولة ..
أجابها معترفاً :
- أنا لا أنكر بأن كلانا مخطئ في مسألة الإسراف .. ولكن ..
رمى القلم من يده بعصبية ، قائلاً بعد زفرة طويلة :
- ولكن هذه الفوضى في الإنفاق يجب أن تتوقف ، وإلاّ وجدت نفسي في النهاية .. في موقف لا أحسد عليه !!
قالت .. تصطاد في الماء العكر :
- اقترحت عليك مراراً بأن أعود إلى عملي .. وأنت الذي كنت ترفض ..
صاح محذراً :
- لن تعملي .. ولن أعود لمناقشة هذا الموضوع ثانية ، حتى لو غرقت في الديون إلى هنا !
أشار إلى جبهته .. وأردف بكبرياء :
- لست أنا من يتطلع إلى أموال زوجته .. أو مساعدتها !
وقال ساخراً :
- ثم أن عملك لن يحل المشكلة أبداً يا سيدتي ، بل سيزيدها تعقيداً .. هذا لو وضعنا في الاعتبار مصروفاتك الشخصية اليومية من ملابس وحلي وأجر سائق وغيرها .. بالإضافة إلى أولادنا الثلاثة الذين سيقعون ضحية للخادمة ، وللمشاكل التي ستنشأ وتتفاقم بسبب تغيبك عن المنزل ..
قالت بامتعاض .. تغير الموضوع :
- إذن .. ما هو الحل برأيك ؟
دار من وراء مكتبه دورة كاملة ، وراح يتسكع في أحضان الحجرة ، وبعد هنيهة قال :
- الحل الوحيد ، هو أن نضع ميزانية منظمة للإنفاق الشهري ..
- وماذا يعني هذا ؟
قال برجاء :
- يعني أن نقتصد قليلاً في مصروفاتنا .. حتى نتجاوز الأزمة ..
أجابته بغرور :
- إن مستواي الاجتماعي ، لا يسمح لي أن أظهر أمام صديقاتي بمظهر المرأة المقتصدة .. أو المغلوبة على أمرها .. !
سألها ، يصب عليها بعبارات ساخنة :
- أليس ذلك خيراً من أن تظهري أمامهن بمظهر السيدة البائسة الذي سجن زوجها بسبب ديونه .. ؟
ارتجفت لتعليقه فجلست تفكر بالأمر ملياً .. وبعد دقائق جاءها صوته متسائلاً :
- ها .. ماذا قلت ؟
نهضت واقتربت منه باستسلام : حسناً .. كما تريد ..
وهمست إليه صادقة :
- وكما دللتني في الرخاء .. فلن أتخلى عنك في الشدة !!!
١٢ ـ خضراء الدمن
انتهى الأمر .. فقد وضع شروطه ومواصفاته .. وراح يُمني نفسه بالسعد وتفاصيل الفرح ، لم يكن يأبه لمعايير الأخلاق .. والدين .. والثقافة ، المهم أن تكون زوجة الغد حسناء وحسب ، جميلة .. شقراء .. ذات عينين ساحرتين وقوام جذاب ، جميلة لا يُماثلها بالحسن أحد من بنات جنسها ، لذا ترك مهمة البحث الشاقة عن حوريته الموعودة إلى أمه وأخته فريدة ، حيث دخلت ذات يوم الأم المجهدة تتبعها ابنتها الواجمة بينما بشائر الفرج تلوح على محياها ، قالت له فريدة بدون حماس :
- يبدو أننا قد وجدنا ضالتك يا حسن ..
صاح بفرح متهللاً :
- حقاً .. هل وجدتماها أخيراً بعد هذا البحث المضني الذي استغرق أياماً وشهوراً !؟ ..
قالت أمه بحزن : أجل يا بني .. وجدناها ، وهي بالفعل حسناء .. لكنها فظة وجاهلة .. كما أن الشائعات تطاردها وتطارد أمها .
قال ينظر إلى حلمه بعينين يشع منهما وميض الأمل :
- لا يهم يا أمي .. أريد هذه الفتاة وبأي ثمن .. حتى لو طُلب إلي وزنها ذهباً ..
نظرت الأم إلى ابنتها باستياء .. ثم التفتت إلى ابنها ناصحة :
- ولكنها يا يني سيئة الخلق والتربية ، والرسول عليه الصلاة والسلام حذر من خضراء الدمن. وهي الحسناء في منبت السوء ..
قال يكبح من جماح الحقيقة ببروده :
- لا عليك يا أمي .. غداً سأعلمها كيف تكون زوجة صالحة .. ستكون كما تحبين إن شاء الله ..
غير أن الحسناء التي انتقلت إلى بيت زوجها الهائم بها .. حيث كانت أمه وأخته تشاركانها في المسكن لكون " حسن " المعيل الوحيد لهما ، راحت تعد العدة بعد شهور قليلة لتشعل البيت بحرائق الشقاء والفتنة ، فكانت تأتي بسلوكيات غريبة على الأم والأخت وذلك حين كانت تسهر طوال الليل – وبعد استغراق زوجها في النوم – تتحدث في الهاتف إلى شخص مجهول – فتتعمد أن لا تصحو من نومها إلا متأخرة .. وأن لا تساعدهما بأي عمل من أعمال المنزل .. بل إن زوجها لم تقم بواجبها نحوه على أكمل وجه .. فهما اللتان تطهيان الطعام له وكذلك غسل ملابسه وكيها .. أما هي فلم تكن مهمتها تنحصر فقط سوى بتنظيف حجرتها التي كانت تهمل ترتيبها بين الحين والآخر ..
ومع مرور الأيام .. وصبر أم حسن وأخته على زوجته الحسناء ومعاملتها لهما بقسوة وغلظة .. وكذلك على تصرفاتها الغريبة ، بدأ الرجل يستسيغ نفور حليلته من أمه وأخته ، وخصوصاً عندما كانت تنفرد به في حجرتها لتحيك الدسائس ضدهما وهي تدعي البكاء وتتهمهما بأنهما تكرهانها وأنهما تعاملانها بغطرسة فلا تدفعانها لمساعدتها في أعمال المنزل لأنهما لا تثقان بها أو بنظافتها ، مما أوغر صدر حسن على أمه وأخته فبات هو أيضاً يعاملهما بجفاء ، ولا يجلس إلى صحبتهما إلا قليلاً ، الأمر الذي أثار حزن الأم إلى ما آل إليه مصير ولدها في أن أصبح ألعوبة بيد زوجته الحسناء .
وتشاء إرادة الله أن تكشف خبث الزوجة وخيانتها المقيتة ، حين عاد حسن ذات يوم إلى منزله مبكراً ليأخذ ظرفاً خاصاً بفواتير الهاتف لتسديدها كان قد نسيه ، هنالك دخل المنزل بهدوء وتوجه من فوره إلى مكتبه دون أن يشعر به أحداً باحثاً عن أوراقه ، وفي نفس الوقت كانت فريدة تطرق الباب على زوجة أخيها حيث فتحت لها الباب قائلة بتمرد :
- خيراً .. ماذا تريدين .. أيتها العانس الحقودة ؟
قالت فريدة متنهدة بصبر : كنت أريد ملابس أخي المتسخة كي أغسلها له .
أجابتها المرأة المتجهمة بغرور : حسناً .. ادخلي .. ولا تنسي أن تأخذي ثوبي الأخضر وتكوينه .. لأني خارجة بعد قليل ..
سألتها فريدة بدهشة :
- وإلى أين تريدين الخروج بدون إذن زوجك .. ثم ألم تلاحظي بأن خروجك قد كثر في الآونة الأخيرة ؟
قالت لها حسناء بتعالي ودلال :
- وما دخلك أنت .. ثم ماذا فيها إن خرجت كل يوم لزيارة أهلي .. هل يسوءك هذا ؟
قالت فريدة بمرارة تكشف خطتها :
- لا بالطبع .. ولكن ما يسوؤني هو أنك تدعين الذهاب لأهلك .. في حين أنك تذهبين إلى أماكن أخرى لا يعلمها إلا الله .
صرخت فيها حسناء : ماذا تقصدين ؟ وما هذا الذي تقولينه ؟
قالت فريدة بحزن :
- إنها الحقيقة يا حسناء .. الحقيقة ، فقد تحملنا أنا وأمي فظاظتك وقسوتك .. ولم نشأ أن نخبر حسن بما تفعلينه معنا حتى لا نحزنه .. أما أن تقفين في الشرفة لساعات طويلة تتبادلين الإشارات مع ذلك الشاب الذي ولا شك أنه يقف بعربته أمام دارنا وينتظرك .. وكذلك تتحدثين إليه بالهاتف طوال الليل .. فهذا أمر لا يجب السكوت عليه ..
دخلت أم حسن تتابع النقاش بين كنتها وابنتها فصرخت حسناء : ما هذا .. هل تتجسسان عليَّ ؟
أجابت أم حسن بهدوء :
- لا يا ابنتي .. فليس من طباعنا التجسس .. لكن تصرفاتك أصبحت جليَّة وفاضحة ..
اقتربت حسناء من حماتها وقالت بعناد :
- أنا حرة .. أفعل ما أريد .. وليس لكما بي أي شأن .. وسأخرج مع من أريد .. وفي أي وقت ..
تنهدت أم حسن وقالت باعتراض :
- ولكن هذا لا يجوز يا حسناء .. إنك تخربين بيتك بنفسك .. !
نظرت إليها كنتها شزراً وقالت بوقاحة : يا لك من عجوز شمطاء .. أنا أعرف لماذا تكرهينني .. لأنني أجمل من ابنتك التي لم تجد من يتزوجها حتى الآن ..
هنا ظهر حسن وصاح ينهر زوجته قائلاً : حسناء !!
ارتبكت المرأة فجأة وبدأت تدعي البكاء والحزن تلقائياً قائلة لزوجها :
- هل رأيت .. هل رأيت يا حسن كيف أن أمك وأختك تسعان للتفريق بيننا .. باتهامي بالباطل ..
قال بغيظ وحنق :
- أجل .. رأيت وسمعت كل شيء .. رأيت الحقيقة البشعة التي كنت تسعين لإخفائها عني ..
دنت من زوجها محاولة إغوائه بسحر جمالها :
- لا تصدقهما يا عزيزي .. فهما يدبران مؤامرة ضدي وضدك ..
صرخ فيها :
- اخرسي .. اخرسي أيتها المرأة الفاسدة .. فهما أطهر من افتراءاتك وأكاذبيك ..
ثم توعدها بغضب :
- والآن أمامك ساعة من الوقت .. لتجمعي حاجياتك .. كي ألقي بك إلى بيت ذويك ..
وأضاف ساخراً :
- وسنرى أيتها الحسناء إذا ما كان ذلك العاشق الذي لوثت نفسك بمعرفته .. سنرى إن كان سيتزوج بكِ أم لا .. لأنه ليس هناك رجل عاقل – حتى وإن كان خبيثاً – في الدنيا .. يمكن أن يتزوج بامرأة كانت تخون زوجها ..
وبعد مدة من الزمن عاد حسن إلى منزله بعد أن أوصل زوجته ورمى عليها بيمين الطلاق حيث تنهد وهو يقول لأمه نادماً :
- لم أكن أعلم أنها على هذا النحو من السوء .. لقد استغلت حسنها لتضليلي ..
وأضاف بحزن :
- ليتني استمعت إليك يا أمي وانتصحت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم حين حذرنا نحن معشر الرجال من خضراء الدمن .
قالت أمه تواسيه بحنان :
- لا بأس يا بني .. المهم أن تكون قد تعلمت من هذه التجربة أن جمال المرأة الحقيقي يكمن في أخلاقها وصلاحها .. وليس بحسن وجهها وقامتها ..
وأضافت أخته بمرح :
- ثم أن الفتيات ذات الأخلاق العالية وذات الدين والصلاح متواجدات بكثرة والحمد لله .. المهم .. أن تحسن الاختيار في المرة القادمة .
قال شارداً متبصراً للحقيقة :
- نعم .. معك حق يا فريدة ، المهم أن أحسن الاختيار .. وأن لا أجعل الجمال والحُسن من الشروط الأساسية للزوجة الصالحة ..
١٣ ـ إجازة .. !
ينظر في عينيها .. ويقتطف ركام من الهم فيهما ، فينكمش داخل ضيق هائل .. يُلقي – على أثره – بكل ثقله إلى الوراء ليطلق زفرة بحجم الويلات .. !
مرت عشر سنوات .. كأنها حلم .. أو هي طيف من أرض المستحيل ، عشر سنوات .. نسي خلالها الهموم الراكدة على أرصفة عمره .. نسي الآلام المتجذرة في طفولته .. في شبابه .. وحتى في هنيهات عجزه ..
كانت " سلمى " في ليلة زفافهما ، مجرد طير يحوم في أجواء الفرح .. كانت الحلم الذي أغدق على عمره بفيض من الأمل ، ومنحه العزيمة ليتحدى الأهوال ..
لكنها تتبدل وتتحول إلى مخلوق آخر ، اليوم تذبل .. وتذوي في صمت مرير بات يقتله كل يوم مائة مرة .. قالت له في حوارهما الأخير :
" لقد منحتك كل شيء .. فلم أعد أملك لك شيئاً " ..
يقفز من مكانه ويجوب الحجرة كمسافات بلا حدود ، بينما قابعة هي في مكانها لم تحرك ساكناً .. يسألها :
- ماذا تريدين أن أفعل ؟! ..
تحدق به ببرود ، وكأن سؤاله لا يعنيها ، ثم تعود إلى الثوب الذي تخيطه صامتة ، فيصرخ :
- أجيبيني ..
ترفع رأسها دون أن تنظر إليه ، وتبقى صامتة تحملق في الفراغ ..
يكرر سؤاله :
- ماذا تريدين .. ؟
يشعر برغبة ملَّحة في البكاء لصمتها .. يريد أن يفعل أي شيء .. أن يصفعها .. أن يركل كل شيء أمامه ، لكنه يتماسك ويلوذ إلى حيرة يسحقه الذهول فيها إلى أشلاء ، يتساءل في سريرته .. ماذا يفعل ، وكيف يستجلي أحزانها ، فجأة يأتيه قرارها متعباً .. واهناً ، ليقطع حبل أفكاره :
- أنا بحاجة ماسة إلى إجازة أستعيد بها حيويتي .. !
يلتفت إليها مندهشاً ، فتردف :
- مرت سنوات عديدة ، وأنا أمنحك أنت والأولاد كل جهدي ووقتي .. سنوات أفقدتني نفسي .. وشخصيتي .. فمن حقي أن تمنحني إجازة قصيرة .. !
يطلق ضحكة مدوية .. لا يصدق ما يسمع ، فيسألها بمرارة :
- هل مللتني يا سلمى ؟!
تجيبه وهي تنهض بارتباك :
- لا .. ولكن نظام الحياة على وتيرة واحدة ، وكذلك غيابك عنّا طيلة اليوم في عملك ، يجعلني أحياناً أفقد صوابي .. !
يقاطعها باندفاع :
- لكنه عملي .. إنه من أجلك .. وأجل الصغار !
تتابع .. كأنها لم تسمعه :
- تذكر أنه لا صديقات لدي .. ولست من النوع الذي يحبذ العلاقات الاجتماعية ..
يقاطعها من جديد :
- أعلم ذلك ..
- ومنذ تزوجنا لم نسافر ولو لمرة واحدة .. حتى أهلي في الجنوب ، لم أقم بزيارتهم منذ سنوات عديدة ..
تلتقط أنفاسها .. ثم تلتفت إليه لتسأله باستعطاف :
- ألا تريدني بعد ذلك أن أشعر بالاختناق ؟!
- ولكن الأولاد ..
- ماذا بهم ؟
- سيكونون معك بالطبع .. !
تجيب بحزم :
- بل سأرحل وحدي ..
- ومن سيرعاهم في غيابك .. ؟!
- لقد تحدثت مع والدتك بالأمر .. وأبدت استعداداً كاملاً لرعاية الأطفال ..
لم يقتنع :
- لا أحد يعتني بأطفالك مثلك ..
- أدرك هذا .. ولكنها مجرد فترة قصيرة سأزور بها أهلي .. وألوذ إلى نفسي كي أجددها ..
يتنهد ويضرب على ساقه بحنق :
- إذن .. لقد رتبت كل شيء ..
- ولم يتبقَ سوى موافقتك ..
يحاول أن يتأقلم مع قرارها .. فيقول بتشكك :
- وهل تضمنين النتائج ؟
- الأيام شواهد .. وستلاحظ الفرق عندما أعود ..
ينهض ويقترب منها ، ثم يهمس بحنان :
- وأنا .. ألم تفكري بي ؟
تقول له باسمة :
- إنها إجازة قصيرة .. وسأعود إليك مرة أخرى ..
يتردد وهو يستوعب قرارها .. لكنه يقول باستسلام :
- سأخوض معك غمار هذه التجربة حتى النهاية ..
ثم رويداً .. رويداً تنبسط أساريره .. ويقول بسعادة :
- من أجلك فقط .. ومن أجل سعادة هذا البيت ، سأبدأ بإجراءات السفر منذ الآن !
ويتركها وهي تتنهد بارتياح ..
١٤ ـ عودي إلى نفسك .. !
لم يشأ أن يستسلم لرعشة عصفت بقلبه ، ولا إلى ذلك الشتات الذي يهيمن عليه للحظة .. شتات مبعثه مخلوق تجسد فجأة لعينيه المبحلقتين .. مخلوق إما أن يكون قد هبط من الفضاء أو أن الأرض انشقت عنه ..
شعر بأن أنفاسه تتجمد ، وأن خلاياه تنبض في رأسه وأنه يسمع خفقاتها في أذنيه .. وأعصابه .. وحتى دمائه ، وقبل أن يأتي بأي حركة ، حدق للمرة الثانية في المرأة التي وقفت أمامه كالكابوس ، وقالت له بدلال مصطنع :
- أهلا يا عزيزي ، ما بك تقف هكذا .. هيا اقترب .. تفضل ..
تأمل الألوان الصارخة والمضحكة على وجهها ، ونظر إلى شعرها القصير المجعد وإلى ثوبها الأحمر اللامع .. صاح مشدوها :
- أهذه أنت .. أنت يا " أمينة " .. ماذا فعلت بنفسك يا امرأة .. ؟
راحت تتسكع بدلال على أرض الحجرة التي كانت تئن من خطواتها الثقيلة ، كانت تستعرض ملابسها الضيقة حتى شبهت إليه وكأنها كائن لا ينتمي إلى عالم البشر ، خصوصا وهي تمضغ " العلك " بطريقة مستفزة ، قالت تدعي النعومة والرقة :
- كما ترى يا عزيزي .. لقد غيرت من شكلي تماماً ..
جاء اعتراضه على تصرفاتها بقول ساخط :
- ولكنك تعرفين تماماً بأنني رجل تقليدي .. ولا أحب الأصباغ أو مساحيق التجميل ..
تجاهلت هي ملاحظته ، ومالت نحوه بعرض مسرحي تهمس :
- حتى لا تطير إلى غيري .. يا طيري ! .........
ضرب كفاً بكف يحوقل ويستغفر الله :
- أبعد هذه السنوات .. أبعد خمس وعشرين عاماً تخافين أن أذهب لغيرك ؟! ..
تملّكته رغبة عارمة ، كادت أن تدفعه لأن يقهقه طويلاً ، ماذا لو قام بتقطيع شعرها الأشقر هذا .. ومسح وجهها الملطخ بأرطال من الألوان .. ماذا لو صفعها لتعود إلى صوابها ؟! ..
أنعشته الفكرة .. فتأمل قوامها الغليظ وقال :
- ثم من يقدر على التخلص منك .. أيتها .. العصفورة !!
لم تفهم مغزى سخريته ، بل اعتبرتها مديحاً وغزلاً .. فقالت وهي تقلّد عارضات الأزياء بقفزاتها المجنونة :
- إنها مجرد احتياطات أمنية ....
جلس على المقعد يزفر بحدة ، ما الذي يمكن أن يردع هذه المرأة ، إنها لا تكف أبداً عن تقليد الأخريات ، ولا تفهم أبداً أن الحياة ليست مجرد طعام وشراب .. واجتماعات نسائية مدمرة ، ثم متى ستكف عن إرخاء أذنيها لكل ما يقال حولها ، سقط في ذهنه سؤال مباغت .. فأطلقه على مسامعها قائلاً :
- ومن هي العبقرية هذه المرة .. التي أوحت إليك بأفكارها الغريبة .. ؟
أجابته ترفع يدها بادعاء ، بينما هي تدور حوله وتلهب رأسه بصوت كعبها العالي :
- إنها صديقتي هند ، لقد نصحتني بضرورة تغيير لون شعري وتسريحته ، كما أنها علمتني أصول المشي والحديث والاتكيت ، وغداً ستصحبني إن شاء الله إلى أرقى المحلات العالمية في المدينة لشراء أحدث الملابس في الموضة العصرية ..
وضع يده على رأسه وهتف :
- " يا خراب بيتك " يا محمد .. لقد جُنت المرأة ..
ولكن لا .. لا يمكن أن يسكت عن هذا الوضع أبداً ، ولن يدعها تتمادى أكثر من ذلك حتى لا تتسبب بكارثة ، اقترب منها يحاول إقناعها بهدوء :
- يا امرأ ة .. يا امرأة إن ما تفعلينه لا يُقره عاقل أبداً ، لقد تجاوزتِ الأربعون بكثير .. فلا تهيني ذاتك أكثر من هذا .
غضبت من صرامته .. فعارضته بشدة :
- وماذا يعني ذلك ، فأنا ما زلت في مقتبل العمر .. ثم إنني أحاول أن أتغير من أجلك ..
صرخ بحدة لأول مرة :
- لا .. أنت لستِ صغيرة كما تتوهمين ، كما أنك لا تتغيرين من أجلي .. بل أنت تنقادين للأخريات ، انظري إلى نفسك ، لقد جعلتِ منها ألعوبة في أيديهن وأضحوكة لهن ..
صمت ليلتقط أنفاسه ، ثم قال بحدة أقل :
- إنك سيدة رزينة .. فلا سنك ولا قوامك يساعدان على تحقيق مآربهن ، وأولادك .. هل نسيت أولادك .. هل تحبين أن يشاهدونك الآن وأنت أقرب ما تكوني من المهرجين ؟
همست مأخوذة بحديثه ولكنها عاتبة :
- المهرجون .. هل هكذا تراني الآن يا محمد ؟!!
أشفق عليها ، فقال بمودة :
- عودي إلى نفسك يا عزيزتي ، عودي إلى " أمينة " الطيبة العاقلة ، فهي أجمل عندي من كل نساء العالم !. وتذكري جيداً أن جمال الروح والأخلاق أهم من جمال الجسد .. وأنه ليس كل ما يبتدعه سوانا يمكن أن يناسبنا ..
زلزلتها كلماته ، فأرخت ذراعيها .. وتسربت باستحياء إلى حجرتها لتخلع عنها ملابس المهرجين .. وتمسح مساحيقهم المضحكة ..
١٥ ـ حسبي الله ونعم الوكيل
كاد أن يقتحم جدالهما آذان المارة المبعثرة في الطريق ، قالت تستنكر ما هو عازم عليه :
- هل جننت يا رجل .. أتريد أن تلقي بأبيك إلى الشارع ؟
أجابها يتوارى خلف نبرة ارتباك :
- لا .. بالطبع لا .. لن يصل الأمر إلى هذه الدرجة ، لأننا سنأتي به ليعيش هنا معنا ، وسيكون بإمكاننا جميعاً رعايته وخدمته.
قالت تذكره بأمر قد غفله أو تناساه :
- ولكنك تعلم جيداً أن والدك لا يحبذ ذلك ، وكنت قد عرضت عليه الأمر مرات عديدة ، حيث كان يرفض بشدة ويقول بأنه يفضل أن يعيش باقي عمره مع ذكرياته العزيزة مع أمك في ذلك البيت القديم ..
صاح باعتراض متعللاً بإصراره :
- إذن هل يرضيك هذا الشتات الذي نعيشه كل يوم حيث نذهب لزيارته .. ونأخذ له الطعام ، ثم تقومين أنت بخدمته وتنظيف ملابسه ومكانه !!؟ ..
قالت تكشف نواياه :
- على كل أنا لم أشكو من ذلك أبداً ، بل إنني سعيدة بما أفعله لأنني أطلب الأجر من الله .. أما أنت ..
لم تستطع اتهامه ، فلطمها بنظرة حارة يستنطقها قال :
- أنا ماذا .. ؟
قالت بجرأة تواجهه بالحقيقة :
- أنت تريد أن تسبب التعاسة لأبيك .. وتبيع المنزل الذي أصبح كل حياته ..
لم يتحمل هذه المصارحة التي دفعته لأن يبرر مأربه بعناد قائلاً :
- إنه حقي .. هذا البيت إرثي من أمي يرحمها الله ، ويحق لي أن أبيعه وأتصرف به كما يحلو لي .. لأستثمر أمواله في مشروع يؤمن المستقبل لي ولك وللأولاد ..
صاحت باعتراض :
- أنا لا أريد مستقبلاً مؤسساً على سخط والدك وتعاسته يا محمود ..
ما زال الإصرار يغويه .. إلى حد أنه لم يكترث بكلامها .. بل إنه سكب على انتباهتها بجملة عنيدة :
- ولكني مصمم على ما عزمت .. ولن يثنيني شيء عن ذلك .. وليكن ما يكون ..
سكنها اليأس لقوله ، فقالت تنبهه قبل أن يخرج :
- أحب أن أوجه لك كلمة أخيرة قبل أن تخرج يا محمود .. احذر من غضب أبيك .. احذر من غضب أبيك ..
جملتها هزته من الداخل ، ومع ذلك قال متذمراً يشير بيده أثناء خروجه من البيت :
- يوه .. هكذا أنت دائماً .. لا تكفين عن مضايقتي أبداً .. أبداً ..
بعد أسبوعين .. وقع المحظور ، وحدث ما كانت هي تخشاه ، فقد أرغم محمود والده على ترك البيت وقام ببيعه ، فلم يحتمل الرجل الكبير عقوق ولده ، حيث نقل إلى المستشفى وهو في حالة إعياء شديد ، وعندما قامت " هند " بزيارته ، توسلت إليه وهي تبكي شفقة عليه ، وخوفاً من أن يصيبها غضب من الله ، قالت ترجوه :
- عماه .. لا تغضب يا عماه .. أرجوك لا تغضب ..
فكان يتمتم بما جعلها تتوجس خيفة :
- حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل ..
وبعد يومين .. ارتفع رنين الهاتف في منزلها ، كانت تتهيأ للخروج كما هي عادتها كل يوم لزيارة والد زوجها عندما توقفت لترفع السماعة حيث جاءها المشؤوم ، أخبرها المتحدث أن زوجها نقل إلى المستشفى بسبب حادث أليم تعرض له على الطريق ، فأسرعت تطمئن على زوجها ، وفي غرفة العناية راعها مرقده ، كان عبارة عن كتلة بيضاء من الأربطة والجبس .. حتى رأسه كان لا يظهر منه سوى جزء يسير ، اقتربت منه تهزه برفق وتناديه :
- محمود .. محمود ..
شرع عيناه ينظر إليها .. قال بإعياء وحزن :
- هل رأيت ما حدث يا هند .. لقد ضاع كل شيء ، المال .. والسيارة الجديدة .. كل شيء ..
قالت بدهشة :
- ضاع المال كيف ؟
قال يتوكأ على وعيه الشاحب بتأني :
- الرجل الذي كنت أزمع مشاركته في المشروع .. سرق المال وهرب ، وحين ذهبت أبحث عنه في كل مكان .. كنت أقود العربة بسرعة جنونية .. حتى وصلت كما ترين إلى هذا الحال ..
قالت توبخه بينما الحسرة تعتمر قلبها :
- لقد حذرتك يا محمود .. حذرتك من غضب أبيك التعيس الذي يرقد الآن في المستشفى في حالة يُرثى لها ..
قال يندم يبكي :
- نعم .. أنا السبب .. في كل ما حدث لي ولأبي ، ولكني أعدك يا عزيزتي بأن أصلح الأمور قريباً إن شاء الله ، سأبذل كل ما بوسعي لأجمع مدخراتي حتى أعيد البيت لأبي .. بل وسنذهب للعيش معه هناك إذا تطلب الأمر ..
قالت بحزن :
- نعم .. الأفضل أن تسرع بذلك .. حتى ينجلي عنا غضب المولى سبحانه ...
تمتم وهو يغوص في غفوة كانت تشده إلى متاهات الراحة :
- قريباً .. قريباً .. إن شاء الله ..
١٦ ـ نحن .. بحاجة إليكِ
اعترته قشعريرة مباغتة زلزلت جسده الراقد في حضن الفراش ، كان يشرع أهدابه ليتملص من حلمه المزعج .. بينما أنفاسه تتلاحق بلا توقف ، ومن كوب الماء بجواره تجرع رشفات قليلة يعين بها انتباهته على الهدوء ، تمتم يمسح عرقه بشرود :
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله .. اللهم اجعله خيراً ..
جاءه صوت زوجته من الناحية الأخرى وكأنه آت من مكان سحيق ، سألته بقلق :
- عبد الله .. .. ما بكِ يا عبد الله .. ؟
قفز من جوارها دون أن يجيبها ، وبلا إدراك منه توجه على الفور إلى حجرة طفله المغلقة ، حيث أشعل النور وجلس على حافة السرير يسند رأسه الدائخ على راحتيه المرتجفتين ، تنبه إلى يد زوجته بعد لحظات تُمسَّد رأسه ، أخيراًسمع صوتها بوضوح .. قالت له بحنان :
- ماذا هنالك يا عزيزي .. ماذا حدث .. ؟!
أجابها .. وعبرة تخنق صوته الحزين :
- لقد رأيته يا هيفاء ، رأيت " وليد " مرة أخرى ، كان يناديني من شاطئ بعيد .. كان يناديني وهو يبكي ..
جلست إلى جواره تتنهد :
- ألن ننتهي أبدا من هذا الحلم .. لقد مرت أشهر عديدة على رحيله ، وآن الأوان لك لأن تتقبل الواقع والحقيقة المرة ..
صمتت للحظة ثم أردفت بصوت باك :
- إن ابنك مات .. مات يا عبد الله .. !
صرخ بشدة يسكتها :
- لا .. وليد لم يمت ، وليد ما زال هنا .. يسكن في صدري ..
هزتها نبراته المغرقة بالدموع ، فاستنجدته قائلة :
- كفى يا عزيزي .. كفاك تعذيبا لنفسك ولي ، إنها مشيئة الله ، فلا تكلف نفسك أكثر من طاقتها .. يجب أن تنسى ما حدث ..
- شهق شهقة خلع بها قلبها ، قال بهلع :
- وكيف أنسى .. كيف أنسى أنني كنت السبب في موت ابني الوحيد .. ابني الذي يبلغ ثلاث سنوات فقط ، في ذلك اليوم المشؤوم كان نائما مطمئنا في سريره ، وأنا الذي أيقظته من نومه وأرغمته على الذهاب معي إلى السوق .. لم أكن أعلم بأننا سنتعرض إلى حادث مروع في الطريق .. لم أكن أدرك أبدا أنني كنت آخذه بيدي إلى الموت ..
مثل عملاق نائم ، استيقظ حزنها .. قالت تجاريه البكاء :
- ولكن .. حتى أنت تعرضت للأذى يا عبد الله ، وجلست طريح الفراش في المستشفى لأكثر من شهرين ..
قال يضرب بكفيه على ساقيه بجنون :
- ليتني مت .. وبقي هو ..
صاحت تنبهه من غفلته :
- استغفر الله يا عبد الله .. إنك بهذا تعترض على مشيئته سبحانه .
عادت إليه بصيرته .. فتضرع إلى السماء نادما : استغفر الله .. أستغفر الله ...
اقتربت منه تمسح دموعه وتناجيه بحديث تمنت أن بسعده :
- ثم إننا بحاجة إليك الآن ، فمن سيرعانا ويهتم بنا سواك إن بقيت على هذه الحالة ؟
التفت إليها بذهول متسائلا :
- أنتم .. ماذا تقصدين .. أنتم ؟!!
وضعت راحتها على بطنها وقالت بدلال :
- أنا .. ووليدك القادم ..
منذ أشهر طويلة لم يذق للفرح طعما .. ها هي المعجزة تتحقق ، قال له الطبيب قبل مدة أن هيفاء لن تستطيع الحمل قبل سنوات عديدة .. يا لرحمة الله وعنايته ، يا لكرمه الذي سيعوضه عن ابنه الفقيد ، قال بسعادة غير مصدق :
- هل .. هل أنت متأكدة يا عزيزتي ؟
قالت ترمق وجهه المتهلل :
- أجل يا زوجي الحبيب ، فبعد سبعة أشهر ستصبح أبا للمرة الثانية إن شاء الله ..
هذا الخبر ، جعل عبد الله يحيا على أمل جديد .. جعله ينظر بإشراقة وفأل ، لذلك .. لم يعد يباغته الحلم المزعج مرة أخرى ..
١٧ ـ أين المفر ؟! ..
قرية هادئة ما صنعته ، جنة – انبعثت ملامحها – من أعماق فردوس .. كان يتجذر " شموخاً " على أرض الأحلام !!
مناخ ريفي هي – طفولته ، ألقاً في ذاكرته .. أو وهجاً .. كان يتبعثر في خلاياه .. أو يتمدد في جوفه حتى النخاع ..
كانت القرية تعني له – من منطلق الانتماء – ميلاد مترامي ، لا يموت أبداً .. على شواطئ الحياة ، كانت نبعاً .. اغترف من صفائه – بقاءً – ثم تركه " هجراً " .. ليذوي في آفاق التجربة .. !!
لذلك هو يشعر بالتيه .. والتشرد ..
لذلك برح وجه " مريم " الجميل ، مجرد " قناع " بشع من أقنعة الحضارة .. التي حاصرته – في شحوب انبهاره – بأكوام من الأسئلة المستهجنة خنوعه .. !
وأصبح الوجود – في ناظريه – لا يساوي .. زفرة حنين يطلقها – حريقاً – في وحدته .. إلى قريته وأيامه الخالية .. إلى تضاريس أصالته المتوارية في سراديب الأزمان ، ولكن .. ألم تكن المدينة هي طموحه .. ومريم حُلمه !؟ ..
ألم يتطلع إليها – يوماً – على أنها .. مخلوق ساحر خلق في عالم آخر .. جميل .. !
عندما تقدم لخطبتها ، كان يخالها كالأطفال .. عين بريئة ترمقه باستحياء ، ثم تفر خجلا إلى حجرتها ..
لم يكن يدرك أبدا .. أن البراءة يمكن أن تمسخ إلى سلوكيات واهية .. أو تتحول إلى مجموعة هائلة من المساحيق الملونة ، التي تسقطها أول حفنة من المياه ..
لم يكن يعي حجم المغامرة التي أقدم عليها ، إلا حين خطا أولى خطواته نحو المجهول ..
ها هي مريم تتحول إلى إعصار هائج ، يأكل الأخضر واليابس من عمره ..
ها هي تزمجر في محياه كلما أطل عليها من عالمه المزدحم ، لتقول له بخيلاء :
- ستبقى مجرد قروي ، " رجعي " .. لا يلم بأبجديات التمدن .. !
أو قد تصرخ فيه بلا مبالاة :
- لا تتوقع مني أبدا بأن ألغي بروتوكولات الحضارة ، وأهجر هذه الرفاهية .. لأمضي معك إلى قريتك البدائية .. انسي هذا الأمر بتاتا ... !
يتنهد ..
قتلته " مريم " .. ونثرته أشلاء فوق طرقات المدينة !
تحولت – فجأة – إلى تمثال " جامد " ، كان يزين مساحات المنزل الذي أغدق عليه – بكل ذوبان عمره – أموالا .. وأموالا – لهث وراءها طويلا ، ليجمعها من كل صوب .. حتى يرضيها ..
تحولت إلى امرأة باهتة .. هزيلة ، تماما مثل قناديل " المدينة " ..
لم ترحمه أبدا .. ولم تمنحه لحظة هدوء يمكن أن يبعثرها .. في صخب أعماقه ..
وكل ما كانت تجيده هو التبرج .. والثرثرة .. والخواء ، وحين تستقبله كل مساء كانت تسكب على أذنيه ، بأنغام متناقضة لإيقاعات يومها العاصف والمغرق بترهات حمقاء .. فتقول له بقرف :
- لقد كادوا أولادك اليوم أن يفقدوني صوابي ..
وتضيف وهي تكتف ذراعيها بغطرسة :
- وتقول جارتي " أم أحمد " بأن لون سجادة الصالون ، لا يتناسب مع ستائر حجرة الطعام !
ثم تزفر وهي تتناول " صينية الشاي " من الخادمة :
- هل يرضيك بأن يقال أنني زوجة لرجل ريفي .. لا يفقه شيئا من أمور الديكور ؟!
وأخيرا .. قد تنهي كلماتها القاتلة ، بينما هي تغادر المنزل – برفقة السائق – بإصدار أمر جديد :
- لا تنسى السوار الماسي الذي أوصيتك به .. فغدا هو موعد زواج صديقتي " فوفو " ..
آه ه ..
يتأوه بحسرة اقتلعها من صحوة أمل هيمنت على حواسه ..
كم يشتاق إلى عبير " الأوحال " في دروب قريته البعيدة ..
كم يحن إلى وجه أمه " ورائحة العرق في يديها .. ووشاحها .. وكم يرنو إلى الفجر الريفي ، الذي طالما كسى جبينه – بقطرات لؤلؤية من ندى الصباح المنعش ..
قالت له أمه :
" لا تذهب يا بني .. إن المدينة كالبحر الهائج .. لن تقدر على مقاومة أمواجه .. ".
تراوده – بغتة – أفكار شاحبة بالعودة .. لكنه سرعان ما يجفل ويهمس :
- أين المفر .. !
فهؤلاء القوم .. أصبحوا قيدا ثقيلا .. أغلالا قاسية تشده إلى القاع .. برحوا – في غمرة غربته – زنزانته التي لا يقدر على التحرر منها ! ..
زفر .. وفكر .. ثم تساءل ..
" هل يعود وحيدا " ؟!!
تذكر بأن هذه الأمنية أيضا .. منبوذة في قاموس التنفيذ ! فالأفواه والألسنة الحانقة ، سيطلقون في كل صوب بشرر الغيبة والسخرية .. سيقولون : القروي الأحمق .. الذي هجر أولاده وزوجته من أجل بدائيته ..
القروي الذي .. غدر .. وخدع ..
فأين المفر ! .. ؟!
١٨ ـ لن أتخلى عنكَ .. أبداً
لم يعد هناك ما تتمسك به لتبقى ضمن دائرة أسرتها التي شمخت عالياً بأفرادها ؛ لا حياتها الكئيبة .. ولا أطفالها المذعورين .. ولا حتى أحلامها التي تلونت بالسوداوية ورماد الحزن ، وإذا كان زوجها قد انزلق إلى متاهات الفتن .. واعتمرته وساوس إبليس ؛ فيجب أن تنجو بنفسها وأولادها قبل أن يجرفهم معه إلى هاوية الهلاك ..
قبل أسابيع جاءها قرابة الفجر يتمايل طرباً بينما روائح خبيثة تفوح من ثغره الذي يتهوس بالهذيان ، وعندما واجهته بصنيعه البشع راح يكيل عليها بالضرب والشتائم .. متوعداً إياها بحياة بائسة ..
ومنذ أيام فقط ، وقف أمامها يطالبها بالمستحيل .. قال بقسوة :
- عليك أن تخلعي عنك حجابك .. وإلاّ مزقته ومزقتك معه ..
صرخت حينها بشدة ترفض الاستسلام له :
- هل تريدني أن أخلع حجابي ؟ .. أتريدني أن أظهر عارية أمام الناس ، لا .. لن أفعل حتى وإن قتلتني .. !
قال بإصرار يمارس عليها ضغوطه :
- بل ستفعلين ، فأنا الآن رجل عصري متحضر ، وحجابك هذا ليس إلا رمزا للبدائية والتخلف .. وسوف يسيء لي في علاقاتي الاجتماعية ..
لقد فاض الكيل بها ، ولم يعد للصبر من داع في هذه الأجواء الملوثة ، لهذا قررت أن تترك مملكتها المتداعية .. هشيم الجلد المنحرف بأهواء زوجها وعبثه عن جادة الحق ، يا إلهي كم تغير سالم .. الزوج العطوف الودود ..
الرجل الفاضل الذي كان يذكرها ويبصرها كلما غفلت أو أخطأت ، أجل .. تبدل سالم كليا منذ أن تعرف على " هاني " ورفاقه .. عصبة ضالة .. وشرذمة منحرفة تلطخت مبادئه بقناعاتهم الهدامة .. تنهدت تفيق من ذكرياتها ، وهي تعد حقيبتها هامسة :
- إنا لله وإنا إليه راجعون ..
ثم هتفت تنظر إلى ساعتها بقلق :
- ولكن لماذا تأخر أخي راشد .. لقد وعد أن يأتي ويصحبني إلى بيت أبي .
فجأة سمعت حراكا بالجوار .. التفتت فإذا بسالم يقف إلى جانب الباب في حالة مزرية ، كان واهنا وحزينا .. وقطرات من العرق تبلل جبينه المتعب ، كان يبدو مسالما على غير عادته ، ومع ذلك انتفضت حين أشار إلى حقيبتها متسائلا .
- ما هذا .. ماذا تفعلين .. ؟
قالت بارتباك وفزع :
- إني راحلة .. سأذهب إلى منزل أبي ..
توقعت منه أن يثور ويغضب .. أن ينهال عليها باللكمات والكلمات النابية كعهده مؤخرا ، ولكنه بدلا من ذلك هز رأسه بأسى وانسحب إلى حجرته يبحث عن عزلة موائمة ، تعجبت هي لصمته .. لسكوته عن رحيلها ، فتتبعته لتقف على حقيقة الأمر ، فراعها مشهده ، حيث كان يجلس على حافة السرير ويبكي بمرارة .. يبكي وكأن المصائب قد حطت على رأسه دفعة واحدة ، آلمها مرآه ، فاقتربت منه بتردد .. ثم سألته أخيرا :
- سالم .. لماذا تبكي يا سالم .. ماذا حدث .. وأين كنت ؟
قال بصوت يخنقه البكاء :
- آه .. لو تعلمين ماذا حدث .. وأين كنت ، لقد كنت في المسجد .. في بيت الله ..
تراجعت خطوة للوراء بذهول :
- ماذا ! .. في المسجد ؟ .. لا أصدق .. كيف حدث هذا ؟
أردف محاولا أن بشرح لها الأمر باختصار :
- لقد تعرض صديقي هاني اليوم لحادث مروع على الطريق قضى نحبه فيه ، وكان قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي يبكي وهو يقول لي : " لا أدري كيف سأقابل الله يا سالم ، وماذا سأقول له سبحانه إن سألني عن معاصيي وذنوبي ".
لم أدر إلا والأرض تميد بي .. والنهار أصبح ظلاما في عيني ، فسرت هائما على وجهي في الطرقات وأنا شبه مصدوم فقط أفكر بكلام هاني وأبكي ، حتى هدتني خطاي إلى أحد المساجد حيث صليت والتقيت بشيخ فاضل .. آلمه بكائي ، فسألني عن سر حزني – وألح علي – حتى أخبرته بكل شيء ، ولم يدعني الشيخ الكريم أمضي حتى حدثني بحديث عذب زلزل كياني وأشاع السكينة في قلبي بل وأزال الغشاوة عن عيني ، لقد كنت ضالا وعاصيا .. وأرجو أن يغفر الله لي .
ثم التفت إليها برجاء :
- وأنت أيضا يا عزيزتي .. أرجوك أن تسامحيني وتبقي معي .. فأنا بأمس الحاجة إلى وجودك بجانبي الآن ..
قالت له بمودة تخفف عنه :
- لا تقلق يا عزيزي لن أتخلى عنك أبدا .. طالما أنك عدت إلى رشدك ..
سعادة خفية كانت تتسرب إلى أعماقها ، فتمتمت بتضرع : الحمد لله .. الحمد لله ...
١٩ ـ قبل أن يقسو قلبه عليها ..
ما زال غاضباً .. يظهر هذا جلياً على وجهه المكفَهَّر ، وقَسماتِه العابسة ، لاسيما حين تقدم إلى وسط القاعة يلقي بمفاتيحه بعنف على الأريكة وهو يقول بجفاء :
- السلام عليكم ..
ما كادت هي أن تسمع تحيته ، حتى بادرته بترحيب ومودة ..
- أهلاً بسيد الرجال .. أهلاً بحبيبي ونور عيني .. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ...
لابد وأن تكسر حدة غضبه وبأي طريقة ، هذا ما فكرت به وهي تسأله بدلال :
- ألا تريد أن تغير ملابسك يا عزيزي ، ريثما أجهز الطعام .. فقد ط___ُ لك اليوم طبقك المفضل ... !
تمتم باقتضاب لا ينظر إليها :
- حسناً .. ولكن أسرعي ، فأنا أتضور من الجوع .. !
على المائدة .. وأثناء تناولهما للطعام ، حاولت هي أن تدللـه أكثر من العادة ، فكانت تُلقمه بين الحين والآخر بملعقة أرز أو بقطعة صغيرة من الدجاج ، رغم أنه كان يشيح برأسه عنها أحيانا .. رافضا محاولاتها ليشعرها بالذنب .. ولم يكتف بذلك .. بل إنه ما كاد أن بتذوق من الطبق الرئيسي حتى قال يحنق يثيرها :
- ما هذا يا ست بدرية .. إن طعامك مالح .. !
ماذا .. مالح ! .. حسنا .. إنه يتلكأ .. أجل ، فالطعام جيد .. بل إنه ممتاز ، ولكن عليها إما أن تصمت أو تجادله ، ففضلت مسايرته بعد أن ابتلعت تعليقه على مضض ، وقالت تطلق على مسامعه بجملة كانت غير مقتنعة بها :
- نعم .. .. معك حق يا عزيزي ، يبدو أنني قد اكثرت من مقدار الملح على الطعام .. سأحضر لك القهوة ..
أجاب يستفزها وهو ينهض عن المائدة يصطنع الغضب :
- يفضل هذا .. قبل أن أفقد أعصابي ...
دخلت إلى المطبخ تجر أذيال الخيبة لتعامله الفظ معها ، فكل مساعيها لمصالحته منذ يومين باءت بالفشل ، وعليها أن تسرع بردم الفجوة بينهما قبل أن تتسع وقبل أن يقسو قلبه عليها .. وبينما كانت تعد القهوة له ، تذكرت ما بدر منها وأشعل شرارة الخصام بينهما ، لم تر زوجها بمثل هذا الغضب من قبل .. كان ثائرا إلى حد أنها لاذت للصمت ولم تستطع مناقشته ...
بدأت القصة عندما كانت تتأهب هي وراشد للخروج من المنزل في نزهة جميلة .. قال لها في ذلك المساء وإمارات الكآبة والإجهاد باديان عليه بوضوح :
- فلنخرج إلى أي مكان ، أريد أن أجدد نشاطي بين أحضان الطبيعة ، كما أن مزاجي اليوم لا يسمح باستقبال أو زيارة أحد .. ولكنها غفلت عن ذلك ، فحين اتصلت صديقتها " نورة " قبل خروجهما بدقائق .. تخبرها عن عزمها هي وزوجها " حمود " لزيارتهما ، لم تقدر على الاعتذار .. فرحبت بهما ، وألغت الرحلة دون أن تستشير زوجها ، مما جعل راشد يستشيط غيظا خصوصا وأنه لا يميل إلى مصاحبة " حمود " زوج صديقتها الثرثار ..
أيقظها من شرودها فوران القهوة على النار .. همست وهي تصبها في الفنجال متنهدة :
- يبدو أنه لا مفر من المواجهة والاعتذار .. وربما عدم اعتذاري إليه هو ما يغضبه حتى الآن ..
جلست تراقبه يرتشف من ق___ه ، حيث قالت فجأة .. وبدون مقدمات :
- راشد .. إنني أعتذر يا عزيزي عما بدر مني منذ يومين ..
وضع فنجاله جانبا ، ونظر إليها للحظات محاولا أن يرسم ابتسامة رضا على شفتيه .. قال :
- لقد تأخر اعتذارك ليومين ، ومع ذلك عليك أن تدركي جيدا بأنني كنت في ذلك اليوم مجهدا للغاية بسبب العمل الشاق طيلة الأسبوع ، ولم أكن مهيئا أبدا لثرثرة حمود الفارغة .. إلا أنني استقبلته ببشاشة حتى لا أضعك في مأزق حرج أمام صديقتك وزوجها !
ابتسمت إليه بمودة .. قائلة بامتنان :
- أقدر لك موقفك هذا .. وأعدك أن لا يتكرر ما حدث مرة أخرى ..
اطمأنت نفسه لوعدها .. ثم قال ضاحكا يبدد غيوم الهم من حولهما :
- بالمناسبة .. الطعام اليوم كان لذيذا .. ولا يعيبه شيء ...
٢٠ ـ مائة سؤال .. وسؤال
يعاندها .. يتأبط صمتها بحفنة عبارات ساخطة تلهب الهم في صدرها .. ثم يتحرش صبرها ببروده ويدعها تذوب مثل شمعة تحترق ضياءً ..
كانت في هطول قسوته تدّعي عدم الفهم أو اللامبالاة حتى يسكنه القهر .. فيحمل جسده بعيداً عنها ليزرعه في تربة الليل ، أو على أرصفة السهر حيث تتسكع خطا أصحابه في جوف الظلام ، ليعود .. أولا يعود إليها ، المهم أن يثير مقتها ... وكراهيتها .. وكل حقدها ، عله يشدها إلى النهاية لتُفرج عنه .. لتحرره بعد أن دُفع دفعاً للزواج بها .. وبعد أن مشي معها طريقاً كان لا يريد المضي به أبداً ..
ولكن ليته بعلم ذلك الغارق في أتون القسوة .. كم يخفق قلبها لطيفة .. كم تنغرس ذكراه في جمجمتها .. وعظامها ، ليته يدرك كم هي على قاب قوسين أو أدنى من الجنون .. ذاك الذي يباغتها في لحظات الحيرة ويكوم في حدقتها مئة سؤال .. وسؤال : لماذا يفعل بها ذلك .. وكيف تُنجيه وتنجو بنفسها من هذيانه .. وأين طوق النجاة في العواصف العاتية التي تموج بها بحاره الصاخبة !!؟
على ذلك النحو من الشتات تقضي أمسياتها ، تتسر بل الألم .. وتتلحف الظلام منتظرة فجر مغاير يعقب ليلها السمردي ..
وفي أوقات كثيرة .. كانت تعود إلى البداية .. إلى أيام الصبا المشرقة ، حيث كانت حسناء يانعة ينبض قلبها الغض .. بالحياة .. والأمل .. وبوجه " سامح " ابن خالتها الوسيم ، قالت لها خالتها تضمها بحنان لتطلق شرارتها في الحريق المتأجج حاليا :
- أنت جميلة الجميلات يا فاتن .. ولن تكوني إلا لإبني إن شاء الله ..
أوقفت حينئذ حلم المرأة العنيدة بجملة حاسمة .. قالت تحاول الرفض :
- ولكني سمعت يا خالتي أن " سامح " متعلق بآمال ابنة عمه ويريد خطبتها .. لا يا خالتي .. لن أتزوج وفتاة غيري تسكن قلبه ...
قالت خالتها بعناد :
- لن تكون ابنة " مريم " له ما دمت حية على الأرض ... وأنت ستكونين زوجته .. يعني ستكونين زوجته ... !!
في ذلك الزمن كانت في صراع مع الفرح والخوف ، بين أن تكون له وتسعد قلبها وترضي خالتها ، وبين أن تحكم على نفسها بالشقاء ...
تلك هي الحقيقة ، ما تزوجها " سامح " إلا لينال رضا أمه الغاضبة .. ولعله أراد أن يثأر منها لأنها السبب في حرمانه من حبه القديم ، أجل .. سامح لم يكن ليحبها أبدا حتى وإن كانت تهيم به عشقا ، إذن .. فما الذي يحدوها على البقاء في عمره .. وما هذا الذي يرغمها على أن تظل ذليلة في عتمة حياته مثل شيء يملكه ويرميه في سرداب مقفل .. أهو الحب ؟. لا تريده فنيران فراقه خيرا من هذا العذاب الذي تتجرع منه سم الحياة حتى الموت ..
على غير عادته .. عاد مبكرا في تلك الليلة ليأخذ أوراقا ويمضي ، كانت هي قد انتهت لتوها من جمع أغراضها الخاصة وعلى وشك أن تخطو خطوة واحدة لتخرج من حياته إلى الأبد .. لكنه وكالعادة بادرها بسخرية لاذعة :
- إلى أين يا سيدة .. هل أنت عازمة على الهجرة .. أم السفر إلى مكان لا عودة منه ؟
لم تجبه متحاشية الشجار ، فاقترب منها مغاضبا يهزها بعنف :
- إنني أكلمك .. فلم لا تجيبين .. هل أصابك الخرس ؟؟
لم تحسب حسابا أن تفاجئها دموعها على هذا الشكل وفي أول مواجهة بينهما ، قالت بخوف وبصوت مخنوق :
- إنني ذاهبة إلى بيت أبي .. كي أريحك مني ..
- قال يمعن في تجريحها : ولماذا لم تفعلينها من قبل .. لماذا الآن .. ؟
أجابته وهي تجاهد لكبح جماح دموعها :
- لم يفت الأوان بعد يا سامح .. يمكنك أن تطلقني وتتزوج آمال .. فهي ما زالت تنتظرك .. وصدقني .. سأبارك هذا الزواج بنفس راضية ..
حديثها صفعه بذهول قاتل .. وعلى غير توقع منها .. وجدت ملامحه القاسية تنبسط وتتبدل .. وكأن وجها آخر أشد لطفا حل محل محياه المستبد .. قال بشرود :
- لا فائدة يا فاتن .. حتى آمال لا أريدها .. كانت مجرد حلم وانتهى ..
سألته بلطف تحاول إقناعه : لماذا يا عزيزي .. أليست هي من يحتل قلبك منذ زمن .. فلم لا تحقق حلمك القديم ؟
الفرصة تأتيه على طبق من ذهب – لكنه بدا غير متحمس لها .. كل ما كان يحيره هي تلك التي تقف أمامه ، نظر إليها .. تأملها مطولا .. ولم تفهم هي معنى نظرته .. ولم تعلم بأنه يطالعها وكأنه يراها لأول مرة .. كان يحاول استشفاق ما بداخلها .. ليمسك حزنها بيديه ويكفر عن جريمته في حقها ، شعر فجأة بأنها مخلوق جميل وساحر .. مخلوق كان هو يتلذذ بتعذيبه .. حينئذ تفجر في رأسه سؤال غريب ، قال بعد أن تنهد :
- أأنت تقولين ذلك فاتن .. أأنت من يدفعني إليها .. إلى غريمتك .. !!!
قالت بحزن : المهم أن تجد ضالتك من السعادة .. وطالما أنت سعيد .. إذن فأنا أسعد إنسانة في الوجود ..
قال بشرود : أرأيت يا فاتن .. لست أنا فقط .. أنت أيضا لم تحبيني يوما !
صرخت بجنون : لا يا سامح .. أنت مخطئ .. ولا تعلم من تكون أنت بالنسبة لي .. إنني أحمل لك أجمل المشاعر .. حتى آمال لا يمكن أن تحبك مثلي ..
سألها بدهشة : إذن .. لماذا ترحلين .. ؟
قالت تبكي بمرارة : لأمنحك فرصة لم تعط قبلها .. كي تحقق أجمل حلم في حياتك ..
قال يبتسم لها ابتسامة دافئة وهو يحتضن وجهها بعينيه الحانيتين :
- أتعلمين .. منذ الآن وصاعدا ستصبحين أنت أجمل حلم في حياتي ..
أوشكت على الإغماء .. لم تدر ماذا تفعل .. أتضحك أم تبكي أم تصرخ .. تلعثمت وجهها يحمر خجلا : ماذا .. كيف .. ؟!!
همس يرمق المدى مغلقا أهدابه كستار ينزل على قصة قديمة :
- لأنني اكتشفت الآن .. الآن فقط .. أنني أهيم بك أيضا ..
◽️◽️
📚 تم تحريره من كتاب ( حكايات خلف الأبواب )
سحر الناجي
🔗 حكايات خلف الأبواب (١-١٠)
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق