الثلاثاء، 13 سبتمبر 2016

( الفجر الجديد ) قصة وعبرة


( ١ )

(( ....... تراه مؤدباً وخلوقاً ... وذا غيرة على دين الله تدعو للإعجاب والإكبار عندما يقبل عليك بمحياه الجميل ، وطلعته البهية ، وابتسامته المشرقة الصافية ...... ثم يلقي عليك تلك التحية الطيبة " السلام عليكم ورحمة الله " 
ويحادثك وكأنك له أقرب قريب ، عندها تشعر بفرحة غامرة ..... عندما يحادثك ذلك الشاب المحبوب التقي .

وما تلك اللحية السوداء الكثة .. الوسيمة .. إلا لتكسبه وقاراً واحتراماً كبيرين .. رأيت الكل يحترمه شيباً وشباناً وكأنه شيخ القبيلة ، فإليه يرجعون في كثير من أمورهم .
وعندما يتحدث .. يجذبك حديثه وحماسه لقضايا المسلمين ..

ويخيم السكون على الجميع وهم يرمقون بأعينهم ذلك الخطيب .. الذي تجد لكلمته وقعاً عظيماً في القلوب ..فتجعل الناس في خشوع مهيب .. فحديثه سهل مفهوم لعامة الناس .. وبسهولة يقنعك بما يتحدث عنه .
فكم اهتدى على يديه من البشر !!
وترى القلوب تخشع والعيون تدمع عندما يعظ ويخطب .. وإنك لتعجب عندما ترى الناس يتهافتون للسلام عليه .. وكأن لهم حاجة عنده إنه الحب في الله .......... فهم يحبونه بكل معنى الحب ..
والعجب هنا عندما تسمع ذلك الرجل الذي تجاوز السبعين من عمره وهو يناديه يا شيخ .. نعم فهو الشيخ أبو يوسف 
وهذا العجوز هو الشيخ أبو وضاح شيخ القبيلة والأول لم يتخط الثلاثين بعد ...... ))


فلم أصل إلى هنا .. حتى رأيت الدموع تترقرق في مًُقلتي أبي ، نعم فقد كنت أحدثه عمن رأيت في تلك الرحلة الجماعية التي قمت بها أنا ورفاقي ..
فقد نذرنا أنفسنا للدعوة إلى دين الله .. وقمنا بزيارة بعض القبائل البدوية القريبة من مدينتنا ، لنلقي عليهم بعض الدروس الدينية ، ونرشدهم إلى سلوك الطريق الصحيح .. ولله الحمد الجميع يرحب بنا ويدعونا للمزيد ..

سألت أبي بلهفة عن سر تلك الدموع .. ؟
فأجابني والحسرة تملأ قلبه : لقد تذكرته .. !!
وبدون تردد قلت له : من ؟ ( خالد ) .. ؟

لم أكن بحاجة إلى جوابه إنه حقاً يقصده .. أعني أخي خالد ، فقد ذكرني أنا أيضاً به .
سبحت الله وكبرته عندما حدقت في تلك النجوم الجميلة ، وكأنها عقد من اللؤلؤ انتثر وتبعثر فوق قطيفة سوداء ..
آه . . آه . . ما أجمل الليل ، وما أروع سكونه .. !!
صالح : محمد ألم تنم بعد .. ؟
محمد : وأنت يا صالح لماذا لم تنم ؟
صالح : كنت سأنام لو لم أر أبي يبكي عندما أخبرته عن ذلك الشاب التقي .. صحيح يا محمد ما سر بكاء أبي .. ؟
أعرف جيداً أنك تعلم بكاءه فقد سمعتك تقول له خالد من هو خالد الذي بكى أبي من أجله .. ؟
( هذا ما سألني عنه أخي الصغير صالح ذي الثلاثة عشر ربيعاً .. ) .
فقلت له : ألم تعلم أن أبي كان يدعى أبا خالد .. ؟

صالح : تقصد أنه أخي .. ؟
محمد : نعم .. فخالد هو أخونا ..

صالح : وأين هو الآن .. ؟
محمد : لقد تُوفي منذ ما يقرب ( أحد عشر عاماً ) أي عندما كان عمرك سنتين فأنت لا تتذكره بل لا تعرفه .

صالح : أستحلفك بالله يا محمد أن تخبرني عن أخي خالد الذي أبكى أبي هذا اليوم .
محمد : لولا أنك لم تستحلفني بالله لما كنت سأقول لك فأنت بذلك تدعوني لأن أفتح جرحاً قديماً ظننته اندمل وطوته السنون .
فإليك يا أخي الصغير قصة أخينا الكبير خالد :


* * *

( ٢ )

كنا منذ أكثر من ( خمسة عشر عاماً ) ، نسكن في إحدى القرى الشمالية بل قل " هجره " لأن أكثر من فيها من السكان هاجروا إلى المدن لحياة أفضل .
ولم يكن عدد السكان كثيراً فبسهولة تستطيع أن تعد بيوتهم ، بالإضافة إلى المسجد والمدرسة الابتدائية فقط .
ولكم كانت قريتنا جميلة ووادعه فهي تقبع بين جبلين من الحجارة السوداء ، مما يكسبها روعة وجمالاً .. وترى فيها عيناً تنبثق وتروي تلك الحقول والمزارع الخضراء ، فهي بذلك واحة غناء ، تجذب أهل المدن إليها ليستمتعوا فيها بإجازاتهم .
وكما تعلم يا أخي فأبي فلاح ماهر كما تراه .
وإني أتذكر وهو يعمل في مزرعته بكل جد ونشاط ، وأنا وأخي خالد نلعب ونمرح هنا وهناك .. نسقي الزرع معه .. ونطعم الماشية ونرعاها .. وبالطبع كل هذا بعد المذاكرة ، فأبي كان حريصاً على أن نكون من المتفوقين في دراستنا .

وتمر السنين ويأخذ أخي خالد الشهادة الابتدائية بكل تفوق وامتياز .
أما أنا فكنت في الصف الثالث الابتدائي ، فلم يكن بيني وبين أخي خالد سوى ثلاثة أعوام .

كان خالد نعم الابن البار بوالديه .. فقد كان أبي يحبه حباً لا يجارى وكذلك أمي فكم كانت أخلاقه عظيمة مع صغر سنه حتى إنه اشتهر عند جميع أهل القرية بأخلاقه الحسنة ، فكان يحترم الكبير ويرحم الصغير ويساعد أهل القرية في استصلاح مزارعهم ورعي ماشيتهم .
أيضاً مع صغر سنه كان ذا أسلوب لبق لا يعرف تلك الألفاظ النابية التي يتداولها عادة الأطفال فيما بينهم ، فهو يترفع عن مثل تلك الكلمات ، وقد تجده بين إخوانه الطلاب يساعد هذا ويشرح لذاك .
وكان طبيعياً أن يأخذ كل سنة جائزة المدرسة للطالب المثالي ، فهو معروف لدى الأساتذة بأدبه وذكائه وتعاونه مع الآخرين ، وقبل ذلك كله كان محافظاً على الصلاة .
وحقيقة كانت أخلاقه أكبر من أن توصف مقارنة بصغر سنه . فأنا كنت أحبه وأحترمه وأقدره .

رأى أبي أنه من الأفضل أن يرحل من القرية أسوة بمن سبقوه .. فهذا هو الوقت المناسب لرحيله ، لأنه يريد أن يوفر لنا حياة أفضل ، بعد أن أصبحنا معه وأمي خمسة إخوة ، أنا وخالد ، ومريم ، وسلمى ، وخولة .. بالإضافة إلى أن خالداً قد أخذ الشهادة الابتدائية ، وقريتنا لا يوجد بها متوسطة ، وأبي يريد أن يكمل خالد دراسته إلى أن يتخرج ، وهذا مما زاد من إصرار أبي على الرحيل من القرية .

رحلنا إلى مدينة (( ...... )) وهي تعتبر مدينة زراعية ، حيث يوجد فيها مشروعات زراعية عظيمة .. التحق أبي بأحد المشاريع التي تقوم في زراعتها على " البيوت المحمية " 
واستمر أبي في عمله الجديد يعطيه بسخاء كل قوته وجهده حتى أصبح من أهم المزارعين في المشروع .

كانت المدينة غريبة علينا ، لم نعتد تلك الوجوه الجديدة .. والمساكن غير المساكن التي ألفناها .. " يا إلهي كم هي كبيرة هذه المدينة " هذا ما كنا نردده دوماً .. حقاً لم نعتد ذلك .
ففي القرية تستطيع أن ترى جميع رجال القرية في المسجد .. وهنا العكس تماماً فكل يوم ترى أشخاصاً لم ترهم من قبل ..
وأهل القرية كالأسرة الواحدة ، متعاونين ، ومتحابين فيما بينهم ، وأخلاقهم البسيطة البعيدة عن التكلف والمجاملات ، تعطيك ثقة وراحة لا حدود لهما .

وتمر السنة تلو الأخرى ، ونبدأ في التأقلم التدريجي مع هذه الحياة الجديدة حتى ألفناها ..
وأتخرج أنا من الابتدائية لأنتقل إلى المتوسطة بشوق شديد ، ويفرح أبي لذلك فرحاً شديداً ، فله الآن اثنان من الأبناء قد أخذوا الشهادة الابتدائية ، وننتظر بشوق نتيجة خالد ....... 

ويدخل علينا خالد وهو يقفز من الفرح " .. لقد نجحت .. أبي نجحت .. " ولكم كانت فرحة أبي كبيرة بنجاح أخي خالد .
- مبروك يا بني الحمد الله على نجاحك .
وبكل أدب اقترب خالد من أبي فقبل يده ورأسه وقال : هذا كله بفضل الله ثم بفضلك يا أبي فقد كنت لي خير سند ومشجع حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ..

وتبدأ السنة الدراسية الجديدة ، وأنا في الصف الأول متوسط وخالد – وهو الأهم – في الأول ثانوي ، وأخواتي لازلن في المرحلة الابتدائية ..
مريم في الصف الخامس .. وسلمى في الصف الثالث .. أما خولة فهي في الصف الأول ، وسعادتها لا توصف وهي ترتدي الزي المدرسي ، وتحمل الحقيبة لأول مرة ، وقد كانت تعد الأيام شوقاً لهذا اليوم .. " وفي هذه السنة يا صالح كنت قد بدأت تقف وقفتك الأولى كي تسير ، فتقف قليلاً ثم تسقط ، ولكنك تحاول .. وتحاول " .

وبعد شهر من بداية الدراسة حدثني خالد عن ستة من الشبان في المدرسة كانوا يكونون " شلة " تسمى ( شلة أبوسعد )
جميعهم قد تخطوا الثامنة عشر من عمرهم ، كانت سمعتهم سيئة جداً جداً .! حتى إن المدرسين كانوا في حذر شديد في تعاملهم مع أفراد هذه الشلة ، لدرجة جعلت المدير يفرقهم عن بعضهم " أي جعل كل فرد منهم في فصل مستقل حتى لا تحدث مشاكل " .
قال لي خالد : إن لديهم رموزاً عجيبة يتحدثون بها فيما بينهم ، لا أفهمها ولا غيري من الطلاب في المدرسة يفهمها ، 
وبصراحة شدتني هذه الرموز فهي تارة حركات باليد ، وتارة أحرف وكلمات متقطعة ، صعبة الفهم إلا عندهم .
قلت له : أظنها لعبة يلعبونها للتسلية ... ؟
قال : لا ، ليست كذلك .. فأنا أرى أثرها على تقسيمات وجوههم ، فتراهم يضحكون مرة .. ويغضبون مرة .. وهكذا .. أظنها يا محمد تتحدث عن أسرار خطيرة فهم يلجأون إليها كي لا يعلم من حولهم بهذه الأسرار .. !!
قلت : يا خالد ما دمت تظن أنها خطيرة فابتعد عنهم كي لا يؤذوك .
قال : لا .. يا محمد ، فأنا في أشد الشوق لمعرفة خفاياها ، وسأحاول فتح هذا اللغز بنفسي .

وفي المدرسة .. مرَّ خالد على شلة ( أبو سعد ) ..
خالد : السلام عليكم يا شباب .
وبصعوبة خرج الرد ومن فرد واحد بقوله .. وعليكم !!
لم يبدِ خالد امتعاضه من صمتهم وهذا الرد .. بل سألهم عن أخبارهم وعن استعدادهم لامتحانات هذا الشهر .. ؟؟
وهم تارة يردون وأخرى يضحكون ، وهو مصمم على المضي قدماً فيما يريد كشفه فهو بهذا الأسلوب يريد التقرب إليهم وريداً رويداً حتى يثقوا به .

وتمر الأيام وهو يكلمهم ، ويمازحهم حتى ألفوه ، ولكن كانوا حريصين على ألا يفضوا إليه بشيء من أسرارهم .
وذات مساء كان خالد عائداً من زيارة زميله " عبد الله " قابل اثنين من شلة أبو سعد قابل " زيداً وياسراً " أما البقية وهم " حسام ، شاكر ، وليد ، إبراهيم " فلم يرهم مع أخويهم ولذلك وجدها فرصة لأن يسأل عنهم ، فأجابوه : بأنهم ينتظرونهم في مكان قريب من هنا .
فاجأهم بقولهم : أريد الذهاب معكما . !!
نظر زيد وياسر إلى بعض وكأنهما يتساءلان أيذهب معنا أم لا .. ؟
فلم يجدا مانعاً من ذلك فقد أصبح خالد جليسهم في المدرسة ولا مانع من الاستفادة منه فهو من المتفوقين .

ذهب خالد معهم ، فدخلوا به أحياء وممرات لم يألفها خالد من قبل ينظر هنا وهناك " .. يا إلهي أكثر البيوت مهجورة إن لم تكن كلها .. !! " .
فقال : زيد ، ياسر ما هذا المكان المهجور .. ؟
قالا له : لا عليك إنهم ينتظرونا في إحدى هذه البيوت .
فقال خالد مستنكراً : يا إلهي .. وهل يستطيع أحد من البشر العيش في هذه الأطلال ؟ .. إنها مخلوعة الأبواب والنوافذ ، والقطط والكلاب لا تهجرها .. فكيف يعيشون .. أو قل يدخلون فيها ؟
لم يباليا بكثرة تساؤلات خالد فتركوها تذهب أدراج الرياح ، فما هي إلا لحظات حتى وقفوا .. أشار ياسر إلى أحد البيوت قائلاً : هنا الشباب يا خالد ، ادخل .. لا عليك سأدخل قبلك . 
دخل خالد ذلك البيت الخرب فوجد فيه غرفة واحدة فارغة لا يوجد بها سوى هؤلاء الشباب الذين تجمعوا حول إبراهيم فهو الرئيس هنا ويدعى أبا سعد وكان بحوزته صندوق قديم .
سلم عليهم فرحبوا به وأجلسوه بينهم ، فرح خالد بهذه الثقة حيث أحس أنه بدأ يكشف بعض غموضهم بدخوله في وكرهم ، " فهذه فرصته التي طالما انتظرها كي يسـألهم عن سر تلك الرموز والإشارات التي يتبادلونها فيما بينهم " .
فلم يتردد حيث سألهم عن سر تلك الرموز ..
تعجب الجميع من هذا السؤال .. !!
فقال أبو سعد : سرها هنا .
وأشار إلى الصندوق . نظر خالد إليه نظرة المتعجب الذي ينتظر الجواب !!
فتح أبو سعد الصندوق وأخرج منه ورقة صفراء ملفوفة بعناية ..
ثم قال : إذا استنشقت هذه فستعرف بسهولة ما تريد .
أخذها خالد وهو ينظر في شك وريبة إلى أبي سعد وهذه الورقة الصفراء ، ثم فتحها ونظر إليها .
فقال : ما هذه يا أبا سعد .. ؟ 
أبو سعد : افعل ما قلت لك وستعرف . 
فعل خالد ما قال له أبو سعد وكان ما كان من أثرها ثم راح في سبات عميق .


* * *

( ٣ )

استيقظ خالد من نومه فنظر إلى من حوله .. رباه أين أنا .. ؟
أراد أن يقف ولكن ... ؟
- يا إلهي قدماي ، يداي ، كل جسمي يؤلمني ! ياسر ، شاكر ، حسام ، استيقظوا زيد هيا استيقظ ..
قال أبو سعد : اسكت يا خالد إنك تزعجنا ..
قال خالد : هيا استيقظوا لقد أصبحنا ولم نشعر بأنفسنا هيا هيا إلى الصلاة بسرعة ..
قال له وليد : اذهب وصل وحدك لا نريد إزعاجاً ..
وقعت هذه العبارة على نفس خالد وقعاً شديداً ، فقام مسرعاً ونفض ما علق بثيابه من غبار ولبس حذاءه وانطلق بسرعة يجوب تلك الطرقات المهجورة والأزقة الموحشة فمر على المسجد القريب من دارهم فتوظأ ثم صلى .
نظر خالد إلى الساعة إنها تشير إلى السادسة ، أخذ يتساءل بخوف وقلق عن ما جرى له ليلة البارحة وكيف أنه نام في ذلك المكان دون أن يشعر بذلك ، خرج من المسجد مسرعاً واتجه إلى البيت .
وفي طريقه كان يفكر بماذا سأواجه أبي .. ؟ أأقول له أنني بت لدى شلة أبي سعد فيغضب عليَّ .. ؟
لا لن أقول له ذلك مهما حدث فأبي يحترمني ويثق بي ولكن ماذا سأفعل .. ؟ ليس أمامي سوى الكذب .. نعم الكذب ..

طرق الباب .. وبسرعة فتح الباب ..
- خالد بُني أين كنت .. ؟ الحمد الله على سلامتك لقد قلقنا عليك كثيراً .. أين كنت ؟
قال خالد : أبي أنا آسف لتأخري فقد كنت أذاكر مع صديقي عبد الله كما تعلم ومن كثرة المذاكرة والمراجعة غلبنا النوم ، أرجوك يا أبتي أن تسامحني ..
- لا عليك يا بني ما دمت عند عبد الله فلا بأس بذلك ولكن لا تكررها مرة أخرى فقد عشنا البارحة في قلق عظيم .
تنفس خالد الصعداء وبدى عليه الارتياح اما قاله والده ، ولكن ما يقلقه لو أن أباه قابل عبد الله وسأله عن تلك الليلة فسوف يفضحه ، ولكن لم يكن خالد غبياً فقد ذهب إلى صاحبه وأخبره بما جرى له ليلة البارحة وأرشده إلى ما يقول إذا سأله ، ولكنه لم يصارح أعز رفاقه عن تلك " الورقة الصفراء " .


وفي مساء ذلك اليوم ذهب خالد إلى رفاقه فهو لم يعرف بعد شيئاً عن تلك الرموز التي قالوا أنه سيعرفها بمجرد استنشاقه لذلك المسحوق .
طرق خالد باب تلك الغرفة مرة مرتين ولم يفتح أحد الباب حيث كان الجميع في فزع وخوف .. من ذا الذي يطرق الباب في هذا الوقت .. ؟
لكن خالد طرق الباب مرة أخرى وقال بصوت هادئ : لا تخافوا أنا خالد هيا افتحوا لي . فتحوا له وهم لا يكادون يصدقون ذلك وبدا الارتياح عليهم .
قال : مرحباً يا شباب يبدو أنكم لم تتوقعوا مجيئي .
زيد : بصراحة يا خالد لم يخطر لنا ذلك على بال .. !
حسام : أظن أن الوضع أعجبك وإلا لما كنت ستعود إلينا .. ؟
وليد : هل أعجبك ذلك المسحوق .. ؟
وبسرعة قال أبو سعد : أتريد أخرى يا خالد .. ؟
قال خالد : لا ، لا أريد ذلك .. وما جئت لهذا .
وبصوت واحد قال الجميع : وماذا تريد إذاً .. ؟!!
أجاب بثقة كبيرة وقد هم بالجلوس : لم أعرف بعد تلك الرموز والكلمات التي قلتم أنني سأعرفها .. ؟
ضحك أبو سعد فضحك الجميع .
خالد : لِمَ تضحكون فأنا جاد فيما أقول .. !! 
أبو سعد : لا عليك يا خالد سأعطيك شيئاً آخر .
وتوجه إلى ذلك الصندوق القديم وفتحه وأخرج حبوب بيضاء ، ومد واحدة منها إلى خالد ،
وقال : خذها إنها أفضل بكثير مما سبق .
قال خالد وهو يقلب هذه الحبة : وما فائدتها .. ؟
قال شاكر : يا أحمق ، إنها تذهب بك إلى عالم آخر .. إلى عالم الأحلام السعيدة بعيداً عن هذه الدنيا ومشاكلها .
خالد : أحقاً ما تقول .. ؟ وبسرعة ألقاها في فمه وابتلعها .
ضحك الجميع في سخرية .. إنه سهل الإقناع .. مسكين إنه جاهل .. ويضحكون ويتناول الجميع منها .
كان خالد يتخبط هنا وهناك ويضحك ويهذي بكلام لا يفهم .. وفي منتصف الليل انتبه لنفسه فأسرع إلى البيت .. 
كان الوالد قلقاً ومترقباً حتى دخل خالد المنزل وقد بدى عليه التعب .
أبو خالد : خالد ما هذا التأخير .. ؟ لم نعتد منك ذلك يا بني .. !
خالد : آسف يا أبي أعتقد أن النوم غلبني هذه المرة أيضاً .. آه .. أشعر برغبة في النوم تصبح على خير يا أبي .


وفي اليوم التالي ذهب إليهم خالد كعادته ، فرحبوا به نعم لقد أصبح واحداً من الشلة .. رآهم يلعبون بالورق ويشربون الشاي فما كان منه إلا أن جلس بينهم وقام يلعب معهم .. أخرج وليد سيجارة وأخذ يدخن ..
قال له أبو سعد : ما هذا الكرم يا وليد ألا نشارك .. ؟
ضحك وليد : آسف تفضل .. فأعطى الجميع فلما وصل إلى خالد ..
قال خالد : لا شكراً لم أعتد ذلك .. ضحك الجميع في سخرية ..
قال وليد : سيجارة واحدة يا خالد تساعدك على اللعب والتفكير جربها وسترى ..
لم يجد خالد نفسه متردداً ، فهي كما قيل تساعده على اللعب والتفكير ، في البداية كاد أن يختنق ، أخذ الجميع يتهامسون ويضحكون مما زاد على إصراره كي لا يسخروا منه .

مرة عدة أسابيع وخالد على هذه الحال ، لا يعود إلى البيت إلا في الساعة الواحدة ليلاً .
فبعد خروجه من المدرسة يتوجه إلى البيت وبعد العشاء لا تراه إلا مع هذه الشلة الفاسدة يلعب معهم بالورق ، ويدخن ، ويتعاطى المخدرات " أم الخبائث " حتى إنه لم يطيق الصبر على تركها يوماً واحداً ..
ولا تسأل ماذا حدث لخالد .. !!
فقد قاده حب الاستطلاع والتحدي والتجربة إلى ما لا تحمد عقباه قاده إلى أخبث المنكرات إلى المخدرات فهي بداية كل جريمة ومعصية .

تراجع مستوى خالد الدراسي إلى درجة كبيرة تساءل المعلمون عن سببها فلم يعهدوا ذلك من خالد فهو من المتفوقين دائماً ، ولم يقتصر ذلك على مستواه الدراسي فحسب ، بل تعداه إلى علاقته الأسرية ، فلم يعد خالد ذلك الابن البار الصادق فقد تغيرت معاملته لإخوانه ، وصارت مهمته في هذا البيت إصدار الأوامر وضرب أخواته البنات لأتفه الأسباب ولم يعد يحترم أمه كثيراً ما كانت تسأله عن سبب تأخره فكان يلجأ إلى الكذب تارة ولا يكلمها ولا يلقي لها بالاً تارة أخرى .. 
وكان أبي قلقاً جداً عليه فأصبح ينصحه ويوبخه فلم يجد أبي فائدة في ذلك بل إن حال خالد زادت سوءاً فما كان من أبي إلا أن هدده بأن يحبسه في البيت إذا تأخر مرة أخرى .. وفعلاً لم يعد يتأخر إلى هذه الساعة وحتى الآن لم يعلم أو يشك أحد أن خالداً كان يتعاطى المخدرات فهذا لم يخطر لهم على بال .


* * *

( ٤ )

علم خالد فيما بعد ما تعنيه تلك الإشارات والكلمات المتقطعة فهي رموز لبعض أنواع المخدرات وبعض المعلومات المتعلقة بها ..

سافر أبي ذات يوم إلى إحدى المدن في مهمة تتعلق بالمشروع ، كانت فرصة لخالد لأن يفعل ما يشاء ، وفي ليلة ذلك اليوم لم يعد خالد إلى المنزل .. لقد تغير خالد كثيراً لم يدع منكراً أو معصية إلا وجربها وجميع المعاصي ارتكبها فالمخدرات جعلته يهجر الصلاة وكثيراً من العبادات بالإضافة إلى ذلك دعته إلى السرقة ، فلم يعد أبو سعد وجماعته يعطون خالد ما يريد منهم مجاناً أو بمقابل زهيد فعندما تأكدوا من تفشي السم في جسده بدأ أبو سعد يطالب خالد بمبالغ كبيرة لا يقوى عليها .. فأصبح يحاول إقناع أمي بأن تعطيه ما يريد من المال وأمي المسكينة تعطيه ولا تبالي فخالد له مكانة خاصة في قلبها .

ولا يزال أبي في سفره وأمي لم يعد معها مال فكل ما لديها أعطته لخالد ومع ذلك كان مصراً على أن تأتي له أمي بمال بأي وسيلة ..
أمي : خالد يا بني لم يعد معي مال فجميع ما لدي أعطيتك إياه .
خالد : لا بل لديك ولديك الكثير ..
أمي : أقسم لك يا خالد أني لا أملك ريالاً واحداً .. 
خالد : لا أريد .. بل أريد " وبكل وقاحة وإصرار " أريد هذا العقد الذي تلبسينه ..
أمي : ماذا يا خالد أتعني ما تقول .. ؟
خالد : هيا بسرعة لا وقت لدى أتريدينني أن أموت ؟
وبسرعة خلع منها ذلك العقد وولى هارباً .. وأمي في ذهول لا تصدق ما يدور حولها .

وفي ساعة متأخرة من الليل عاد خالد إلى المنزل .. وهنا فقط أدركت أمي ما حل بابنها الغالي لقد رجع وهو يتخبط يمنة ويسرة ويضحك ويهذي ، ثم فتح باب الغرفة وألقى بنفسه على السرير .. هنا أدركتُ أنا أيضاً أن خالداً يتعاطى المخدرات فلم يكن أمامي أنا وأمي إلا أن نغلق عليه باب الغرفة جيداً لنفكر فيما يجب علينا فعله .. ؟ وكنت حينها في الثالثة عشر من عمري وما عساي أن أفعل وأنا في هذا السن الصغيرة ، أما خالد فكان عمره ستة عشر عاماً " عمر الزهور " ما أخبثهم يريدون أن يدمروا زهرة شبابه !!
وفجأة أخذ الباب يهتز " افتحوا الباب " ويطرق خالد الباب بكل قوته ويصرخ ويهدد ويتوعد بأنه سيفعل بنا شيئاً لا تحمد عقباه إذا لم نفتح له الباب كانت أمي تبكي بكاء مراً على خالد وأنا في حيرة في أمري .
فقلت : أمي أنا خائف أن يحقق خالد ما يقول إذا لم نفتح له الباب فما رأيك أن نخدعه يخرج .. ؟
قالت : أتظن ذلك يا محمد .. ؟
قلت : نعم يا أمي ..
قالت : إذاً افتح له ..
أدرت المفتاح ويداي ترتعدان من الخوف .. فلم أكد أفتح الباب حتى هوى إليَّ بثقله وبسرعة أمسك بتلابيب ثوبي وأخذ ينفضني ويهددني بأنه سيقتلني إذا كررت ذلك .. كنت بين يديه كالفرخ .. العرق يتصبب مني وجسدي يرتعد وقلبي يخفق بشدة .
وقلت له بتلعثم وأنا أبتلع ريقي : والله لن أكررها مرة أخرى ..
وفي هذه اللحظة شدت أمي ثوبه من كتفه قائلة والدموع تنهمر على وجهها الحزين : دع أخاك وشأنه أنا التي أمرته أن يقفل الباب ..
وبسرعة البرق أزاح خالد يد أمي بقسوة وعنف .. عند ذلك أحست أمي أن خالداً أصبح خطراً على جميع أفراد الأسرة ..
وتخرج أختي مريم من غرفتها على أثر ذلك الإزعاج فلما رأتها أمي نهرتها وأمرتها أن تدخل الغرفة وتقفل الباب جيداً فهي تخاف على أخواتي من ذلك الوحش البشري بل تخاف عليَّ أنا منه أيضاً .. فلم أشعر إلا وهي تشدني وتدخلني غرفتها وتطلب مني تهدئتك يا صالح " فقد كنت تبكي .. " لتبقى مع خالد لتحاسبه على تصرفاته الرعناء فما كان من خالد إلا أن دفع أمي بعنف لتهوي على الأرض ، وولى هارباً بعد أن سرق كل شيء .
وأخرجُ من الغرفة على تلك التأوهات لأرى أمي الحبيبة ملقاة على الأرض لا تستطيع الحراك وتخرج مريم ثم تتبعها سلمى ...... :
- أمي .. أمي ... هل أنت بخير .. ؟
مريم : ماذا حدث يا محمد لا أستطيع فهم ما يجري حولي .. ؟
قلت : لا عليك يا مريم ساعديني في حمل أمي وأنت أيضاً يا سلمى ..
مسكينة أمي لقد مرت بموقف عصيب فخالد يتعاطى المخدرات .. ويهددني بالقتل ويلقي بها على الأرض وتبكي فليس لديها سوى البكاء .

مر يومان وأمي على فراشها لا تتحرك وأخي " خالد " لا نعلم عنه شيئاً منذ تلك الليلة
ويرجع أبي ليرى ما حل بأسرته وما فعله بها ذلك الابن العاق ويتساءل عن الذي حدث وأمي لا تجيب فقط تلك الدموع تسيل على خديها الباهتين فهي تخاف على أخي خالد من أبي .. رغم ما فعله فهي تخاف عليه لكن أبي لا زال مصراً على معرفة ما جرى في غيابه فتنفجر أختي مريم باكية وتخبر أبي بما أصابنا منذ أول يوم سافر فيه حتى رجوعه بعد عشرة أيام فلم يتمالك أبي ذلك الرجل الطيب إلا أن يصفق بيديه وهو يقول : ضاع خالد ضاع خالد ويجهش في بكاء مرير لم نعهده من أبي فهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها أبي يبكي لقد كان موقفاً مؤثراً حقاً .
خرج أبي يسير في الشوارع والأحياء باحثاً عن خالد ذهب إلى جميع رفاقه فلم يجده وكان طبيعياً أن لا يجده عندهم .
ورجع أبي إلى المنزل منكسر القلب دامع العين .
وفي الصباح توجه أبي إلى المدرسة ليسأل عن ابنه خالد وفوجئ بأن خالداً لم يأت إلى المدرسة أكثر من شهر وأن إدارة المدرسة قامت بفصله يا إلهي ما هذه المشاكل التي نزلت على أبي دفعة واحدة لم يعد أبي يحتمل ذلك فأصابه مرض أقعده في الفراش عدة أيام .
ولله الحمد تحسنت حالة أمي وقد حاولت أن تنسى خالداً وما فعله بها .

وفي ذات يوم كنت عائداً من المدرسة فرأيته لكني لم أتأكد من أنه " خالد " فأطلت النظر حتى تبين لي أنه حقاً " خالد "
أسرعت متوجهاً إلى البيت لأخبر أبي بذلك وعلى الفور لبس أبي ملابسه وخرج معي ليعيده إلى المنزل ولو كان بالقوة 
عاد أبي ومعه خالد فلم يكن بحاجة إلى إرجاعه بالقوة فخالد أصبح ضعيفاً لا يستطيع أن يقاوم وعندما دخل البيت رأته أمي فأسرعت نحوه ابني خالد وبكت ومهما حدث فالأم لا تستطيع أن تغير عواطفها تجاه أبنائها .. بدأ خال يستعيد شيئاً من صحته .. فأصبح خروجه الآن من المنزل محدوداً ..

بعد عدة أيام جاء إلى أبي وقال له : هناك مجموعة من زملائي سيقومون برحلة برية .. وأريد أن أذهب معهم .. 
رفض أبي بشدة السماح له بالذهاب معهم لكن خالد أصر على رغبته في الذهاب ومع إصراره وإلحاحه القويين وافق أبي مكرها
بقيت أيام قليلة وتبدأ إجازة نصف العام الدراسي وكثير من الشباب قاموا بنصب الخيام في البر للاستمتاع بهذه الأجواء الربيعية الممطرة والجميلة آه نجحت ولله الحمد في الفصل الأول وكذلك أخوتي أما خالد فقد ذهبت عليه هذه السنة
غداً سيذهب خالد مع رفاقه إلى البر ولكم كانت فرحته غامرة بذلك كنت أراه وهو يجهز أغراضه ويكاد يطير من الفرح فهو لم يعتد مثل هذه الرحلات من قبل .


* * *

( ٥ )

وفي الصباح ودعنا خالد متمنين له رحلة سعيدة وموفقة ..
كان الجو جميلاً ومنعشاً .. والغيوم لا زالت في السماء تتخللها أشعة الشمس الذهبية فتضفي على الكون جمالاً لا يوصف ..
واكتست الأرض ببساط أخضر وأورقت الأشجار وانتثرت الزهور البرية هنا وهناك .. والطيور تغرد .. وترى الخيام قد نصبت في كل مكان في هذه المنطقة ..
كان أبي طوال اليوم قلقاً على خالد فهو لم يرتح لهذه الرحلة ..
كان المخيم يضم خمسة عشر شاباً بمن فيهم خالد وأربعة من رفاقه من شلة أبي سعد وهم : زيد ، حسام ، شاكر ، ووليد ..
أما أبو سعد وياسر فقد كانا من مروجي المخدرات ، فليس لديهم وقت للاستجمام ، فهناك من يتلهف للحصول على المخدرات ..

وبعد مضي أسبوع على تلك الرحلة وصلتنا أنباء مفزعة تشير إلى أن إحدى المخيمات احترقت لديهم خيمتان متجاورتان وكان السبب قيام هؤلاء الشباب بإشعال موقد للفحم ليتقوا برودة الجو في الليل ، فانطلقت شرارة لتبدأ في إشعال هذه الخيمة ومن فيها .. فجميعهم قد غطوا في سبات عميق وتنتقل النار إلى خيمة مجاورة أعدت كمطبخ لتتسلل النيران إلى داخلها فتصل إلى اسطوانتين للغاز لتنفجرا وتحدثا دوياً عظيماً سمعه أفراد بعض المخيمات القريبة منهم .. فما كان منهم إلا أن خرجوا من خيامهم ليروا ألسنة اللهب تضيء ظلام الليل الحالك .. 
وما هي إلا لحظات حتى وصلت فرق الدفاع المدني لتطفيء تلك النيران التي أكلت كل شيء .. ولم يخرج أحد حياً .. وبصعوبة انتشلوا بعض الجثث المتفحمة التي لم يستطع أحد التعرف عليها ..
وكان أن أعلن الدفاع المدني أن جميع أفراد المخيم البالغ عددهم خمسة عشر شاباً لقوا حتفهم .

علم أبي فيما بعد أن هذا المخيم هو الذي شارك فيه أخي خالد وأنه كان من ضمن الذين لقوا حتفهم ..
تماسك أبي عند علمه بذلك .. وأخذ يذكر الله ويحمده على ما أصابه ويترحم على ابنه خالد .. وخيم على منزلنا حزن شديد ذلك اليوم .
بصراحة لا أستطيع أن أصف تلك اللحظات التي مررنا بها يا صالح .


* * *

( ٦ )

صالح : يا إلهي .. إنها قصة محزنة حقاً يا محمد .. وددت أن أرى أخي خالداً .
محمد : رحمه الله رحمة واسعة .. 
صالح : لقد قرب أذان الفجر يا محمد ، هيا نستعد للصلاة .
وتغرد الطيور .. وتصيح الديكة معلنة بزوغ فجر جديد .. ويعود الجميع من المسجد : أبو خالد وولديه محمد وصالح .
قال صالح : أبي .. هل تحب أخي خالداً رحمه الله ؟
نظر إليه والده متعجباً : ولماذا هذا السؤال يا بني ؟
صالح : لقد قص عليَّ أخي محمد قصته ..
ويلتفت أبو خالد إلى ابنه محمد قائلاً : محمد يا ولدي خذني معك لرؤية ذلك الشاب التقي فقد شوقتني لرؤيته ..
محمد : بكل سرور يا أبي .. وإن شئت ذهبنا اليوم .

وفي اليوم التالي بعد صلاة الفجر جهز محمد سيارته ليذهب ووالده إلى قبيلة الشيخ أبو وضاح ليقابلا الشيخ أبا يوسف .
عندما وصلوا توجهوا مباشرة إلى المسجد ..
كان الشيخ أبو يوسف بين حلقة من الرجال يلقي عليهم درساً في العقيدة .. وهذه كانت عادته .. حيث إنه بعد صلاة الفجر يعقد درساً لذلك ..
وعندما رأى أبو خالد الشيخ أبا يوسف بابتسامته العذبة وأسلوبه الحسن .. شعر أنه دخل إلى أعماق قلبه .. فأحبه حباً شديداً ..
ومنذ ذلك اليوم وهو يحضر تلك الدروس .. يتعلم منها ما ينفعه في دينه ودنياه .. وفي أحد الأيام عندما انتهى الدرس .. وجه الحضور إلى الشيخ بعض الأسئلة .. وكان من ضمن الأسئلة التي تحمس لها الحضور سؤال لأحدهم يقول فيه : فضيلة الشيخ إني أحبك في الله .. وسؤالي هو عن كيفية هدايتك ؟
تغير وجه الشيخ أبي يوسف وخرجت منه زفرة .. فقال : يا إخوتي قصتي غريبة عجيبة وهي :


* * *

( ٧ )

كنت مع مجموعة من الشباب الضالين عن طريق الحق .. كنا لا نسمع عن معصية إلا أتيناها .. كنا لا نعرف الصلاة .. ولا نصوم إذا صام الناس .. كنا من أشد الخلق عصياناً لأوامر الله .
وفي إحدى السنوات كنت في رحلة برية مع بعض الشباب .. وكنا نسهر إلى ساعة متأخرة من الليل في طرب وغناء .. وكأننا خلقنا لذلك ..
وذات صباح خرجت مع اثنين من رفاقي للصيد .. فقمنا نبحث عن الطيور .. وننبش جحور نوع من الزواحف يدعى الضب .. فنجد في ذلك متعة وسعادة غامرة .. ونجوب بسيارتنا أنحاء المنطقة ، لم نكن نصلي .. نسينا أنفسنا ولم نتدارك ما حولنا إلا عندما رأينا الشمس تميل إلى الغروب ..
فقال أبو فهد : لنتجه إلى المخيم قبل أن يحل الظلام .. فاتجهنا إلى الشمال وسرنا بضعة كيلومترات ، تبين لنا بعدها أننا أخطأنا الطريق فرجعنا إلى وجهتنا حيث اتضح لنا أننا اتجهنا إلى وجهة خاطئة أيضاً .. فما كان منا إلا الذهاب من هنا وهناك حتى خيم الظلام ويأسنا من معرفة الطريق ..
قلت لصاحبي : من الأفضل أن نتوقف فلن نتهدي إلى المخيم في هذه الظلمة الحالكة .. ومن العبث أن ننهي ما تبقى معنا من الوقود في بحث لا جدوى فيه ولا فائدة ..
فمكثنا تلك الليلة في السيارة حيث وقفت ..
وحدث لنا شيء عجيب في تلك الليلة لا أستطيع وصفه ولا نسيانه مهما طال بي الزمن ..


* * *

( ٨ )

.... كنا نتحدث عن الصيد وعن بعض الأمور الخاصة بالمخيم ..
ذهب صاحبنا أبو سالم ليقضي حاجته .. فلم يذهب بعيداً حيث كان الظلام حالكاً .. ومن الصعوبة أن يرجع إلينا إذا ذهب بعيداً .. فأنوار السيارة مطفأة .. أغلقنا الباب فقد كانت برودة الجو قارصة ..
وفجأة .. سمعنا صراخاً .. اختلط بعواء .. استغاثة .. وبكاء .. .. نداء ورجاء .. يا إلهي .. أبو فهد ماذا حدث ؟ .. لا أدري !
أظنه يا أبا فهد ذئباً ! نعم ..... هو كذلك ..
فقد هجم أحد لذئاب الجائعة على أخينا أبي سالم ومزقه وقطعه بمسمع منا فصراخه واستغاثته لا زالت ترن في أذني .
تمسكت بأخي أبي فهد .. وأخذت أبكي وكأني طفل في حجر أمه .. فما كان منه إلا أن بكى معي ، وأخذنا نرتعد ونتخيل ما حل بصاحبنا أبي سالم .. فما هي إلا ثوان حتى سمعنا عواء قطع سكون الليل .. إنه قطيع من الذئاب أتى من جميع أنحاء المنطقة ليتجمع حولنا فقفزت مسرعاً لأغلق زجاج الأبواب وأقفلها بإحكام فقد قفزت تلك الذئاب على السيارة وأخذت تطرق الزجاج وتعوي وعيونها تتلألأ في هذه الظلمة فما عدت أحتمل ذلك فأغلقت عيني وكان قلبي يخفق ويضرب بسرعة كبيرة كذلك كان أخي أبو فهد ...
وفجأة وجدتني أقرأ المعوذات وأبكي أقرأ وأبكي وأدعو الله وأتضرع إليه أن ينْجينا مما نحن فيه وهكذا فعل أخي أبو فهد فكنا ندعو ونبتهل إلى الله في خشوع ورهبة ما شعرنا بها من قبل فقرأت آية الكرسي وطلبت من أخي أن يرددها خلفي فلم يكن يحفظها وظللنا على هذه الحال فشعرنا بعده بطمأنينة وخشوع حمدنا الله على ذلك كثيراً وبلا شعور منا غططنا في نوم عميق .

عندما فتحت عيني .. لم أصدق ما أرى إنني حي .. إنني حي ..
- أبو فهد استيقظ .. هيا استيقظ ..
- آه أبو يوسف .. ماذا حدث ؟

- نحن أحيا يا أبا فهد .. نحن أحياء ..
- حقا يا أبا يوسف نحن أحياء .. الحمد لله .. الحمد لله ..

- كانت ليلة عصيبة يا أخي " أبا فهد " ..
- حقاً يا أبا يوسف كانت ليلة عصيبة .. صحيح يا أبا يوسف .. ماذا .. ماذا جرى لأبي سالم ..
- حقاً تعال لنبحث عنه ..
عندما فتحنا الباب رأينا آثار أقدام الذئاب .. ولما وصلنا إلى مؤخرة السيارة .. 
- يا إلهي لا أكاد أصدق ما أرى .. دم .. دم أبا فهد لا أستطيع أن أرى شيئاً لنذهب بسرعة أرجوك .
بكينا كثيراً على أخينا أبي سالم فقد انتثرت دماؤه في كل مكان كانت بقع الدم عالقة بمؤخرة السيارة .. كأنه يحاول أن يتمسك بها يريد أي شيء يساعده .

أبو يوسف : أبا فهد هيا نصلي الفجر . قبل أن تطلع الشمس ، كبرت وصليت يا أخي صلاة ملؤها الخشوع والخضوع .. صلينا وكأننا لأول مرة نصلي .. إن لهذه الصلاة لحلاوة لا أستطيع وصفها وعندما انتهينا من الصلاة .. التفت إلى أخي أبي فهد ..
فقلت : أراد الله بنا خيراً بهذا الموقف الذي حدث ليلة البارحة فهذا الموقف عرفنا الله ، فهو وحده سبحانه كاشف الضر ونرجوا من الله أن يقبل توبتنا ..
ابتسم وقال : إن شاء الله .
صمت برهة ثم قال : استقلينا السيارة وحددنا أن يكون اتجاهنا إلى الشرق .. وليفعل الله ما يشاء بنا ، توكلنا على الله فبدأنا البحث وكنا في السيارة نتلو بعض السور والآيات ونتحدث عن تلك اللذة التي شعرنا بها ونحن نصلي ونناجي الله .. ونترحم على أخينا أبي سالم ..
أبو فهد : انظر لقد أوشك الوقود على الانتهاء .
أبو يوسف : لا عليك فمعنا جالونان من الوقود ، هيا لتعبئة السيارة ..

وعندما انتهينا من التعبئة بحثنا عن شيء نأكله فلم نجد سوى قنينة من الماء لا تكفي لغير يوم واحد فاكتفينا ببضع لقيمات من الخبز وقليل من الماء لنرطب بها شفاهنا وحلوقنا فلم تكن الكمية كافية لنرتوي بها فأمامنا طريق لا نعلم متى ينتهي وبذلك يجب أن نقتصد في الماء وعندما استوت الشمس في كبد السماء كان البحث قد أعيانا وبدأ الوقود ينضب نزلنا من السيارة لنصلي الظهر وندعوا الله أن يفك كربنا بعد ذلك واصلنا سيرنا وما هي إلا دقائق وتتوقف السيارة .
أبو يوسف : أبا فهد لم يبق سوى جالون وما عساه أن يفعل .
ابتسم ابتسامة الرضا وقال : الله معنا فما مصير قوم الله معهم .. لنقم بالتعبئة ونواصل سيرنا ..
عندما انتهينا قلت لأبي فهد : هذه فرصتنا الأخيرة وإلا فالموت مصيرنا إذا لم نصل إلى شيء ..
قال : لنستسلم إذن للموت ولنحمد الله الذي لم يقبضنا إليه ونحن في ضلالة .. ولنحمده أيضاً على هدايته لنا ، وندعوه أن يتوب علينا ويغفر لنا ما كان منا وبدأنا نشق طريقنا في هذه القفار كأننا في عالم آخر ..
السكون يخيم على المكان ولا نسمع غير صوت الرياح التي تحرك تلك الشجيرات الشوكية المتباعدة يخالطها صوت محرك السيارة ..
أبو يوسف : أبا فهد .. توقفت السيارة . 
نظر إليَّ وقد دمعت عيناه .. وقال بصوت كئيب : لنتشهد .
سكتنا وكأننا ننتظر ملك الموت ليقبض أرواحنا .. لا طعام .. الماء أوشك على النفاذ .. وعسى أن يكفينا ليوم غد .. قاربت الشمس من المغيب .. ونحن لا زلنا في صمتنا .. لا ندري ماذا سيفعل الله بنا .
صلينا المغرب وأخذنا نذكر الله .. صعدنا بعدها إلى السيارة .. فقد خيم ظلام دامس على المنطقة ..
سمعنا عواء الذئاب .. تقترب منا رويداً رويداً .. مع ذلك لم نكترث .. فالموت مصيرنا .. سواء بين فكي هذه الذئاب .. أو من الجوع والعطش .
قلت لصاحبي أبي فهد : أتظن أن الموت جوعاً وعطشاً أهون من فكي هذه الذئاب ؟
قال : لا أظن ذلك .. فالجوع والعطش أشد لأنك لا تموت بسرعة .. فمن الممكن أن تظل بضعة أيام تكابد الموت .. وكأنك تموت ألف مرة .. 
أما الذئاب فتموت بسرعة بين فكيها .. ولا يضرك بعد الموت أن تمزقك الذئاب .
قلت له : إذن فلنصل العشاء خارج السيارة ..
قال لي : وبذلك نكون قد أقدمنا على الموت بأنفسنا .. فيحل بنا غضب الله ، ولولا ذلك لنزلت الآن .
قلت له : إذن لننتظر قضاء الله وقدره ..

وبعد الصلاة نمنا ونحن نظن أننا لن نستيقظ .. فبطوننا خاوية من الطعام والشراب .. والخمول والتعب قد هدنا .. 
وفي الصباح أيقظتنا أشعة الشمس اللاذعة فقمنا نصلي ونحن لا نقوى على الوقوف .. 
جلسنا بعدها في السيارة لنتقي أشعة الشمس وننتظر أجلنا ..
وأظن أن أبا فهد قد أضرته الشمس كثيراً حيث إنه استلقى على ظهره لا يستطيع الحراك .. فقمت فسقيته من الماء .. فنام والتأوهات تبدد الصمت .. وظللت أنظر إليه وقلبي يتقطع حزناً على ما أصابه .. أفاق مرة أخرى وهو يردد : أريد ماء .. شربة ماء ..
أعطيته كل ما تبقى من الماء .. فهدأ وراح في سبات عميق .. 
عندما رأيت حالته ألقيت بنفسي وقلت هكذا سأنتظر الموت فأنا أيضاً أشد ما أكون عليه من العطش .. والنوم أحسن وسيلة كي لا أشعر بالعطش .. ألقيت عليه نظرة .. ظننتها الأخيرة .. فلست أعتقد أنني سأستيقظ بعدها .. ثم أويت إلى النوم ....


* * *

( ٩ )

كانت الشمس قد انتصفت .. نهضت لأصلي الظهر فلم أستطع الوقوف فصليت جالساً .. أبقظت أبا فهد فصلى على حاله .. فهو لا يقوى حتى على حمل يده ..
ولما انتهى أخذ يستغفر الله ونزلت منه دمعة .. 
قلت له : ما يبكيك ؟
قال : أدعو الله .. أن .. يغفر لي .. خرجت منه هذه الكلمات بصعوبة .
بكيت لحاله ودعوت الله أن يغفر لي وله ....
أطبق عينيه ونام .. ورجعت إلى وضعي السابق .. فليس أمامي سوى ذلك ..
وبعد ساعة قمت من نومي فزعاً على صوت أخي أبي فهد يتألم بشدة ويتصبب عرقاً ويردد : ماء .. أريد ماء ..
جلست بجانبه ووضعت رأسه على حجري وقلت له في حزن عميق : يا أخي ليس ثمة ماء .. لقد نفد كله ..
ظل يتأوه بين يدي .. فبكيت على حاله بكاء مراً ..
فما هي إلا دقائق حتى بدأ يصدر أصواتاً غريبة .
قلت في نفسي : أظنها سكرات الموت ..
فقلت له وأنا أبكي : قل : لا إله إلا الله .
رددتها عليه عدة مرات حتى قالها .. ففاضت روحه إلى بارئها بين يدي .. ضممته إلى صدري .. وظللت أبكي وأبكي ، ثم جلست أذكر الله وأحمده أن هيأ لأخي أن ينطق بالشهادة قبل أن يتوفى ..
وضعته في مكانه .. وأخذت أفكر ماذا أفعل به يا ترى .. كيف أدفنه ؟
ولا أدري كيف خطر على بالي في تلك اللحظات أبو سالم كيف أنه مات بين الذئاب وأنه مات على ضلاله ، وكيف كانت خاتمته سيئة .. ومصيره إن لم يرحمه الله .. فدعوت الله أن يغفر له ويرحمه ..
وجاء في خاطري حال أخي أبي فهد وكيف أن الله قد رحمه بأن اهتدى وتاب .. وكيف أنه نطق بالشهادة قبل وفاته .. فسألت الله أن يحسن خاتمتي ويغفر لأخوي ..
عاهدت الله بعد أن رأيت كل هذا .. عاهدته أن ألتزم بكل ما أمرني به سبحانه وأن أدعو الناس إليه وأدلهم وأرشدهم إلى كل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة .. وأن أبدأ بنفسي أولاً ..
تذكرت أخي أبا فهد رحمه الله ،
فقلت : كيف أستطيع دفنه .. فأنا لا أعرف ذلك بالإضافة إلى أنه ليس معي ما أحفر به ..
وكان الجوع والعطش قد أفقداني توازني .. فسقطت مغشياً عليَّ ..


* * *

( ١٠ )

عندما فتحت عيني ....
يا إلهي .. من أنتم ؟ .. أين أنا .. ؟ أين أبو فهد ؟
- الحمد لله إنه حي .. إنه حي ..
هذا ما قاله الرجال الذين أنقذوني .. فهؤلاء هم جماعة الشيخ أبي وضاح ..
وعلمت منهم فيما بعد أنهم دفنوا أخي أبا فهد فجزاهم الله خيراً ..
وكما ترونني الآن .. أعيش بينهم .. وأدعوهم إلى الله .. فقد أصبحوا أهلي .

كبَّر الحاضرون .. وشكروا الله على سلامته .. 

لكن أبو خالد كان يبكي .. لمحه الشيخ أبو يوسف وهو على هذه الحال .. وبعد أن انصرف الناس توجه الشيخ أبو يوسف إلى أبي خالد ..
وقال : أظنك تأثرت بقصتي يا أخي في الله ..
نظر إليه أبو خالد ..
فقال : نعم .. فقد ذكرتني بابني خالد .
قال الشيخ : وما قصة ابنك يا أخي ؟
جلس أبو خالد والشيخ ومعهم محمد في أحد أركان المسجد .. قص أبو خالد قصة ابنه خالد للشيخ ..
كان الشيخ ينظر إلى أبي خالد في تعجب وذهول ويطأطئ رأسه ويستمع ..
وبعد أن انتهى أبو خالد من حديثه رفع الشيخ أبو يوسف رأسه .. وإذا الدموع تنهمر على خديه فأمسك يدي أبي خالد وقبلهما ..
ثم قال : أرجوك .. سامحنى .. أرجوك .. فأنا ... فأنا خالد يا أبي ..


النهاية

◽️◽️

📚 الفجر الجديد قصة وعبرة
كتبتها : منيرة الشيحه

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق