الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

أنا هي، وهي أنا ...... ولكن..




- أمي.. لن تصدقي ما الذي حصل لي اليوم.. أنا نفسي لا أصدق!..

أجابتها أمها بهدوئها المعتاد:
- أهلاً غاليتي.. عدت من المدرسة 
إذن.. ؟

لم تلق بالاً لحديث أمها، واستمرت بانفعال..
- أمي .. أنا لن أستطيع احتمال معلمة الرسم هذه أكثر من هذا..

- اخلعي حذاءك، وضعي حقيبتك يا عزيزتي..

زاد صوتها حدة.. وبدت ظلال الدموع في عينيها هذه المرة..
- أمي.. ألم يخبرونا أن الرسم فنّ نعبر به عن أحاسيسنا.. عن أصداء مشاعرنا؟ ألم يخبرونا أننا حين نرسم.. فنحن لا نجسد ما حولنا فقط ، بل.. نجسده حسبما نراه ونشعر به؟..

ثم سكتت.. لترى وقع كلماتها على أمها، وأضافت مسرعة قبل أن تتحدث أمها..
- أليس الرسم – في تعبيره عما في داخلنا- كالشعر؟!..

قالت كلمتها الأخيرة وألقت كراستها على الأرض بقوة..

التفتت إليها أمها وهي تحاول أن تخفي ابتسامتها.. واحتوتها بنظراتها الحانية..
- ما الذي حصل يا حبيبتي رنيم؟

- أمي.. الموضوع جدي هذه المرة.. لقد طلبت منا هذه المعلمة أن نرسم شاطئ البحر.. رسمته يا أمي.. وجعلتُ مياه البحر تلامس الرمال بعشوائية مثلما أراها على الطبيعة، ونثرت على رمال الشاطئ أصدافاً ملونة جميلة..
توقفت قليلاً وكأنها تتذكر.. ثم أكملت..
- أخذت هذه المعلمة رسمتي.. وجعلت تنظر إليها بتعجب، ثم صرخت في وجهي: ((رسمتك عشوائية!.. ألم أخبركم أن ترسموا الحد الفاصل بين البحر والرمال؟ وأن تجعلوا الأصداف منثورة بانتظام؟.. لم الفوضوية إذن؟!.. ))
فوجئتُ يا أمي!.. وأخبرتها أن البحر والرمال.. يلتقيان مع بعضهما دون فواصل، وأن الأصداف لا يمكن أن تكون منتظمة، لأن المدّ يبعثرها، وأننا.. ))

تأملت سحر ابنتها ذات الاثني عشر ربيعاً.. وهي تتحدث بانفعال، وظلال الدموع الحبيسة لا تزال في عينيها.. 
خيل إليها أنها قد رأت هذا الموقف من قبل، وسمعت هذه الكلمات.. ليس من ابنتها ولكن.. منها هي.. ربما اختلف الموضوع حينها، واختلف الزمان والمكان.. ولكن الموقف والكلمات، بل وحتى الانفعالات.. لا زالت هي..
في أحايين كثيرة.. تشعر أن ذاكرتها تخلط بين طفولتها هي.. وبين طفلتها..
فرنيم منذ وُلدت.. والجميع يقول: ستكبر هذه الطفلة.. لتصبح جميلة كأمها.. جميلة.. كسحر.. ولكنها هي - سحر.. أدركت ما لم يدركوه هم.. فكل يوم يمضي وتكبر فيه رنيم.. تدرك أنها لا ترى فيها صورتها فقط، بل ترى في ابنتها أعماقها هي عندما كانت في مثل سنها..
ترى فيها رقتها البالغة وشخصيتها القوية.. ترى فيها كبرياءها الظاهر.. ترى فيها انفعالاتها وسكناتها..
وعندما تنظر إليها.. إلى بريق الذكاء في عينيها، وإلى ابتسامتها المشرقة يُخيل إليها أنها تنظر إلى المرآة.. 
ولكن.. قبل ستة عشر عاماً..
لذا.. لم تستغرب عندما استدعتها المدْرسة.. لتخبرها أن تفكير ابنتها يفوق عمرها، وأنها يجب أن تنتقل إلى مرحلة دراسية أعلى..
ولم تستغرب عندما كانت ابنتها وهي في السابعة من عمرها.. تقود صويحباتها إلى غرفة المديرة، لتعترض على نظام الدراسة الرتيب..!
ربما كان هناك اختلاف بسيط بينها وبين رنيم، فهي.. كانت قد وجهت تعبيرها عن أحاسيسها إلى الشعر، أما رنيم.. فوجهت طاقاتها الإبداعية إلى الرسم..
ولكن.. ثمة اختلاف آخر.. اختلاف قد يكون أكبر من هذا، ولا يمكن تجاهله، ولكنها لا تريد أن تتذكره.. تحاول جاهدة أن تتجاهله.. أن تهرب منه..
لذا.. عادت ووجهت نظرتها إلى ابنتها بعد أن سرحت بأفكارها بعيداً.. وعاد صوت رنيم يتردد..

- وعندما لم تقتنع يا أمي.. ذهبتُ إلى معلمة الجغرافيا، وطلبتُ منها أن تشرح لها.. كيف أن حركة المدّ والجزر.. تحدث باستمرار وأننا بسبب ذلك لا يمكن أن نرى أصداف الشاطئ منتظمة في خط مستقيم..

- حسناً فعلتِ يا رنيم..

- نعم حسناً فعلت.. ولكنني قاسيتُ الأمرّين..
قالتها بصوت متهدج، وأدارت ظهرها لأمها، وأسرعت متجهة إلى غرفتها..

هزت سحر رأسها وابتسامتها لا تزال مرتسمة على شفتيها.. وعادت تقرأ في كتابها من جديد..
لم تلحق بابنتها.. ليس لأنها لا تهتم بها، ولكن.. لأنها تعرفها، وتعرف نفسها جيداً !..
فهي لا تحب أن يرى أحد دموعها مهما كان، وهي تعرف أن الناس مهما أخطأوا في حقها.. فهي ستسامحهم..

- - -

ترررن.. ترررن..

أخذت سحر تبحث عن جهازها النقال بين أكوام الملفات والأوراق المبعثرة على مكتبها.. ((هاهو!))..

- ألو.. أمي السلام عليكم.. عدت من المدرسة ولم أجدك في المنزل، فخمنت أنك مازلت في العمل..

كانت رنيم تتحدث بسرعة وانفعال.. حتى شعرت أمها.. أن جهازها يكاد يهتز طرباً مع صوت ابنتها المفعم بالفرح..

- وعليكم السلام.. أهلاً رنيـ ..

- أمي!.. لم ستطع انتظار وصولك للمنزل لأخبرك بما حصل..

- خيراً يا حبيبتي.. ؟

- بل كل الخير يا أمي.. فاليوم.. يوم حافل بالأخبار السعيدة والمثيرة والراااائعة!..
صمتت قليلاً ثم تابعت..
- لك يا أمي أن تفخري بابنتك.. أتذكرين تلك الرسومات التي اجتهدت في رسمها وبذلت لها الكثير من وقتي؟.. لقد عرضتها اليوم على معلمة الرسم وقد أُعجبت بها بل بُهرت.. وقالت أنها لن تجد رسومات أجدر منها أن تنشر في ((معرض المواهب)).. وستضعها في الركن الرئيسي للمعرض..

- حقاً؟!.. هذا أمر مذهل يا حبيبتي وأجمل خبر سمعته أذنايَ اليوم..

- مهلاً يا أمي.. ليس هذا فحسب بل.. لقد اختارت الإدارة فصلنا من بين فصول المدرسة كلها على أنه.. .
سكتت رنيم لحظة ثم.. وبكل ما تملك من فخرٍ..
- فصل المبدعااااات!..

- رااائع جداً يا .. .

- رويدك أمي.. ولأننا فصل رائع ومبدع و.. . و.. . إلخ، فقد قررت إدارة المدرسة أن تكافئنا على ذلك.. بأن تأخذنا في رحلات إلى المنشآت التعليمية التي قد نقصدها بإذن الله عندما نكبر ونتخرج من المدرسة،
ووزعوا علينا أوراقاً تحمل أسئلة عن ميولنا والمواد التي نفضلها، والأهم يا أمي.. عما تتمنى كل واحدة منا أن تصبحه في المستقبل بإذن الله!.. وأنا.. كوني أشبه أمي الحبيبة كثيراً، أقصد الدكتورة سحر.. فمن البديهي أن أصبح طبيبة!..

وهدأت نبرات رنيم.. هدوءاً.. قد يكون في تعبيره عن الفرح.. أبلغ من أي حديث..

ولسببٍ ما.. هدأت سحر أيضاً.. وصمتت..

- ألو.. أمي.. أما زلت معي على الخط؟!..

- نعم.. نعم يا غاليتي، هنيئاً لك ولفصلك كل هذا..

قالتها بنبرة غريبة.. نبرة.. تلاشت منها نغمات الفرح والسعادة..

- ما بك أمي؟..

- لا شيء.. لا شيء يا رنيم.. ولكن.. لديّ عمل كثير اليوم..

- عموماً أمي.. سنؤجل مناقشة موضوع ((الدكتورة رنيم)) لحين عودتك..
وضحكت ضحكة صغيرة.. وما كادت سحر تسمع ضحكات ابنتها حتى تسارعت نبضات قلبها..
- حسناً عزيزتي.. إلى اللقاء..
أغلقت الخط.. وأطرقت تفكر.. ربما حان الوقت الآن.. لكي تواجه كل ما هربت منه..

- -

بياض السرير يشي بالطهر والنقاء..
طهر ذلك الجسد المسجى عليه.. ورائحة المعقمات والأدوية تزكم الأنوف.. والصمت يلف المكان.. وسحر.. تشعر أنها غريبة.. هي وابنتها عن كل هذا..
منذ ثلاثة أيام.. وهي على هذه الحال.. قابعة هنا.. تبكي بصمت.. وتنتحب بهدوء.. تراقب ابنتها الراقدة في غيبوبة..
نظرت سحر إلى ابنتها بعينين مثقلتين بالدموع.. كانت ترى ملامح الحزن على ذلك الوجه الصغير الجميل..
لم تعرف لم فوجئت هكذا عندما أخبرتها ابنتها – ولأول مرة- أنها تريد أن تصبح طبيبة..
كان يجب عليها أن تتوقع هذا .. ولم تدر لم كانت تحاول أن تقنع نفسها دائماً.. أن ابنتها ستكون رسامة.. رسامة فقط.. بالرغم من أنها تعرف جيداً.. أن طموح رنيم.. كطموحها هي.. لا حدود له..
ولكن طموحها مختلف.. لأنها هي مختلفة.. أو بالأحرى.. لأن ابنتها مختلفة..
هي.. كانت تستطيع.. بكل جدارة وكفاءة.. أن تكون طبيبة وشاعرة، كانت مؤهلاتها تسمح بذلك..
أما رنيم.. ابنتها، فلا.. لا يمكن أن تكون طبيبة!..
ليس لأنها لا تستحق.. ولكن.. لأنها.. لأن رنيم.. وبكل ما تحمله الكلمة من قسوة..
مقعدة!..
كان يجب عليها أن تواجه هذه الحقيقة منذ أن كانت رنيم في الثانية من عمرها..
لم تجزع أو تنهار كما توقع الجميع.. بل صمدت.. وواجهت الموقف بشجاعة لم تتصورها..
ويبدو أنها تناست هذه الحقيقة عندما أدخلت ابنتها إلى المدرسة، وهيأت لها جواً يُعنى بمشاعرها ولا يُشعرها بأي نقص أو عيب..
فنشأت رنيم محاطة بهالة من الكبرياء والشموخ تمنعها من قبول المساعدة.. من إظهار الألم.. أو من تقبل عطف الآخرين..
ولأن سحر تعرف الطب جيداً.. فهي تدرك أن ابنتها لن تستطيع اجتيازه إلا بمساعدات كثيرة.. الأمر الذي لن تتقبله نفس رنيم الأبية.. وسحر – كونها أماً- فهي أضعف من أن تواجه ابنتها بذلك..
ونتيجة لحيرتها الشديدة التي نكأت جروحها القديمة.. كانت طوال الأسبوع الفائت تتهرب من ابنتها.. من نظراتها الحائرة، وأحاديثها المتسائلة..
ثم.. لا تدري ما الذي جرى وحصل.. كل ما تذكره.. أن ابنتها سقطت محمومة.. كل ما تذكره.. أن الحيرة والمرض اجتمعا على قرة عينها.. وكل ما تعرفه.. أنها اليوم هنا..
تنتحب وتبكي ما جرى.. وتدعو الله تعالى..

- أمي..

تردد الصوت في أنحاء المكان.. ممزقاً ليل الصمت.. وسكون الظلام
كان ضعيفاً محشرجاً وكأنه آت من بعيد .. ربما من مخيلة سحر.. التي لم تعبأ به..

- أمي..

انتفضت سحر في مكانها!.. لا .. لم يكن خيالاً .. بل حقيقة!
- رنيم؟!.. حبيبتي..

فتحت رنيم عينين مرهقتين..
وابتسمت بضعف..
- أمي.. أريد أن أتحدث معكِ..

لم ترد سحر.. وكأن الفرحة عقدت لسانها..

- أمي.. بشأن ما حدث..
ترددت قليلاً.. أغمضت عينيها، وأخذت نفساً عميقاً وكأنها تجاهد نفسها.. ثم فتحت عينيها..
- أعلم ما الذي تخبئينه عني.. 
وأعلم.. .

قاطعتها سحر..
- غاليتي.. أنت متعبة.. ويجب أن تخلدي للنوم والراحة..

- أمي. أرجوك.. صمتنا كثيراً.. وهربنا أكثرً.. ولكن.. إلى متى؟!..

تحشرج صوتها.. وضاعت الكلمات على شفتيها..

أخذتها سحر بين ذراعيها.. ليتناهى إلى سمعها صوت بكائها..بكت طويلاً.. وعندما هدأت.. جلست مواجهة لأمها..
- أمي.. أعلم أنك لم تشائي أن تخبريني برفضك لدخولي الطب.. أو بالأصح.. بخوفك عليّ من دخوله، ولكنني يا أمي.. منذ زمن بعيد.. وقبل أن أتخذ هذا القرار.. فكرتُ كثيراً..

صمتت قليلاً..

- علمتُ من حديثك وحديث الجميع عن الطب.. أني.. بسبب ظروفي.. لن أستطيع اجتيازه كما يجتازه الجميع..
علمتُ أنَّ عليَّ أن أواجه الصعاب..
علمتُ أن الأمر لن يعنيني أنا فقط ، بل سأحتاج لمن يساعدني ، وأنا ربما لم أعتد على ذلك..

غالبت سحر دموعها.. وبصعوبة.. استطاعت أن تقول:
- غاليتي.. أنت رقيقة.. رقيقة جداً.. وربما.. لن تستطيعي احتمال ذلك..

لم تكن ابنتها تنظر إليها.. كانت تسرح ببصرها عبر النافذة إلى الأفق.. حيث خيوط الفجر.. تبدد ظلام الليل..

- أمي.. أخبرتِني ذات يوم.. أن الإنسان لا يمكن أن يعيش دون هدف.. هدف عظيم.. يستطيع من أجله أن يذلل الصعاب.. أن يستهين بها.. ليصل إليه.. وعندما يصل.. عندما يحقق هدفه.. فسعادته بنجاحه.. وتحقيق حلمه.. كافية لتنسيه كل الآلام التي واجهته.. مهما عظُمت..

نظرت إلى أمها..

- لم أفهم كلامك في ذلك الوقت أمي.. ولكنني الآن.. أفهمه جيداً..

أمسكت بيدي أمها بضعف..
وضحكت..
- صدقيني أمي.. أنا قوية بالرغم من ضعفي.. قوية بعون ربي، ثم بكونك جانبي.. ويكفيني قوةً.. أنني أنتِ.. وأنكِ أنا..

تأملت سحر ابنتها.. لطالما رأت فيها قوة هائلة.. ربما فاقت قوتها هي، وكأن القوة التي انحسرت عن قدميها الصغيرتين.. قد اجتمعت في وجدانها.. في عقلها.. بل في أعماقها كلها..

وابتسمت سحر.. بل ضحكت.. 
ليتردد صوت رنيم.. متهللاً مستبشراً..
- إذن!.. سأصبح طبيبة..

أحست سحر بصدىً لهذه الكلمات في أعماقها..
ترى؟!.. هل سمعتها من قبل؟!..

◽️◽️

بقلم: آلاء هاشم
📚 مجلة حياة العدد (٨٢) صفر ١٤٢٨ هـ

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق