الجمعة، 23 سبتمبر 2016

قطعة حلوى


قطعة حلوى

سارع السائق الأسيوي إلى حمل تلك الحقيبة من بين أصابع مخدومه القابضة عليها بإحكام..

فتح الباب الخفي..

صعد حسن للسيارة وأغلق السائق الباب..

ثم انطلق بتلك السيارة الشبح يسابق قوافل السيارات المكتظة بها شوارع المدينة..

وضع حسن نظارته الشمسية على عينيه فأضاف إلى سمته شيئاً من العنجهية.. تلك العنجهية التي تبدو ظاهرة على قسمات أصحاب الملايين..

فجأة توقفت السيارة عند بوابة فيلا بادية الفخامة..

ترجل ذلك السائق وفتح الباب الخلفي.. ترجل حسن بدوره وعندما هم السائق بحمل الحقيبة أشار له بحركةٍ جعلته يتوقف ثم عاد إلى السيارة وظل فيها قابعاً بسكون ينتظر عودة سيده..

دلف حسن إلى الفيلا من تلك البوابة الأنيقة.. بعد لحظات كان يتوسط حجرة امتلأت جدرانها بلوحات زيتية وكان أثاث الحجرة يتناسب مع المظهر الخارجي للفيلا.

كان يجلس مع رجل آخر تتوسطهما طاولة وضع عليها كم هائل من الأوراق

كان أيضاً هناك ثلاثة أشخاص يشاركون حسن ومضيفه تلك الحجرة

كان كل منهم يكاد يلتهم حسن بنظراته التي ارتسم فيها الإعجاب والإكبار،

بعد لحظات كانا قد أنهيا توقيع الأوراق التي أمامهما.. جُمعت تلك الأوراق وعادت إلى حقيبة حسن.

في هذه الأثناء دخل طفل لا يتجاوز الخامسة من عمره.. كان يضع في فمه قطعة حلوى كساها اللون الأحمر تفوح منها رائحة فاكهة التوت النفاذة التي يمكن لحاسة الشم أن تلتقتها عن بعد..
كان يمسك بطرف الأنبوب البلاستيكي الذي وضعت تلك القطعة في طرفه الآخر يخرجها ويدخلها إلى فمه بطريقة طفولية تنم عن البهجة والاستمتاع..
وكان يمسك في اليد الأخرى بقطعة شبيهة ما تزال في غلافها الشفاف

قال المضيف لطفله بشيء من الترحيب.. أهلاً برجل الأعمال الصغير
كم مرة قلت لهم لا تجعلوه يقطع علي لحظات عملي ولكن !! ثم أبتسم وضم طفله إليه بحنان وطبع على خده قبلة حارة.. نظر حسن لقطعة الحلوى بشيء من الشرود وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة وقورة.

ياااه.. إن قطعة الحلوى هذه قد أعاده منظرها إلى ذكريات جميلة.. رأى نفسه وهو طفل يمسك بقطعة شبيهة بهذه القطعة المسماة في زمانه (حلوى المصاص) لا يعرف ماذا يسميها جيل اليوم.. بل لا يعرف اختلف طعمها أم لا.. شكلها يختلف قليلاً عن تلك الحلوى التي طالما عشقها.. ولكنها شبيهة بها إلى حد كبير..
تذوق بلسان ذاكرته طعمها الحلو النكهة يملأ أرجاء حاسته الذوقية.. مص شفتيه بطريقة تلقائية وازدرد لعابه.. تذكر نفسه عندما كان يبكي للحصول على ثمن قطعة أو قطعتين من هذه الحلوى التي طالما شعر بأنها غاية مناه ومنتهى رضاه
تذكر والده الذي كان يفاجئه بقطعة منها عند عودته لمنزلهم الشعبي المتواضع الذي يساوي حنينه إليه كل الفلل التي عرفها..

ياااه كان والده فقيراً ولكنه كان يمنحه هو وأخوته ثروة من العاطفة الأبوية الدقاقة.. يوفر لهم ما يحبونه إذا توفر بين يديه – اللتين أضناهما الكد والتعب – المال.

اكتشف أنه لم يفكر مثل والده، منذ أن أصبح المال يتدفق بين أنامله التي لا تكل ولا تمل من البحث عن المزيد.

إنه لم يُهد لولديه في يوم من الأيام الحلوى التي تروق لهما..

اكتشف في هذه اللحظة بعده عنهما لدرجة جهله بما يحبان..

لقد اكتشف أنه في رحلة سباقة مع ذاته نسى كل شيء.. حتى نسي في ذلك الخضم نفسه.
أهمل كل شيء.. حتى اهتمامات ولديه.

إنه ليس مثل والده صاحب الحضن الدافئ.. فحضنه بارد كقطع الجليد.. يهرب من هذا الحضن حتى أقرب الناس له.

عاد مرة أخرى إلى استرجاع ملامح الطفولة المندثرة المعالم
تذكر أنه في يوم ما قال لأصحابه: عندما أكبر سأمتلك مالاً كثيراً.. وسأشتري ألف قطعة من حلوى المصاص.. وأهديكم منها الكثير.

لقد حقق الجزء الأول.. حقق أمنيته وامتلك المال..
ولكنه نسي الجزء الثاني وهو وعده لأصحابه..

ترى أين هم أصحابه الآن؟.. هل انتظروا منه تحقيق وعده؟

لو لقيهم لقال لهم معتذراً: أنا لم أهد الحلوى حتى لأولادي.. كادت دمعة أن تتدحرج على خده.. ولكنه انتبه فجأة.. ورفع رأسه للأعلى في محاولة منه لمنعها من السقوط.. لقد أعادته تلك القطعة إلى ذكريات تكمن داخل ذاكرة طفل يستقر في أعماقه.. استيقظ هذا الطفل فجأة أحس بشعور لم يستطع مقاومته عندما اقترب منه ابن مضيفه.. أفاق على صوت المضيف وهو يقول:

ـ ( أبو محمد أين ذهبت ) ؟

تجاهل تلك الكلمات.. أمسك بذلك الطفل.. طبع على خده قبله..

ثم لم يستطع مقاومة ذلك الشعور أكثر.. أمسك بقطعة الحلوى المغلفة قائلاً بابتسامة حنونة:

ـ هل تسمح؟

لم ينتظر الجواب.. نزع غلافها ثم دسها في فمه وأغمض عينيه.. وأراح ظهره إلى الوراء.

كأنما هو يتذكر أحلام الطفولة
كأنما هو يتذكر وعده لأصحابه
كأنما هو يستعيد نفسه من نفسه
كأنما هو يسافر عبر الزمن
كأنما هو يريد ينسى كل ما يطوق عنقه من أعباء.

دسها في فمه وسط دهشة مضيفه.. والأشخاص الثلاثة..
وتجهم ذلك الطفل الذي شعر بأن حلواه انتزعت منه انتزاعاً ..

فعل ذلك ضارباً بكل أصول الإتيكيت.. عرض الحائط.


وقفة :
يروق لنا أحياناً أن نوقظ ذلك الطفل الكامن في الأعماق ونعود ونلعب مع ذكرياته من جديد.

◽️◽️

أمل علي – الطائف
مجلة حياة العدد (٦٣) رجب ١٤٢٦ هـ

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق