سؤال بحجم الكون..
هل تجرح الوردة..؟
وهل يطعن القلب.. الذي لا ينضح إلا الطيبة والطهر..
ذلك تماماً ما حدث مع لطيفة.. ذات الثمانية عشر ربيعاً..
حملها والدها وكأنها خارجة للتوّ من معركة ضارية.. وهي مثخنة بالجراح.. إلى قريتهم..
إن كل ما فيها ينزف.. جرحها من خيانة حبيبها..
صدمتها من حظها.. ألمها لعطائها اللامنقطع
لكن..؟ دون مقابل..
قال والدها لوالدتها: ،، البنت تحتاج تغيير جو.. إنها تعيش كآبة.. وستزيد حالتها سوءاً لو لم نخرجها من هذا الوسط الخانق.. إن خيانة خطيبها بمثابة الهواء السام الذي يجب أن لا تتنفسه.. وأحاديث الناس لا تتركها بحالها..
كان والد لطيفة يملك مزرعة رائعة الجمال في قريته..
فذهبت متخففة من كل حمل، القليل من الملابس المريحة، تركت هاتفها وكل ما يصلها بالعالم..
لتلبي نداء الطبيعة.. وتعيش في أحضان النخيل.. وتضم بين يديها الأعشاب الرقيقة النامية حول البيت القديم..
هناك ترتاح..
تغمس قدميها في (اللّزا) – وهو الساقية الممتدة من البئر حتى أحواض الزرع – هناك تحرك
قدميها بهدوء.. وتغمض عينيها.. ترفع رأسها.. لتستنشق هواء رخياً نظيفاً.. نظيف..؟
يــاه..
إنه أبعد ما يكون عن هذه اللفظة.. الحقير الخائن..
وعاد لها الألم.. هنا في أعلى المعدة.. ووضعت يدها على بطنها.. لماذا يتركز ألم الخيانة هنا تحديداً..؟ في المكان بين القلب والجوف.. كطعنة الرمح.. آه..
انتفضت واقفة..
وكأنها تثور على وضعها وتحرك رأسها بشدة لتمسح أية صورة لذلك الكريه الخائن من أن تمر بذهنها..
يجب أن أتذكر كلام المعالجة النفسية..
- انتبهي يا ابنتي.. إياك أن يأخذ تافه مثل هذا.. حيزاً ولو بسيطاً من تفكيرك..! في حياتك أروع وأجمل وأحلى ما تفكرين فيه..
مشت قليلاً..
رفعت رأسها..
فرأتهن شامخات.. صابرات.. متجللات بالهيبة.. والطهر..
حيث أحواض النخيل المتقاربة..
تشم رائحة الطين الرطب.. وليف النخل.. علمها والدها التمييز بينها.. السكرية.. البرحية.. نبوت سيف.. الشقرا.. المسكانية..
آه يا عمتي..
،، هكذا كانت تخاطب النخلة”.. أرأيت..؟ لقد عدت إليك.. لم تحتملني المدينة.. كل شيء فيها معلب.. ومزيف.. ومصنوع.. حتى مشاعرهم وقلوبهم..!
أريدك يا عمتي أن تتخيلي معي.. أن هواءهم ملوث.. ليس فقط بعوادم سياراتهم الفارهه ومكيفات الهواء.. بل إني أجبرت أن أستنشق هواءهم الملوث بالتفاهات والسخافات والمجاملات الغبية.. إنهم مصبوغون بالنفاق.. والمظاهر الكاذبة..
حتى أرواحهم.. متهالكة.. مهترئة.. ليس لها بهجة ولا رواء..
أنا عدت هنا يا عمتي.. حتى لا أفقد ذاتي التي أحبها.. ولا أستطيع احترام نفسي دونها..
يقول لي أبي دوماً ” الرمح يا ابنتي على أول ركزة ”
والآن فهمته.. عندما يصادفك حظ سيء في بدايات حياتك فاعلم أنه ملازمك كقدرك..
عندما أخطب.. وأستعد للزواج.. عندما أترك كل أحلامي وأجعل همي الأول البحث عن سعادة خطيبي..
اضطررت أن أضيف لشكلي الكثير.. وأن أتصنع الكثير.. وأجامل الكثير.. لأجله فقط ولأجل حب..
كنت أموت خوفاً.. ولا أفكر أنه قد يموت في مهده..
لم أعلم أني سأرى بعيني.. كيف يقتل الإنسان الذي أحببته بيديه حبنا.. كنت أشعر أنه يذبحني بطريقة شنيعة.. لم يقتلني بطعنة.. بل سدد لي طعنات كثيرة عابثة.. حتى لم يبق لي ولا لكرامتي مكاناً.. وحتى تناثرت جراحي تنز دماً مريعاً..
لكني عشت.. بل أنقذت نفسي منه.. وهو الذي يصفني بـ (القروية!)..
فليته كان قروياً.. لأعلمه درساً في الشرف والفضائل..
لكنه كمدينته التي يفخر بها.. خالٍ وخاوٍ من أي مشاعر.. سوى الشكل والمظهر..
تركته يا عمتي وجئت إليك بجراحي..
أنا لطيفة.. كما أنا.. كما كنتِ تحضنيني في طفولتي لأرسم على تربتك كل أحلامي.. وأن تشابكت خطوطها..
كان خطأي دوماً.. أني إنسانة طموحة.. لكني غير واضحة الهدف..
لكني هنا الآن أتعلم منك.. منذ متى وأنت تعطينا..؟ منذ متى وأنت عمتنا التي نعرفها لم تتبدلي ولم تتغيري..
هذا لم ينقص قدرك.. أنتِ كما أنت.. لا غنى عنك.. ولا بديل.. ولن نرضى استبدالك حتى.. فكيف لم أكن مثلك..؟
وهل بقي في وقتي متسع.. لألملم جرحي.. وأقف مثلك شامخة منتصبة..؟
كان أبي يضرب بعض جذوعك.. فأسمع لها صوتاً غريباً.. فيقول لي: ”أنظري يا لطيفة.. تموت النخلة واقفة.. تظل واقفة كما هي.. تخفي موتها وضعفها عن كل من يراها.. وأولهم.. أعداؤها.. حتى لا تقلع عن فسائلها وتمنع من حمايتهم.. ”
عجيب أمرها عمتي..!
ابتسمت بعدها لطيفة.. وهي تمرر يدها على جذع السكرية في أقصى الحائط الشمالي..
أحست بذاك النوع من السخرية المرة.. التي تتحول معه كل الأشياء حولك إلى رسومات طريفة مثيرة للضحك..!
أنا لم أخسر شيئاً...!
هكذا هتفت لا شعورياً.. ،، نعم لم أخسر.. هو خسرني.. هذا الغبي.. وأنا لطيفة.. وهذه عمتي.. وهذه هي روحي التي أعرفها جيداً..! لقد عدت.. والعود أحمد..! ،،
* *
من أحبك لشيء أبغضك لفقده
قول مأثور
* *
◽️◽️
📚 مجلة حياة العدد ٦٣
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق