حكايات خلف الأبواب
إهداء
أختي وصديقتي .. وتوأم روحي :
( أم عبد الله ) .. الغالية ..
إلى الإنسانة التي يفوح من قلبها روائح الخير .. والعطاء اللامتناهي .
إلى الوجه الذي علمني .. أن الحياة بكل أهوالها .. وصعابها يمكن أن تحلو عند بسمة حانية ، ونظرة ملؤها الوفاء .. إلى اليد التي أغدقت عليّ بكل الحنان والأخوة .. فاتكأت على سخائها لأقوى .. وأمضي في دروب الأيام ..
إليك أيتها الرائعة .. أروي هذه الحكايات .
سحر الناجي
المقدمة
* فلسفة الزواج
قال الله تعالى : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء "
الزواج ومراكبه الذهبية التي تنساب بنعومة وشاعرية في أحضان الحلم ، ثم ترسو في نهاية المطاف فوق شاطئ مجهول .. هذا الطيف الحالم ، أو لنقل هذه الأمنية المنعشة التي غالباً ما تراود الفتيات في سن المراهقة ، وأحياناً تتبلور وتتضخم في مرحلة النضوج حتى تملك عليهن كل الأحاسيس والخيالات الممكنة ..
فتذهب البعض منهن – بعيداً عن الواقع – إلى تخيل الزواج على أنه فردوس ساحر تحيطه الأزاهير الفواحة وتزينه الورود العطرة من كل جانب ، وقد تتصوره أيضاً مغرقاً بالدفء والحنان اللذان يشيعهما ذلك الفارس الأسطوري المعتلي عرش السعادة ،
وقد تعتبره أخريات – وهنَّ من وَقعن فرائس لتأثير الروايات الخيالية والأفلام الملغمة بمشاهد الحب والهوى – مجرد رحلة جميلة في قلب عالم غامض خلاب مُفعم بالسِحر والمغامرة والتشويق ،
في حين نجد فئة ثالثة تنظر إليه على أنه علاقة نفعية ومصالح مشتركة بين الطرفين ، يمكن أن يُغنم من ورائها بالثراء والمركز الاجتماعي المرموق بالإضافة إلى لرفاهية والحياة الباذخة ،
لكن هل هذه حقيقة الزواج فعلاً ؟ وهل هذه أسسه وشروطه المطلوبة ، فماذا إذن عن الاختيار الموقف بين الطرفين ، بل ماذا عن المرحلة التي تعقب الزواج بما تنضح من تجارب حقيقية غالباً ما تكون صعبة ، يتداعى عندها كل احتمال ممكن للطمات الواقع المرير .. ؟!
لكن هل هذه حقيقة الزواج فعلاً ؟ وهل هذه أسسه وشروطه المطلوبة ، فماذا إذن عن الاختيار الموقف بين الطرفين ، بل ماذا عن المرحلة التي تعقب الزواج بما تنضح من تجارب حقيقية غالباً ما تكون صعبة ، يتداعى عندها كل احتمال ممكن للطمات الواقع المرير .. ؟!
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يتوقف لديه الكثير من العقلاء ليُحَللَ بحكمة وروية قبل الإقدام على هذه الخطوة المصيرية سواء من قبل لفتاة أو الشاب ، حيث يعتبر الزواج – بالرغم من كل الأحلام – مؤسسة عظيمة يجب أن تقوم على مبدأ التفاهم والتكافؤ ، هذا إلى جانب التنازلات الإيجابية بين الشريكين ، وليس على مجموعة من الرموز والخيالات الوهمية المثيرة التي يقوم بتصنيعها أرباب الخيال الجامح ممن يعملون في الأدب والتمثيل ..
ولأن الزواج رابطة من الضروري أن تنهض على ما ذكرنا ،
يروي لنا التاريخ في هذا الصدد موقف طريف لأحد الفلاسفة
حيث قرر الرجل أن يخوض تجربة الزواج كغيره من الرجال
فعُرض عليه ثلاث فتيات جميلات ليقوم باختيار إحداهن حتى تكون شريكة لحياته
فأراد الرجل اختبارهن بذكائه ، فقدم لكل واحدة منهن مجموعة من اللآلئ الثمينة التي دُهشت لها الفتاة الأولى وقالت بإعجاب : " إنها حقاً لآلئ جميلة " .
حيث قرر الرجل أن يخوض تجربة الزواج كغيره من الرجال
فعُرض عليه ثلاث فتيات جميلات ليقوم باختيار إحداهن حتى تكون شريكة لحياته
فأراد الرجل اختبارهن بذكائه ، فقدم لكل واحدة منهن مجموعة من اللآلئ الثمينة التي دُهشت لها الفتاة الأولى وقالت بإعجاب : " إنها حقاً لآلئ جميلة " .
وقالت الثانية بغرور : " لو كانت مع هذه اللآلئ ماسة ذات قيمة " .
أما الثالثة فقالت : " لا أريد هذه اللآلئ فأنا يكفيني الحب .. ".
بعد هذه التعليقات الموجزة ، برأيكم من سيختار الفيلسوف بين الفتيات لتكون زوجته ؟
يُقال أنه اختار الأولى لأنها – على حد قوله – " فتاة قنوعة رضيت بما قُدم لها وسعدت به "
أما الثانية فهي كما قال " طمَّاعة شرهة لا تقنع بما يقدم لها وتسعى للمزيد "
والثالثة " خيالية غير واقعية لا تصلح للحياة الزوجية وتحمُّل مسئولياتها .. ".
أجل .. هذه هي الفلسفة الواقعية والأبعاد الحقيقية لما وراء رابطة الزواج
وليس اللهاث أو تحقيق كل ما تبثه قنوات التلفزيون وتصوره الروايات الزائفة من أوهام وسراب عن الحب وهمسات الحب التي سرعان ما تتحول إلى عِشَرةٍ وأولاد ورحلة عمر تجتاحها عواطف الحياة وهمومها العديدة ،
وهذا ما يعرضه كتابنا في الصفحات التالية من مواقف وأحداث تقع بين الأزواج والزوجات في كثير من القصص الواقعية ..
وليس اللهاث أو تحقيق كل ما تبثه قنوات التلفزيون وتصوره الروايات الزائفة من أوهام وسراب عن الحب وهمسات الحب التي سرعان ما تتحول إلى عِشَرةٍ وأولاد ورحلة عمر تجتاحها عواطف الحياة وهمومها العديدة ،
وهذا ما يعرضه كتابنا في الصفحات التالية من مواقف وأحداث تقع بين الأزواج والزوجات في كثير من القصص الواقعية ..
والله ولي التوفيق ،،،
~
١ ـ غلطة .. شنيعة
- لا يمكن .. لا يمكن أبداً ...
انهارت كل قواه .. وشعر بمرارة تعتلي حلقه ، فوضع يده فوق رأسه وراح يولول كالمفجوع :
- أنا لا أصدق ما يحدث .. لا أصدق ..
كان يموج في المنزل موجاً متلاطماً ، يزمجر حيناً .. ويبحلق في الدنيا حيناً آخر ، ثم يقول كالمخنوق :
- هذا آخر ما كنت أتوقعه في هذه الحياة ..
لم يهدأ أو يستكين منذ أن سمع بالخبر .. وأثناء عودته إلى المنزل كان يقود عربته ساهماً بينما أصداء النبأ تتشنج لها خلاياه ، لكنه في النهاية استيقظ من لوعته على تقزز وقرف أصاباه ، فصرخ :
- يا إلهي .. لا ..
نهض من كرسيه يجوب المكان في ألف خطوة .. كان يعدو في كل البقاع وهو متسمر في مكانه ، حتى توهم بأن الكواكب يدور به بسرعة رهيبة ، يدور ويدور حتى يثخنه بالإنهاك ، فتسائل وهو يترنح :
ماذا أقول للأولاد .. للأهل .. لجيران ، ماذا أقول لأمي ؟! ..
كاد أن يسقط لولا مقعد كان في الجوار احتضنه ، جلس فوقه كالمغشي ، وهمس يوصي نفسه بالتزام الهدوء قليلاً ليتبين الوقائع ، وبلا وعيي منه تحسس جسده .. ورأسه ثم تساءل :
- هل هو حلم هذا .. أم خيال ؟!
داهمته ذكرى الفجيعة مرة أخرى ، فقفز كالملدوغ ، كان ألف خاطرة وخاطرة تحط على ذهنه المشتت .. أين .. ومتى .. وكيف .. ولماذا ، لذلك تلعثم .. وارتبك .. جلس مرهقاً وهو يقول بصوت متقطع :
- كارثة .. مصيبة ..
رجع بذاكرته إلى أيام طفولته ليفتش عن مبرر معقول في أحراش الماضي ، صور كثيرة طفت على سطح ذاكرته ، اقتطف منها بداية مسرفة بالقدم ، لا سيما الحي القديم في الشارع الغربي ، وعصبة من الأولاد كانوا يلعبون " الحبشة " ، في ذلك اليوم خرجت " هناء " ابنة الخمس أعوام من البيت الملاصق لبيت ذويه .. قالت له بخشونة وهو منشغل باللعب معهم :
- أحمد .. أريد أن ألعب معكم ..
لم يمهلوه الصبية ليقرر بعد أن رأوا حيرته ، بل تصدوا لها ونهروها بقسوة ، قال لها كبيرهم :
- اذهبي يا صغيرة والعبي مع البنات ..
في ذلك الوقت كانت هناء تبتعد وهي ترجمهم بالحجارة ، وتتوعدهم بعلقة ساخنة من أخيها محمود .. وكان يلحظها أحياناً وهي تتحرش بأطفال الحي الصغار ثم تشبعهم ضرباً ، حتى استطاعت أن تولي من نفسها زعيمة عليهم ، ورغم ذلك كبرت هناء .. وكبر معها حلمه بأن تكون له ، كان يحب فيها الجرأة والتمرد .. قالت له أمه بامتعاض :
- لست أدري ماذا يعجبك في هذه الفتاة المسترجلة حتى تتزوجها .. !
داهمته هناء بملامحها البريئة وقسماتها الناعمة ، داهمه همسها ورقتها ، كانت تداعبه ذات مساء يوم ، فقالت له وهي ترفع يدها المكورة في الهواء :
- ليتني أتحول إلى رجل لأقتص للنساء منكم معشر الرجال ..
ثم تذكرها وهي تميل على الجانبين في أشهر الحمل الأخيرة وتئن من آلام الوضع ، فمس كالمشدوه :
- لا يمكن أن يكون كل هذا وهم أو سراب ..
لكن الطبيب قال له بارتباك وحذر :
- اسمعني جيداً هذه معجزة من معجزات الخالق سبحانه .. وعليك أن تقبل بالأمر الواقع ..
ثم نأى به جانباً وأردف :
- حالة زوجتك نادرة جداً ، فهي نصف ونصف !
قهقه بجنون .. وصرخ :
- أنا زوجتي .. رجل .. !!
قال له الطبيب : بإمكانها أن تحيا كرجل إن أرادت .. فالمسألة تحتاج إلى تدخل جراحي .. والقرار يعود إليها ..
- هل كنت أعيش مع رجل طوال هذه السنين !!
سأل بهستيريا وراح يترنم على ذكرى المصيبة :
- يا عيني يا هناء .. ستصبحين سيد هذا البيت .. !
وتخيلها بشارب ولحية ، فجن جنونه .. ثم تصورها وهي تقف أمامه نداً لند وتقول له بتحدي :
- لا فرق بيننا الآن .. دعنا نتفاهم رجل لرجل ..
نظر إلى ساعة معصمه .. وقال بقلق :
- ستعود هناء بعد قليل من زيارة أمها – فكيف أواجهها بالأمر .. وماذا سأقول لها .. وأي الحلول ستختار ؟
كمٌّ من الأسئلة الأخرى يرهقه ، فوجم .. وشرد .. وامتعض ، بالأمس .. بالأمس فقط كان يعاملها على أنها أنثى ، حيث كانت تشكو من الدوار والغثيان فقرر أن يأخذها إلى الطبيب للمعالجة .. وليته لم يفعل .
فجأة علا رنين الهاتف يلطم سمعه ، فقام يجيبه بتثاقل :
- نعم .. من ؟ .. آه .. أهلاً دكتور ..
وأخذ يستمع إليه بينما جبينه يأخذ شكل العبوس ثم الذهول .. ثم الغضب ، صاح بانفعال :
- ماذا .. غلطة ! ولكن هذه غلطة لا تغتفر ، ثم كيف يمكن للممرضة أن تخطئ في الملفات بهذه البساطة .. ؟!
- لا .. يجب أن تعاقب .. أجل لا بد من عقابها .
وصمت لحظات أخرى يصغي .. ثم هتف بسعادة ..
- هكذا إذن .. الله يبارك فيك .. شكراً لك أيها الطبيب العظيم ..
وضع السماعة ، وأخذ يرقص بلا إدراك وينشد :
- غلطة .. غلطة .. هناء ستظل امرأة .. غلطة .. غلطة ..
ودخلت عليه هناء فجأة بصحبة الأطفال وهو يدور حول نفسه ، فدهشت لمرآه .. وسألته بتعجب :
- ما بك يا رجل .. وما هذا الذي تفعله !!
اقترب منها .. وأخذ يدها – قال يدللها وهو يجلسها على المقعد :
- أهلاً بزوجتي .. بإمرأتي .. وحبيبتي ..
- ماذا هنالك يا أحمد .. ؟
- مبروك يا عزيزتي .. لقد ظهرت نتائج التحاليل .. أنت حامل يا هناء ...
علقت على فرحه ضاحكة :
- وهل كل هذا الفرح من أجل الوليد الجديد .. إن لدينا العديد من الأطفال والحمد لله ..
قال وهو يحتضن العالم :
- أجل .. من أجل وليدنا .. فهو بشارة خير ..
٢ ـ من أجلك يا أعز الناس
كان ينساب إلى منزله وهو يرزح تحت عبئ من الإجهاد الذي تكاثف عليه – هولاً – في يوم عصيب ، وكان يُمني نفسه في هنيهات الشقاء براحة قصيرة يستمدها من واحة الأمان الضائعة عن مساحات عمره .. لكنه سرعان ما توقف أمام هول المفاجأة الجاثمة عند حدود خطواته ، فراح يتأمل المكان باستغراب ، ويحتضن الأجواء المحيطة به وكأنه يقتحم ليلة من ليالي الحلم المستحيلة .. لم يكن يصدق ما يرى ، ولا بد أن إجهاد العمل المتواصل قد زين له في خياله أوهاماً بات يراها حقيقة .. ولا بد وأن قوىً خفية قد اختطفته إلى دنيا الأماني ، فانتعش لتدفق الحلم وراح يوزع حدقاته على الشموع والأضواء الخافتة .. وعلى الزهور العطرة المتناثرة في كل ركن من أركان المنزل .. حتى المائدة المنسقة والمزينة بأطايب الطعام بدت له وكأنها وليمة رائعة استحضرت من عالم مترف وأنيق .. إلى أن استقرت أهدابه على المرأة الفاتنة التي وقفت تنظر إليه بلهفة وتنتظره بابتسامة عذبة .. هنالك همس إلى نفسه موبخاً وهو يتراجع إلى الوراء بخطوات مترددة ومتحفزة للهرب :
- ماذا فعلت أيها الأحمق .. إن هذا المنزل ليس بمنزلك .. !
ولكن المرأة جمدته مكانه بترحيب رقيق :
- أهلاً .. يا عمري ..
هذا الصوت .. هذا الصوت ليس بغريب على مسمعه ..
فرك عيناه ، وسأل بحرج وهو ما زال يعد ساقاه للانطلاق :
- من أنت ؟
أجابته بدلال وضحكة مجلجلة ساحرة جعلته يرتعش :
- ماذا بك يا عزيزي .. أما عرفتني ؟!!
يا إلهي .. إنها زوجته .. لا .. لا يمكن أن تكون هي ، فزوجته واجمة عابسة ذات شعر أشعث وهيئة مزرية ..
- زوجتي .. هل أنت زوجتي ؟ ولكن ماذا فعلت بنفسك يا امرأة ؟
سألها وهو يتأمل أناقتها الجذابة وتسريحتها الرقيقة ، ثم التفت حوله وبدأ يتكيف قليلاً مع واقعه الساحر :
- وما كل هذا ؟
أمسكت بيده تشده إلى أقرب مقعد كالمشدوه ، ثم قالت وهي تجلس عند قدميه :
- كل هذا من أجلك يا أعز الناس ، لقد أعددت لك اليوم ما لذَ وطاب من الطعام والحلويات ..
سأل بهلع :
- لماذا .. وما المناسبة ؟
- وهل يجب أن تكون هناك مناسبة لأفعل ما أفعله الآن ؟!
قال يسكب وجعه عبر كلمات محرقة :
- نعم .. وغالباً ما تكون مناسباتك السعيدة ، لا ناقة لي فيها ولا جمل ..
وتابع يهطل عليها بوابل من السخرية :
- كما أن هذه الشاعرية ليست من سماتك .. وأنا لم أتعود منك قط هذه اللمسات الحالمة !
ثم أكمل بحنق :
- فأنت لا تجيدين سوى الشجار .. والنكد .. ورائحة البصل .. !
- كنت مخطئة ..
فاجأته بندمها وأردفت تعده :
- ومنذ اليوم وصاعداً .. لن تجد مني إلاّ ما يرضيك .
تضخمت دهشته ، حاول أن يلطم ذهوله بانتباهة مقنعة ، أو يسترجع في ذاكرته سبباً لهذا التحول الخطير .. ولكن دون جدوى ، كان الحدث قد استعصى على استيعابه .. فصرخ :
- أريحيني .. لماذا تفعلين ذلك ؟
قالت هامسة :
- سنتحدث بعد العشاء .. !
لكنه كان يتقوقع في مجاهل الحذر ، فقال معانداً :
- بل .. سنتحدث الآن ..
- كما تشاء يا حبيبي ..
وأردفت تدخل إلى صلب الموضوع بقولها :
- كنت فقط أريد أن أذكرك بأمر النقود .. !
- أية نقود ؟ ..
- الخمسة آلاف ريال التي ستدفعها لي كي ..
ضرب على جبينه متذكراً :
- آه .. كي تشتري العقد الذي أعجبك ..
- أجل يا حبيبي ..
والتقط مفاتيحه .. وقفز كالملدوغ .. قال :
- كنت أعلم بأن هذه الشاعرية المصطنعة لك تخفي كيداً .. بل شركاً .. ولكني لن أستسلم لكيد النساء .. لا .. لن أفعل .. !!!
وصرخ وهو يقترب من الباب :
- ألا تفهمين بأن امكانياتي لا تسمح .. ألا تفهمين ؟! ..
استشعرت هي اليأس في لحظة ، وأدركت بأن تجربتها معه قد فشلت ، فنادته باستجداء وهي تلحق به تهدئ من حدته :
- حسناً .. حسناً .. كما تريد يا عزيزي ، ولكن لا تخرج الآن .. !
قال بريبة يبدد سحب الغضب المتجمعة في الأفق :
- يعني .. ؟!
- يعني لن أرغمك على شيء .. طالما أنك لا تستطيعه !!
وسألها من جديد متشككاً :
- وهذه الحفلات والولائم الشاعرية .. هل ستتوقف ؟
قالت بصدق :
- لا .. وأعدك بتكرارها .. ولن يكون وراءها أية مآرب أخرى !
وبعد عشاء لذيذ .. وحديث شهي ، همس لها من وراء الشموع منتشياً :
- سأحاول أن أبحث عن عمل إضافي .. حتى أشتري لك كل ما تريدين !! ..
٣ ـ لا أقدر على الحياة .. بدونك
تندهش لذلك الجانب الحيوي من شخصيته ، لباقته .. وفطنته المغرقة بذكاء متقد .. حتى أناقته تبهرها ، ولعل قامته المهيبة كانت تشعرها – كلما وقفت في مواجهته – بتلك القوة الساحرة والمتدفقة من حضوره .. فتستكين إلى الضعف خاضعة لإرادته ، أجل .. إنها متيمة به ، لكنه لم يمنحها لا الوقت .. ولا الأجواء المناسبة لتطلق نحوه بنسائم عشقها ، فهو على الدوام مكبل بأعماله وإنجازاته .. منشغل بأرقامه وحساباته ، وإذا ما اقتنصت سانحة مواتية لتشاركه نجاحه ، قال يسكب على فضولها بفيض من سطوته :
- أنت هنا فاتنة هذا البيت الفاخر .. فضعي كل اهتمامك لتلوينه بلمساتك الناعمة ، أما أعمالي .. فلا شأن لك بها .
كيف لا تهابه .. وهي ترى الرجال بكل عنفوانهم يحسبون له ألف حساب .. رجال وموظفون وإداريون يهرعون للقائه .. ويسعون إلى رضائه ، عند هذا الحد أيقنت أن أسوار شامخة تحول بينها وبينه ، ففقدت الأمل في أن تسود علاقتهما شاعرية العواطف .. وانطوت على نفسها ترعى شؤونها .. تاركة له عمله الصاخب بالنجاحات المتتالية ..
في صباح يوم دافئ .. وقبل أن يخرج إلى أعماله ، أتته الخادمة بالهاتف .. تبلغه أن ابنة خاله تتصل من الخارج وتريده بأمر هام ، كان لا يزال يتناول إفطاره ، فلم تُلقِ هي بالاً في بادئ الأمر إلى ذلك الترحيب الحار الذي استقبل به قريبته ، لكنها تعجبت أن يملك " وسيم " ذلك القدر من الحنو والمشاعر الرقيقة نحو امرأة ما ، وحين أخذ الهاتف وتسلل بعيداً عنها أدركت أن هناك ثمة أمر غريب يدور في الخفاء ، فألقت الشوكة من يدها وقالت للخادمة بعصبية :
- إذا سأل عني السيد فأنا في حجرتي ..
ولم يتوقف الأمر بها عند هذه الواقعة ، حيث أصبحت المحادثات بين وسيم وابنة خاله شبه يومية ، كانت تهاتفه " جميلة " في الصباح والمساء .. وأحياناً بعد منتصف الليل .. وبعد أن تتجمر الغيرة بين جوانحها وتحرقها ، وكي تلجم صوت الشك الثائر في صدرها ، سألته ذات مساء بارتباك تدخل إلى تفاصيل الحقيقة :
- يبدو أنني لم ألتق بجميلة منذ زواجنا .. أليس كذلك يا وسيم ؟
قال ببرود وهو يتصفح جريدته اليومية :
- أجل .. فقد كانت تقيم في الخارج منذ سنوات طويلة ..
سألته فجأة بعفوية :
- وما كل هذه الاتصالات بينكما .. ماذا تريد منك .. ؟
شعرت أن سؤالها قد أغضبه حيث رمقها بنظرة ذات معنى من عينيه الداكنتين ، ثم أجاب باقتضاب :
- إنه مجرد عمل ، لقد كلفتني .. أن أشرف على ترميم منزلها القديم في الضاحية الشرقية ، لأنها ستحضر للإقامة النهائية هنا بعد أسابيع قليلة ، وخصوصاً وأن زوجها قد توفي قبل أشهر مضت ..
آه .. هكذا إذن .. فهي أرملة ، ولكن ما سر الاهتمام بها من جانبه ، هل يمكن أن يتجاوز الأمر قرابتهما وينحدر إلى الماضي مثلاً ، كأن يكون هناك قصة حب قديمة أو مشروع زواج فاشل بينهما .. !
على كلٍ .. لو كان هذا صحيحاً فهاهي تعود إليه من جديد بعد أن غيَّب الموت زوجها .. وأزاله من طريقهما ..
كانت كل هذه الهواجس تباغتها ، ولا تجعلها تشعر بالراحة أبداً ، وفي إحدى الليالي افتقدته .. كان فراشه خالياً بجوارها ، فتسربت تبحث عنه في كل مكان ، وفي القاعة الرئيسية لمحته يجلس في الظلام ويتحدث في الهاتف بما يشبه الهمس ، تناهت إليها ضحكاته العذبة .. وكلماته الناعمة .. كان يقول :
- وأنا أيضاً مشتاق إليك ..
وتابع : اطمئني يا عزيزتي .. سأنهي الموضوع قريباً .. وسيكون كل شيء كما تريدين ..
وأردف وكأنه على مشارف الخيال :
- سيكون حفل زفاف رائع .. وستكونين أجمل عروس ..
لم تقدر على الصمود لتسمع المزيد .. فهرعت إلى حجرتها يُسيَّرُها عذابها .. وأثناء مشيها تعثرت بأريكة جانبية وأسقطتها فتنبه هو لوجودها .. التفت إليها .. وقال بدهشة :
- أمل .. أنت هنا ؟ ..
أجابته وتعاسة الدنيا تسكنها :
- أجل .. أنا هنا لأسمع مخططك للتخلص مني .. لم أكن أعلم بأني مخدوعة إلى هذه الدرجة ..
وفرت إلى حجرتها تحزم حقيبتها ، وعندما وصل إليها كان اليأس قد أحال ملامحها إلى خطوط شاحبة .. سألها :
- لم كل هذا .. ماذا تفعلين ؟
صاحت تكتم شهقات بكائها المتربصة بصوتها المرتجف :
- إني راحلة .. لأوفر عليك الوقت في الانتهاء من موضوعنا .. الآن فقط عرفت لماذا كنت تبعدني عن عالمك .. لم كنت تحصرني في دائرة حياتك كقطعة أثاث جميلة .. كل ذلك من أجل تلك ..
قاطعها وهو يهزها بعنف :
- ماذا تقولين .. ؟!
قالت تجلس على حافة السرير منهارة :
- أجل ... ألست تريد الزواج من ابنة خالك .. لقد سمعت كل شيء .. !؟
أطلق ضحكة مدوية جمدت الدم في عروقها ، قال يقترب منها :
- أيتها المجنونة .. هل تعرفين أن جميلة هذه ليست إلا أختي ؟!
صرخت بذهول : ماذا .. أختك !
هزَّ رأسه : أجل .. أختي في الرضاعة ..
وقفت وتراجعت خطوات إلى الوراء لا تفهم .. قالت بحيرة :
- ولكنك كنت تتحدث إليها في موضوع زفافكما ..
- بل كنت أناقشها في موضوع زفافها إلى صديق لي كان قد تقدم لخطبتها منذ مدة ، لذلك طلبت هي إليَّ ترميم بيتها القديم ليكون عشهما الزوجي ..
وضعت يدها على فمها تشعر بالخجل ، بينما قال هو بسعادة غامرة يُضيق عيناه فجأة :
- ولكني .. ما كنت أعلم أن شخصيتك الهادئة .. تخفي كل هذا لغضب ..
رددت بحياء : هذا لأني .. لأني ..
نظر إليها بحنان يحثها على الكلام : لأنك ماذا ؟
أجابته تنظر إلى الأرض : لأني .. لا أريد أن أخسرك ..
ضحك يشاكسها بجاذبيته : وماذا أيضاً .. ؟!
قالت تتنفس بصعوبة ، فقد حانت اللحظة التي انتظرتها طويلاً .. ويجب أن تقول ما لديها .. تابعت ترتجف :
- ولأني لا أقدر على الحياة بدونك ..
صرخ بانتعاش : يا الله .. أين كانت كل هذه المشاعر الجميلة .. لماذا لم تظهريها لي قبل الآن .. ؟
قالت بحزن : لأنك لم تمنحني الفرصة لذلك ..
وقف يتأملها للحظات ثم قال يبتسم لها ابتسامته الدافئة : كم كنت مغفلاً .. كي أحرم نفسي من أحاسيس جميلة كهذه ..
قالت باعتراض تغطي فمه بكفها : لا تقل ذلك عن نفسك .. فأنت أعظم رجل بالنسبة لي ..
همس إليها يبدأ معها بداية جديدة : وأنت أيضاً .. أجمل .. وأرق .. وأعذب امرأة في وجودي ..
٤ ـ أمكَ .. سبب المشاكل ..
كانت قد قررت أن تضع حداً لما يحدث ، أو أن تُنفس عن غضبها في أقرب فرصة سانحة مواتية .. فصرخت – تلك الليلة – في وجه زوجها ثائرة :
- أمك .. سبب كل المشاكل بيننا !!
ثم تابعت وهي تذرع الحجرة كالمجنونة : ولولاها .. لكنت أحيا بسلام الآن ..
تأمل خطواتها المبعثرة بذهول ، ثم قال وهو يقذف أنفاساً كالحمم :
- وهل تريدني أن أعُقَّ أمي ، أو أن أتشاجر معها .. لكي تعيشي بسلام !!
- وما ذنبي لأن أحيا في جحيم من المشاكل ؟
جلس كل منهما كالمشدوه ، وحاولا في لحظات الصمت هذه أن يستجمعا خيوط المشكلة ، لكنه وقف على حقيقة عظيمة ، فهمس كالمسلوب في غمرة انفعاله :
- إنها أمي .. وإياك أن تنسي هذه الحقيقة ؟؟
- وأنا زوجتك !
- وأنا لم أقصر بشيء من حقوقك !
قالت مُقرة بهدوء : ولم أنكر ذلك أبداً ..
رجع بذاكرته إلى بداية المشكلة .. وبالتحديد إلى الساعة المتأخرة من الليل التي عاد فيها برفقة أطفاله وزوجته من زيارة أهلها ، كانت أمه تنتظرهم في الصالة المظلمة بينما نظراتها تلتهب من الغضب .. فبادرته بسخرية :
- الحمد لله على السلامة يا سيد خالد .. ألم يحن الوقت أن تتذكر أمك التي تجلس وحيدة في هذا المنزل المهجور ؟!!
تغاضى عن كلماتها الحارقة ، فاقترب منها وقبَّل رأسها قائلاً :
- لم أنساك يا أمي الحبيبة ، ولكنك أنت التي رفضت الذهاب معنا رغم إلحاحنا عليك ..
قالت بامتعاض بينما كانت توجه إلى زوجته نظرات ذات مغزى :
- وأنا لا يشرفني الذهاب معكم إلى مثل هذه الزيارات ؟!! ..
هنا انفجرت المشكلة ، وثارت ثورة " نورا " ، فحاول أن يهدئها ريثما تخلد أمه إلى النوم ثم يتفاهما ، ولكن زوجته بقيت مشحونة كقنبلة موقوتة ..
تذكر أمه وهي تنتقد طعام " نورا " أمام الجميع وفي كل مناسبة ، وتذكرها أيضاً وهي تنهر الأطفال ثم تتهم أمهم بأنها قد أساءت تربيتهم ، وأخيراً وهي تشكو للأقرباء والغرباء من سوء معاملة " نورا " الغير حقيقية .. فزفر بقوة .. وتمتم :
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. هداكِ الله يا أمي !!!
تنبه لزوجته وهي تبكي بحرقة وتقول :
- صدقني يا خالد .. كنت أحاول أن أرضيها وبأي شكل ، ولم أُقصَّر عن خدمتها أبداً ..
أشفق عليها ، فاقترب منها قائلاً بتأثر :
- أدرك ذلك يا عزيزتي ، وأعلمه جيداً ، لكنها تبقى أمي المسنة .. والعجوز التي ينبغي أن نسايرها قليلاً ..
تساءلت باستغراب : لا أدري .. لم تكرهني ، وتكره أهلي إلى هذا الحد .. !!؟
أجاب بتعقل :
- لا .. لا يمكن أن تكون كراهية هذه ، ولكننا يمكن أن نسميها نوعاً من الغيرة والأنانية ، فلا تنسي بأن كبار السن غالباً ما يعودون أطفالاً في أطوار حياتهم المتأخرة ، لذلك فهم لا يُحبون مَن يُشاطرهم عواطفهم ولعبهم ..
ثم أردف ضاحكاً .. ويبدو أنني وأنت أصبحنا لعبتين غاليتين على أمي ..
قالت جادة : أنت تمزح .. والمشكلة ما زالت قائمة !
أجاب وقد نفذ صبره ..
- وما زالت هذه المرأة أمي .. ولا يمكنني أن أغير من هذه الحقيقة شيئاً !
- إذن وما الحل برأيك ؟!!
أجابها بحنان :
- الحل يكمن في أن تعامليها وتتحملي عثراتها كأمك تماماً ..
ثم سألها :
- ألا تصبرين على أمك ، وتتحملينها إذا ما أخطأت ؟؟
قالت وهي تتنهد : بلى ...
- إذن لم لا تفعلين نفس الشيء مع أمي ..
قالت باستسلام وهي ترمقه بعتاب :
- حسناً .. سأفعل هذا لأنك غلبتني في هذه الناحية .. فيجب أن أكون عادلة ما بين أمك وأمي .
قال يداعبها لينهي المشكلة :
- سنرى بعد ثلاثين عاماً ، ماذا ستفعلين مع زوجات أبنائك أيتها العجوز المسنة !!
قالت بإصرار وتحفز :
- سأكون " حماة " مثالية ..
ضحك بسعادة .. وقال مؤكداً : وأنا لا أشك بذلك ، لأنك ستكونين دائماً امرأة عاقلة .. وطيبة !!
٥ ـ قرار .. أنتِ تدفعيني إليه
فجأة .. خرجت عن صمتها ، قالت بحدة وهي تجلس إلى جانبه في العربة ، وتوزع نظرها بينه وبين الظل الذي ظهر أمامها :
- أنظر أمامك يا رجل ولا داعي للتحديق ...
التفت إليها مندهشاً :
- وماذا ترينني أفعل .. إني بالفعل أنظر أمامي ، لأنني ببساطة سائق هذه المركبة ..
قالت تلوي شفتيها غير مصدقة تتهمه :
- بل كنت تنظر إلى الناحية الأخرى .. وبالتحديد إلى تلك المرأة التي تقف هناك .
أخرجته عن طوره .. صاح باستياء :
- اتق الله يا امرأة .. إنها مجرد عجوز مسنة .. !
إنها ترصد له الأخطاء وفي كل مناسبة .. حتى وإن كانت غير حقيقية ، فقط يسيطر عليها وهمٌ قاتل بأنه يخدعها .. وكثيراً ما كانت تتخيل بأنه سيتركها يوما ما .. من أجل امرأة أخرى ، لهذا قالت تثيره :
- هل رأيت .. ! لقد كنت تختلس النظر إليها وإلاّ ما أدراك أنها سيدة عجوز .. !؟
ضرب بيديه على رأسه .. وهو يكاد يفقد صوابه هاتفاً :
- من الطبيعي أن انظر نحوها ، فقد كانت تعبر الطريق .. أم تريدينني أن أصطدم بها ؟
صمتت بامتعاض غير مقتنعة بتبريره ، وفي المساء .. أوشكت الهواجس أن تستبد بها .. والغيرة تنهش قلبها ، فقد تأخر " حمد " وعلى غير عادته في العودة إلى المنزل ، فراحت تذرع المكان بتوتر .. وهي تضع الخطط الأولى للسيناريو العنيف الذي ستواجهه به ، وعندما أشرعت له الباب .. كان يبدو عليه البهجة .. بادرها بانتعاش :
- مساء الخير يا أروع زوجة في الوجود ...
قالت تفجر في مسامعه قولاً غليظاً .. ينم عن الغيظ والقهر :
- ولماذا عدت الآن يا سيد ، لِم لم تكمل سهرتك حتى الصباح ... ؟
أومئ يفكر فيها ، ليتها تدرك لم يفر منها .. ومن صحبتها .. ومن البقاء إلى جانبها ، ومع ذلك رفع رأسه مبتسماً وأجابها بسعادة :
- كنت أود ذلك لكن الاجتماع انفض .. والزيارة انتهت ..
اقتربت منه كي تكيل عليه بكل سخطها ، لكنها توقفت لبرهة .. فقد كان ثمة رائحة غريبة تنبعث منه .. صاحت :
- ما هذا .. عطر نسائي ! .. عطر نسائي في ملابسك !؟
أخذ يتشمم نفسه باستغراب ، رفع ياقته وكمه يتأكد من حقيقة قولها .. تذكر فجأة أمراً ، فقال ضاحكاً :
- آه .. هذا عطر فوزية ، لابد وأنه علق بي وهي تعانقني ..
انهمرت الوساوس على مخيلتها تحرقها ، علقت بسخرية :
- ما شاء الله .. وهل يجب أن تعانقك فوزية ؟!!
قال بغضب :
- هل جننت ! .. إنها أختي ، وماذا لو عانقتني أختي بعد أسابيع طويلة لم أرها خلالها أبداً ؟! ..
كعادتها دوماً لم تلقِ بالاً إلى قناعاته .. بل وفوق ذلك قذفته بسؤال وشكوك أذابت صبره .. حين قالت :
- ولم لا تكتفِ بمصافحة أختك فقط ، ثم ما يدريني أن هذا العطر خاص بها .. ربما كان عطر امرأة أخرى .. !
كانت تلك الشعرة التي قصمت ظهر البعير ، لقد تحمل غلظتها .. وسلاطة لسانه .. وسخريتها ، تحمل حتى استعلاءها على أهله وأقاربه ، ورغم ذلك كان يفسر شكوكها الحمقاء باستمرار على أنها غيرة غير عادية يدفعها إليها حبها له ، ولكن أن تغار من أخته أيضاً .. أن تشك بأخلاقه وسلوكياته .. فهذا شيء كثير ...
قال بحزن وهو يتجه نحو الباب تاركاً لها قسوتها وشكوكها :
- تذكري .. أنكِ أنت التي تدفعيني إلى اتخاذ مثل هذا القرار ..
لم تفهم قوله .. سألته بحيرة :
- قرار .. أي قرار هذا ؟
قال يدير لها ظهره :
- الطلاق .. والزواج بأخرى ، فإما أن تراجعي حساباتك جيداً ، لتحدّي من شكوكك ومعاملتك القاسية لي ، وذلك لنعيش بسلام .. وإما أن بذهب كل منا إلى شأنه ...
تركها وخرج ، فرمت بثقل جسدها على مقعد مجاور .. تفكر بكلامه بذهول ..
٦ ـ لا شيء عندي ... أعطيك إياه
استباح لنفسه قدراً من كرامة النساء .... فاقتطع من حقوقهن ما يعنيه على تسلق القمم ، وتعجب لكونه فرداً آثماً من خلية تنبذه في المجتمع .. شيء ما في قلبه العامر بالحقد كان يدفعه إلى تجاوز حدوده والقفز فوق سياج العادة .. كان يزجه في أعماق التجربة الخبيثة لينجح ، زوجة وراء زوجة ثم يحمل مغانمه ويرحل ، فقط – ينثر مؤامراته في طيات الظلام ثم يرتكز على رغبة كانت ترغمه على أن يكون في القمة .. فوق كل الناس ، جاءه إبليس في حُلة جديدة اللحظة – مشعلاً ليلة حالكة – يتفق معه على خيانة أخرى ، حيث في منزل جاره عثمان ينتشر الهم وظلاله في كل الأنحاء .. فأخته الأرملة تعود إليه متوشحة بالسواد بعد موت زوجها الثري الذي لا بد وأن كل كنوزه قد آلت إليها ..
هكذا تجسد الحلم في حدقاته مطرزاً ببريق الذهب .. ملوناً بأيام زاهية ، لأجل ذلك صبَّ كل اهتمامه على عثمان كي يكون صديقه .. وبذل مساعيه لعمل البِر .. فهو الذي يحضر الطبيب على نفقته الخاصة إذا ما ألم المرض بأحد أفراد أسرة جاره ، وهو الذي يحل المشاكل ويخفف من حدة الأزمات .. وهو الذي يفعل كل شيء خارق وبطولي .. حتى تراءى للجميع وكأنه فارس مِقدام هب بشهامته الأسطورية من عمق الأزمان البالية كي يشهر سيفه في وجه الشرور ..
كانت " أمنية " ترقب كل ما يحدث بصمت .. لم يكن أحد قادر على استشفاف ما يدور في رأسها ، فهي رغم جمالها الأخاذ .. وهدوءها الساكن .. كانت تتمتع أيضا بالفطنة والذكاء الحاد ، فرحبت بمبادرات " خليفة " الخيرة .. واستطاعت أن تحجب في قلبها ميلا شديدا نحوه .. ومع ذلك فقد كانت تستمع بين الحين والآخر إلى صوت العقل الذي بات يحذرها من تفاصيل مبهمة .. وبعد خمسة أشهر من التخطيط المنظم للرجل حانت ساعة الصفر وآنت الخطوة الأولى للانتقال إلى النعيم ، تقدم خليفة بخجل شديد من صديقه عثمان يطلب إليه شرف الزواج من أخته الأرملة صاحبة الصون والعفاف .. ولكن الأمر لم يكن هينا كما توقع هو .. فأمنية طلبت مهلة للتفكير بينما عثمان لم يبد الحماس الذي توقعه .. وبعد مشاورات عديدة واتفاق حاسم حول شروط حفل الزفاف والمهر الذي كان مؤخره مليون ريال ، تم الزواج الموعود فدخل صاحبنا إلى قفصه الذهبي منتظرا هطول السعد عليه ، وما هي إلا بضعة أسابيع فقط حتى جاء " أمنية " يمارس عليها أولى حيله .. وأوهمها بأنه معرض للسجن بسبب ديون كان قد اقترضها قبل مدة من أجل زواجهما ، فأعطته بعضا من مصاغها وطلبت إليه أن يتصرف بسرعة كي بحل مشكلته ، وفي تمثيلية أخرى أتاها ينعي سيارته التي عدمت في حادث مروري بشع ولا بد من عربة جديدة تعينه على التنقل هنا وهناك ، عندئذ أخرجت له أمنية البعض الآخر من ذهبها وطلبت إليه بيعه كي يشتري سيارة معقولة ، أما في المرة الثالثة فلم يكن قنوعاً بعطائها الشحيح ، لذلك طالبها بمبلغ كبير من المال مدعياً عزمه على إقامة مشروع يؤمن به مستقبلهما ، فوقفت هي بدورها تقول له بحزن :
- أنا آسفة .. لا شيء عندي أعطيك إياه ..
صرخ بلا وعي : ماذا .. كيف ذلك ؟
قالت : ببساطة لأن الذهب الذي قدمته لي مع المهر .. قد استهلكته كله ..
قال بدون حذر : وماذا عن أموالكِ الأخرى ؟
سألته تُمثل البراءة : أموالي .. !!!
ثم أمعنت في تمثيلها .. فقالت باستدراك :
- آه .. تقصد إرثي من زوجي السابق .. !؟ ..
لم يشأ أن يُظهر لها طمعه الذي ينهش رأسه قال بارتباك :
- هه .. نعم ..
نظرت إليه تستل نظرة شماته لا سيما وأنها توقعت افتراسه لها
قالت ببرود :
- ألا تدرك بأني لا أملك شيئاً من هذا الإرث ..
ضرب كفاً بكف يتهمها بالمراوغة هتف : إنك تمزحين ولا شك .. !!
قالت بإصرار : لا .. لقد كتبت نصيبي بأكمله لإبني سامي من زوجي السابق حتى أضمن مستقبله .. وكما ترى لم يتبق لي إلاَّ الستر .
فجأة انهارت أحلامه وأصبحت حطاماً .. جلس يلملم حسرته على أقرب مقعد ، استنجد بإبليس كي يعينه في ورطته .. لكنه سمعه يضحك منه ساخراً على مشارف نفسه .. إذن .. فقد باءت خطته بالفشل .
تحايل على ذاته كي تهدأ قليلاً ، وخطر له أن يطلقها ليثأر منها ، ولكن من أين يأتي بمليون ريال قيمة الخلاص منها ، وفي لحظة شتات أبى رأسه أن يستوعب هذه المصيبة .. خرج يُحدث نفسه كالمجنون .. هائماً على الطرقات ..
٧ ـ أغار .. من صديقتكِ .. !
ينطوي مع خفقة جامحة تعصف بصدره .. ينطوي ويجتاحه الحزن ، فيطلق زفرة بحجم الحيرة التي تكتنفه مندلقة من حنجرته بعنف .. ما السبيل إلى وقف هذا الامتعاض الذي يباغته ! ما السبيل إلى ذلك ! .. وربما أن إطلالة الصباح لم تعد كافية لتغويه على النوم ، يتنهد ويتأمل الجدران من حوله .. حتى المنزل بدونها يشبه قضبان تحاصر قلبه .. حتى مكانه لم ينعم الليلة بصوتها .. يقف بقامة متهاوية ، ويسأل الهواء .. والفراغ .. وعمره الذي بات لا يقدر على الحرمان منها :
- إلى متى سيستمر هذا الحال .. ؟
هو يدرك تماماً مدى تعلق ( منال ) بصديقتها ( هيفاء ) .. ويذكر أنه عندما تقدم لخطبتها ، لم تكن تحدثه عن شيء سواها ، لم تكن تأبه لتلك اللهفة التي أخذت تتزايد في وجده نحوها .. لم تهتم بحاجته إلى أن تظل بجواره .. ولا إلى تعلقه وهيامه بها ، وأحياناً كان يقتله السأم لكثرة غيابها عنه ، دائماً تذهب إلى هيفاء وتخرج معها .. دائماً تقيم لديها كلما أصبحت وحيدة بعد سفر زوجها في مهام أعمال مختلفة .. دائماً هيفاء .. فإلى متى هذا العذاب .. ! فاجأته قبل أيام بسلوك اعتاده هو .. قالت له كطفلة تنظر إلى الحاجيات التي ابتاعتها بفرح :
- انظر .. انظر يا سامي للهدايا التي اشتريتها لهيفاء .. ما رأيك بالساعة .. وهذا الثوب أليس جميلاً .. وكذلك عبير هذا العطر .
قال يتنهد بحسرة .. فهي لم تفكر يوماً أن تفرحه بهدية تخصه :
- أجل يا عزيزتي .. إن ذوقك رائع .
وفي اليوم التالي .. أطلقت عليه برصاص تصميمها :
- سأذهب للإقامة عند هيفاء بضعة أيام .. فلا يجوز أن أتركها وحيدة وقد سافر زوجها إلى عمله كالعادة ..
سألها بغيظ : وأنا يا منال .. هل يجوز أن تتركيني وحيداً .. ؟
قالت تُحايله : لا بأس يا عزيزي .. هي أيام قلائل وسأعود إليك .. ثم إنك رجل قادر على حماية نفسك .. أما هي فلا
.. لا .. هبَّ واقفاً من جديد .. حقاً إنه لا يقدر أن يرفض لها طلباً .. ولكن ما يحدث الآن لا يناسبه البتة .. لقد أصبحت منال تقضي جُلَّ وقتها مع صديقتها ، إنه بالكاد يراها ويجلس معها .. حتى توهم في الآونة الأخيرة .. بأنه رجل وحيد بلا زوجة أو عائلة .. لهذا يجب أن يحسم هذا الأمر .. وفوراً ..
عندما عادت إليه .. كان الحزن قد خيم عليه وأفقده كل معاني السعادة .. قالت له بانتعاش تمارس عليه الضغط ذاته ..
- آه يا سامي .. لقد كان وقتاً ممتعاً ما قضيته مع هيفاء .. إنها صديقتي .. وعمري .. وكل ما ..
قاطعها بقسوة يواجهها بعذابه كي تراه جيداً : كفى .. لا أريد أن أسمع المزيد ..
تلعثمت بنبراتها الطفولية المعتادة : سامي .. لماذا أنت غاضب هكذا .. ؟!
صرخ فيها يمزق صبره : أوتسألين .. أبعد كل ما فعلته بي .. تتساءلين .. !
ثم نظر إليها بنظرة .. أشعلت بقايا مرحها .. قال بغلظة :
- منال .. يجب أن تعلمي جيداً .. أنني إذا كنت قد تساهلت معك في بعض حقوقي .. هذا لا يعني أبداً بأنني رجل أحمق ..
شعرت بخفقات قلبه وبالغضب الذي يملأ خلاياه ، هتفت بحيرة : سامي .. ماذا تقول ؟
تنهد بشرود وهو يصنع قراره الأخير :
- الآن يا منال .. وحالاً .. في هذه اللحظة .. عليكِ أن تختاري ما بيني وبين صديقتك هيفاء .. فما يجري قد فاق كل صبري .
لم تقوَ هي على أن يضعها في مفترق طرق .. صاحت :
- ما الذي تفعله يا سامي .. وكيف تضعني في هذا الاختبار الصعب .. وأنت تعلم أن لك مكانة ومعزة كبيرة في قلبي ..
قال بمرارة : بل هي التي تستحوذ عليك يا منال .. لقد تعمدتِ إبعادي أنا زوجك على هامش حياتك من أجلها ..
قالت تبكي : لا .. هذا غير صحيح .. أنت تعلم جيداً بأنني أحبك ..
قال يسكب عليها بوجعه :
- لو كان حقاً ما تقولين .. لكنت منحتِني شيئاً من الاهتمام والدلال والحب الذين تظفر بهم صديقتك وحدها ..
فجأة .. أدركت فداحة خطأها .. وأدركت بأن هذا الرجل يحبها بلا حدود .. وهي التي لم تبادله مشاعره أبداً .. قالت بخجل :
- نعم .. نعم .. أنا مخطئة .. مخطئة .. فلم أضعك أبداً في ميزان عادل مع هيفاء أو غيرها ..
التفت إليها ، فرأى عيناها الدامعتان تتوسل إليه الرحمة .. حتى إن قلبه كاد لينفطر للحزن المطل من وجهها .. اقترب منها وقال بلطف :
- يا عزيزتي .. أنا لم أطلب منك المستحيل .. ولم يحدث يوماً وأن فضلت أحد أصدقائي عليكِ أبداً ..
هزت رأسها تؤيده ، قالت تتحسس جرحه :
- أنت محق .. وأنا فقط من جعلك تقف هذا الموقف .. لأنني لم أمنحك الكفاية مما تستحق ..
سألها بدهشة : أنا لا أفهم ..
قالت بطفولتها العذبة : عليك أن تعرف .. أنك الأول دائماً في قلبي وحياتي .. ولن يكون هناك من يأخذ مكانك هذا أبداً .
همس إليها مبتسماً : وصديقتك .. !
أجابته ترمقه بشغف وهي تبادله الابتسام : وهل ما زلت مصراً على الاختيار .. ؟
قال يشاكسها بحنو : ولنفرض أني فعلت ؟
قالت تضعه في مكانه الطبيعي : سأختارك أنت .. أنت فقط ..
٨ ـ الرجال قوامون على النساء ..
تُمسك – في عتمتها – رزمة من الأحلام ، وتحدق فيها واحداً تلو الآخر .. وفي النهاية تلقي بها جميعاً إلى حافة الظلام .. كم تمنت أن تسيّر الأمور بإرادتها هي بعد الله .. وبإصرارها على أن تحوز يوماً على مستقبل مشرق وأسرة مثالية ؛ ولكن .. هذا هو دأب الدنيا دائماً : أن لا تمنح الإنسان كل ما يريد ، تقلبت طويلاً في فراشها ، وتعجبت للأرق الذي أصابها الليلة ؛ فما الذي دهاها حتى يُجافيها النوم هكذا ؛ نظرت إلى الجسد الراقد بجوارها بهدوء .. وهمست :
- ليتك تدرك ما فعلته بي يا حمدان ؟! ..
انتزعت نفسها من طيات سريرها ، وقامت تطارد هواجس كانت تعصف برأسها .. ذكريات تنصب على رأسها المجهد فلا تستطيع منها فكاكاً ، لا شك أن كوباً من الحليب الساخن سيعيد النعاس إلى جفنيها ، فأعدته على عجل ثم جلست في القاعة المظلمة .. مستسلمة لأفكارها ..
كان حمدان شاباً وحيداً لامرأة أرملة ، وكان في بداية حياته الوظيفية عندما تقدم لخطبتها ، في ذلك المساء ربت والدها عليها بحنو وهمس قائلاً : " إنه شاب طيب وعلى خلق .. وأرى أن نزوج من نرتضي خلقه ودينه " ..
لم تَصْحُ على الحقيقة المرة إلا بعد أشهر معدودة من زواجها به ، وهي أن حمدان المدلل كان يخفي عجزه عن تحمل المسئولية وراء ستار زائف .. من حسن الخلق والدين .. خصوصاً وأن أحشائها كانت تموج بوليدها " خالد " الذي بات يعبث ولا يهدأ ، وذلك حين دخل عليها حمدان مغاضباً لا يلوي على شيء .. وكانت البداية ، فقد تم فصله من العمل لمشاجرة وقعت بينه وبين زميله حيث أراده جريحاً ..
وبعد إطلالة خالد على الدنيا ، جاءها حمدان بنبأ شؤم آخر .. قال بحيرة :
- ما الذي يحدث لي بالضبط ، فهذه الوظيفة الثالثة التي أُطرد منها خلال أشهر قليلة فقط .. !!
ومع ولادة ابنها سامي ، كانت أحوالهما تزداد سوءً ، وكان يجب أن تحسم المسألة فوراً ، فعزمت أمرها .. وتوكلت على الله ثم قررت العمل ، لا سيما وأن حمدان كان قد بدأ ببيع سيارته وبعضاً من الأثاث والأجهزة الكهربائية ، ومنذ ذلك الحين وهو يُلقي على كاهلها بكل الأعباء ، مسئوليات البيت .. والأولاد .. والعمل ، حتى مشاكله الخاصة والصغيرة كان يلجأ إليها لتحلها له ، وذلك حتى حدث وأن تعاقب عليها يوم استعرت فيه أعماقها بالويل .. والحزن .. وإنهاكات الحياة ، كانت بالكاد تقدر على الحراك بسبب حملها الجديد ، فدخلت إلى المنزل تريح نفسها من مشقة العمل .. وضجيج الطريق ، لتجد حمدان ينتظرها بصبر فارغ كي يزيدها ارهاقاً وتعباً ، قال لها بحدة الزوج المستبد :
- أين معطفي الرمادي يا سيدة .. إنني لا أجده في الدولاب ..
أجابته تخلع عنها عباءتها .. وتضع يدها على رأسها من حدة الصداع :
- ربما أنه في مكان آخر يا حمدان .. ابحث عنه جيداً ..
صاح بغضب :
- ماذا .. أبحث عنه ، وما دورك في هذا البيت .. حتى أبحث أنا .. !؟
في تلك اللحظة كانت تمنع نفسها من الانجراف وراء الغضب حتى لا تجرحه ، ومع ذلك انفلتت منها جملة مريرة .. قالت :
- لا أدري ما هو دوري .. قل لي أنت ..
أراد أن يستشعرها برجولته .. فقال متوعداً :
- اسمعي .. لا أحب أبداً أن تحدثيني بهذه الطريقة .. فأنا الرجل في هذا البيت ، ولا تنسي قول الله في كتابه العزيز : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض " .....
صمت فجأة على إكمال الآية ، فقالت تحثه بقهر :
- لم لا تكمل .. لم لا تقول " وبما أنفقوا من أموالهم " ....
قال ينبض في أوردته الجرح :
- أتعايريني .. يا حسناء .. !
قالت بندم ..
- لا .. ولكني أردت أن أوضح لك نقطة كانت غائبة تماماً عن ذهنك ، وهي أن الأدوار قد انقلبت بيننا في هذا البيت ، فأنا أعمل وأنفق .. وكذلك أقوم بالطهي .. والتنظيف .. ومذاكرة الأطفال ورعايتهم ، بينما أنت لا تفعل شيء .. فقط تجلس في البيت تلبس وتأكل وتنام .. حتى الأولاد .. يبقون في حضانة أمي أو أمك معظم الوقت لأنك لا تحب ضجيجهم ولا تقدر على متابعتهم .. فما دورك بالتحديد وسط هذه المسئوليات التي أقوم بها وحدي ؟
قال يقر قولها بخجل :
- نعم .. أعلم أنني أحمّلك فوق طاقتك .. وأنني يجب أن أمد لك يد العون وأجد عملاً في القريب العاجل ..
قالت تشجعه بمودة :
- المهم أن تستمر فيه يا عزيزي .. أن تحسن التصرف ، ولا تقوم بالتشاجر والتخريب ..
قال يعدها خيراً :
- صدقيني .. سأفعل كل ما يرضيك .. وسأكون عند حسن ظنك إن شاء الله ..
حدث هذا منذ أشهر بعيدة ، وحتى الآن .. لم يطرأ ما يبشر بالخير على حياتها مع حمدان ، ومع بزوغ الفجر .. انتبهت حسناء إلى كوب الحليب الفارغ في يدها ، كانت قد تجرعته دون أن تستسيغ طعمه ، فقامت تصلب قامتها .. وتخطو إلى حجرتها بتثاقل .. محرضة نفسها على النوم ، لمواجهة .. يوم .. شاق .. آخر !! ..
٩ ـ أنت طالق .. يا ليلى
أصابه شيء من الإحباط ولوعة النفس ، لم يكن يعلم أي الدروب يمكن أن يطرق وهو عائدا إلى منزله من المسجد ..
شريدا تطارده خيبة الأمل ولواعج الهم .. صائبا بكل ما يخالف الفضائل أو يخرج عن الملة ، كادت عيناه أن تستسيغ ذرف الدموع لولا أن كتم الشهقة التي تجثم على صدره الحزين ، فدخل إلى منزله يتمتم بالاستغفار حين وجدها كعادتها تجلس أمام التلفزيون تقلب قنواته غير مكترثة لوجوده .. أو لقسماته التي تلونت بالإيمان واستهجان سلوكياتها المعوجة ...
جلس على المقعد وراح يتأملها بحسرة ، ثم أسقط رأسه إلى الوراء يتتبع خطوط البداية بعينين تغوصان في ذكرى مريرة ، وتحديدا إلى سنوات قد خلت حيث راح زميله " يندر " يسهب بالحديث عن أخته " ليلى " ذات الدين والجمال والأخلاق الرفيعة ، ما زال يذكر حديثه ذاك الذي كان يدعوه من خلاله لأن يطلب يدها ، قال له " بندر " باعتزاز :
- إن من يتزوج بأختي سيكون رجلا محظوظا بلا شك ، فهي تجمع ما بين الصلاح والعلم والثقافة ..
وهمس إليه مبتسماً : " فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
وبعد أسابيع قليلة كانت تدخل " ليلى " إلى منزل " عادل " كزوجة فاضلة كان يبحث زوجها من وجودها عن الحظ والسعادة .. ولم يخب ظنه أبداً .. حيث كانت ليلى نعم الزوجة الطيبة الوفية ، التي كانت تستنزف كل جهودها وعطاءها لتصنع منه رجلاً سعيداً ، بل إنها آلت على نفسها أن تصلح في عادل ما أفسده الشيطان عليه فراحت تمتعه بحديثها العذب ودروسها الإيمانية المتواصلة في التقوى والفضيلة إلى أن وضعته على الطريق المستقيم ، قالت له يوماً بحياء بالغ :
- ستصبح أباً عمّا قريب يا عزيزي .. وكم أنا سعيدة بأنه سيكون لابننا أب صالح مثلك .. !
همس لها حينئذ يبثها طمأنينة نفسه : وأنتِ إن شاء الله ستكونين الأم المثالية لولدنا أيضاً ؟؟
ولكن المثالية التي كان يرجو دوامها انقلبت إلى شر .. وليلى .. تلك المرأة الفاضلة تحولت إلى وحش نهم أخذ يلتهم طمأنينة عادل وفرحه ، حيث أنجبت زوجته طفلهما الأول .. وجاء " سعيد " إلى الدنيا يشيع البهجة في قلب والديه اللذان لم يكن لهما شاغل سواه ..
حتى تعاقبت الأيام بأحداث الأيام بأحداث غريبة ، فجأة تغيرت ليلى بعد أن صادقت إحدى السيدات المتحررات ، التي عرفّتها بدورها على نسوة لا يقللن عنها شأناً في الأخلاق الفاسدة وفي الاجتماعات التي لا تخلو من الغيبة والسخرية بالأخريات ، وشيئاً فشيئاً أخذت ليلى تهمل طفلها وبيتها ، أصبحت تميل إلى الكسل والخروج بعد أن خلعت عنها التزامها الذي كان يميزها ، وتمادت في أخلاقها الفظة فباتت لا تُكن لزوجها أي مودة أو احترام ، وعندما كان يواجهها عادل بأخطائها كانت تصرخ فيه طالبة منه الطلاق ، في كل مرة تفعل ذلك وتهدده بالطلاق ...
وفي كل شجار بينهما تطلب إليه أن يحررها منه ، حيث هو كان يتحصن بالصبر ويمنحها فرصة وراء الأخرى علَّها تفيق من غفلتها وتعود إلى صوابها ، ولكنها أبداً لم ترجع عن طريقها الشائك . بل إنها استرسلت في عنادها فأدخلت الدش إلى بيتها ورغماً عن زوجها .. كما أنها أصبحت تخرج وتدخل إلى منزلها دون أن تستأذنه أو تعيره أي اهتمام ، فأحالت حياة رجلها إلى كومة من العذابات المتتالية ..
استيقظ من شروده على صوتها وهي تسأله بغلظة :
- ألن تشتري لي ذلك الثوب الذي رأيته قبل يومين ، فموعد حفل صديقتي قد اقترب .
اعتدل في جلسته ثم رمقها بمرارة وهو يقول : لقد أخبرتك من قبل .. بأنه باهظ الثمن .. وإمكانياتي لا تسمح بشرائه ..
صرخت في وجهه بوقاحة : بل قل أنك لا تريد شرائه لأنك رجل بخيل ورجعي .. تماماً كما وصفتك صديقتي هناء ..
نهض من مقعده يستبد به السخط ، لم يعد هناك من سانحة أخرى يمكن أن يمنحها إياها بعد أن أصبحت تتطاول عليه على هذا النحو .. وقد آن الأوان لينهي هذه المهزلة التي تدمر عمره .. قال لها بأنفاس محترقة بينما هو يكز على أسنانه :
- بل أنت امرأة ناقصة دين وأدب .. وأعرف تماماً كيف أجعلك تثوبين إلى رشدك ..
أجابته ببرود وسخرية : ماذا ستفعل يعني .. ؟!
تحرك بسرعة أمام عينيها يحمل التلفزيون وجهاز الدش ويهوي بهما إلى الأرض بينما صرخاتها تحاول أن تمنعه .. وبعد أن أنهى مهمته .. التفت إليها وسط الحطام قائلاً :
- لقد صبرت عليك طويلاً .. ولكن دون فائدة .. وربما أنه حان الوقت كي أحقق رغبتك ..
سألته يخوف وقلق : ماذا تقول .. وأي رغبة تعني .. ؟
قال لها يدلق بصوته كل أحزانه السوداء : أنت طالق يا ليلى .. طالق .. طالق ..
ثم أضاف بقسوة : أخرجي من هنا .. ولا تفكري بأن تأخذي " سعيد " معك .. لأن مثلك لا تصلح أن تكون أماً له ..
ودخل إلى مكتبه يمنحها فرصة أن تحزم حقيبتها وتخرج من بيته الذي خربته بيديها وأحالته إلى جدران حزينة .
أما هي .. فكانت الصدمة تذهلها .. وكانت حدقاتها الدامعة تومض بالندم وبوادر التوبة وهي تفتش عن الحل لهذه الكارثة التي أثارتها بنفسها .. !
لم يرقها أبداً الواقع الذي يجمعها برجل خيالي ، فارس تذوي قواه في حضرتها .. فارس بلا ملامح .. سيفه ناعم .. وخصاله مثل نسائم فجر تهب على ضعفها بالحنان المفرط فتثير حقنها ، ذاك هو زوجها ، مخلوق مرهف .. وشفاف لا يتواءم مع حساسيتها الأنثوية ، وإن حاول يوماً أن يثور أو يغضب ، فيتلون محياه بحمرة الارتباك والنقمة على نفسه ، لأنه لا يقدر على إسعادها كفاية .. أو لأنه يعجز أن يكون مثالياً معها إلى درجة الكمال .. هكذا كان يعتقد لذا كان يستفزها بسلوكياته المنبثقة دائماً من محاولة إرضاؤها ، يأتيها في المساء هائماً بحبه يحمل باقة من الورود .. وهدية مغلفة بابتسامة العاشقين ، ثم يطلب إليها أن تسترخي بدلال ريثما يعد لها الطعام أو فنجال من القهوة على ضوء الشموع الخافتة ، لم يكن يحب أبداً أن يراها تجهد نفسها أو حتى يلمس لديها شيء من الضجر .. ولم يكن هذا أيضاً ما كانت تحلم هي به ، بل كانت أمنيتها تتوالد في خيالها الخصب بأن تجمعها الأيام برجل مغاير تشعر معه بكل ضعفها أمام قوته الجارفة .. رجل يعلمها فنون الحياة الفطرية .. فتحتمي بظله باحثة عن الدفء والأمان ، أما هذا الذي تعايش معه حياة مريحة للغاية .. حتماً هو بعيد كل البعد عن كل ما يجول في رأسها المتعب من خواطر مرهقة .. حتى أنها قالت له يوماً تلقي بوروده على الأرض :
- لقد مللت .. مللت هذه الحياة ..
انتفض قلبه لتذمرها .. حيث أسرع صوبها متلهفاً لنجاتها :
- ماذا تريدين حبيبتي .. هل تحبين أن نسافر كي نجدد من نشاطنا .. أم تفضلين تغيير هذا المنزل .. كي أمنحك حياة جديدة ؟
صرخت في وجهه بألم : أنت لا تفهمني .. ولن تفعل أبداً .. فأنت من يحتاج إلى التغيير ..
قال بخيبة أمل : وبماذا قصرت معك يا منى .. حتى تقولين ذلك يا عزيزتي ؟ ..
همست إليه تسمعه شهقات قلبها الرافض خنوعه إليها :
- هذه هي المصيبة .. أنك لا تقصر بشيء .. وأنا لا أريد ذلك .. أفهمت .. أنا لا أحب مثاليتك الناعمة هذه .
وظل لا يفهمها أبداً .. وتمادى أكثر في تدليله لها .. حتى عاد يوماً إلى المنزل ليجدها قد غادرته .. تاركة له رسالة كتبت فيها :
" أنا أريدك رجل قوي يعتز برجولته ، رجل لم يُخلق للخضوع لامرأة مثلي قط .. وإنما ليكون لها الزوج والشريك والحامي .. فإن استطعت أن تصبح كذلك .. فأنا لك مدى الحياة .. وإن لم تستطع فهو الفراق بيننا .. "
بعد ثلاثة أشهر أعادها والدها إلى بيتها مرغمة .. بعد أن اتهمها بقسوة أنها إمرأة مجنونة لا تدرك قيمة زوجها أبداً ..
فجلست تندب حظها في حجرتها لأنه ليس هناك ثمة رجل على الأرض يفهم مبتغاها ..
وفي المساء عاد " ماجد " إلى المنزل بوجه مكفهر .. عالماً بوجودها من خلال اتصال هاتفي من أبيها ، وكان أول ما فعله عند اقتحامه للقاعة أن نادى عليها بغلظة : منى .. يا منى ..
خرجت إليه تماطله وهي تنظر إليه بقرف : ماذا تريد ؟
اقترب منها وتوعدها بغلظة : مرة أخرى حين أناديك .. عليك أن تتركي كل شيء .. وتأتين من فورك !
أجابته ببرود وسخرية : وها قد أتيت .. فماذا تريد أيها الحالم .. الضعيف الشخصية .. ؟
فجأة رفع يده ولطمها على صدغها بعنف قائلاً : كيف تجرؤين على السخرية مني ؟
بقيت دقائق طويلة مسمرة في مكانها .. لا تستوعب ما حدث ، أهذا هو " ما جد " السلبي الشاعري .. هل يمكن أن يتبدل وبهذه السرعة .. لم تصحو إلا على صوته وهو يأمرها بتسلط :
- هيا .. اذهبي وأعدي لي الطعام .. فأنا أتضور من الجوع .. هيا .. ماذا تنتظرين .. ؟!
وبدون كلمة انصاعت لأمره وهي تقول بضعف : حالاً .. حالاً يا عزيزي ..
نعم .. لقد تغير ماجد كلياً .. يا لسعادتها .. لقد أصبح قريباً من الرجل الذي تتمناه .. بل إنه قلب حياتهما وأدوارهما رأساً على عقب .. فباتت هي التي تنتظره كل ليلة بلهفة وصبر فارغ بينما روائح الطعام الشهية تفوح على المائدة وسط الشموع والأجواء الساحرة التي صنعتها لأجله .. لأجله فقط ..
وفي لحظة صفاء سألها وهي تلقمه من الحلوى التي أعدتها له :
- ها .. هل أنت سعيدة الآن .. ؟
تنهدت بارتياح : وكيف لا أكون سعيدة يا حبيبي .. وأنت تجعلني أبدو وكأني ولدت من جديد ..
همس إليها مشاغباً : إذن فأنت تحبين الرجل القاسي والفظ ؟
عارضته برقة : بل أحب الرجل القوي .. الذي أشعر بجانبه بالأمان والحماية .. وبأنني كائن ضعيف ومدلل ..
ضحك يمزق ستائر الليل بقهقهة صاخبة كادت أن ترجفها :
- حقاً .. إن عالمكن غريب أيتها النساء .. عالمكن غريب جداً ..
٨ ـ الرجال قوامون على النساء ..
تُمسك – في عتمتها – رزمة من الأحلام ، وتحدق فيها واحداً تلو الآخر .. وفي النهاية تلقي بها جميعاً إلى حافة الظلام .. كم تمنت أن تسيّر الأمور بإرادتها هي بعد الله .. وبإصرارها على أن تحوز يوماً على مستقبل مشرق وأسرة مثالية ؛ ولكن .. هذا هو دأب الدنيا دائماً : أن لا تمنح الإنسان كل ما يريد ، تقلبت طويلاً في فراشها ، وتعجبت للأرق الذي أصابها الليلة ؛ فما الذي دهاها حتى يُجافيها النوم هكذا ؛ نظرت إلى الجسد الراقد بجوارها بهدوء .. وهمست :
- ليتك تدرك ما فعلته بي يا حمدان ؟! ..
انتزعت نفسها من طيات سريرها ، وقامت تطارد هواجس كانت تعصف برأسها .. ذكريات تنصب على رأسها المجهد فلا تستطيع منها فكاكاً ، لا شك أن كوباً من الحليب الساخن سيعيد النعاس إلى جفنيها ، فأعدته على عجل ثم جلست في القاعة المظلمة .. مستسلمة لأفكارها ..
كان حمدان شاباً وحيداً لامرأة أرملة ، وكان في بداية حياته الوظيفية عندما تقدم لخطبتها ، في ذلك المساء ربت والدها عليها بحنو وهمس قائلاً : " إنه شاب طيب وعلى خلق .. وأرى أن نزوج من نرتضي خلقه ودينه " ..
لم تَصْحُ على الحقيقة المرة إلا بعد أشهر معدودة من زواجها به ، وهي أن حمدان المدلل كان يخفي عجزه عن تحمل المسئولية وراء ستار زائف .. من حسن الخلق والدين .. خصوصاً وأن أحشائها كانت تموج بوليدها " خالد " الذي بات يعبث ولا يهدأ ، وذلك حين دخل عليها حمدان مغاضباً لا يلوي على شيء .. وكانت البداية ، فقد تم فصله من العمل لمشاجرة وقعت بينه وبين زميله حيث أراده جريحاً ..
وبعد إطلالة خالد على الدنيا ، جاءها حمدان بنبأ شؤم آخر .. قال بحيرة :
- ما الذي يحدث لي بالضبط ، فهذه الوظيفة الثالثة التي أُطرد منها خلال أشهر قليلة فقط .. !!
ومع ولادة ابنها سامي ، كانت أحوالهما تزداد سوءً ، وكان يجب أن تحسم المسألة فوراً ، فعزمت أمرها .. وتوكلت على الله ثم قررت العمل ، لا سيما وأن حمدان كان قد بدأ ببيع سيارته وبعضاً من الأثاث والأجهزة الكهربائية ، ومنذ ذلك الحين وهو يُلقي على كاهلها بكل الأعباء ، مسئوليات البيت .. والأولاد .. والعمل ، حتى مشاكله الخاصة والصغيرة كان يلجأ إليها لتحلها له ، وذلك حتى حدث وأن تعاقب عليها يوم استعرت فيه أعماقها بالويل .. والحزن .. وإنهاكات الحياة ، كانت بالكاد تقدر على الحراك بسبب حملها الجديد ، فدخلت إلى المنزل تريح نفسها من مشقة العمل .. وضجيج الطريق ، لتجد حمدان ينتظرها بصبر فارغ كي يزيدها ارهاقاً وتعباً ، قال لها بحدة الزوج المستبد :
- أين معطفي الرمادي يا سيدة .. إنني لا أجده في الدولاب ..
أجابته تخلع عنها عباءتها .. وتضع يدها على رأسها من حدة الصداع :
- ربما أنه في مكان آخر يا حمدان .. ابحث عنه جيداً ..
صاح بغضب :
- ماذا .. أبحث عنه ، وما دورك في هذا البيت .. حتى أبحث أنا .. !؟
في تلك اللحظة كانت تمنع نفسها من الانجراف وراء الغضب حتى لا تجرحه ، ومع ذلك انفلتت منها جملة مريرة .. قالت :
- لا أدري ما هو دوري .. قل لي أنت ..
أراد أن يستشعرها برجولته .. فقال متوعداً :
- اسمعي .. لا أحب أبداً أن تحدثيني بهذه الطريقة .. فأنا الرجل في هذا البيت ، ولا تنسي قول الله في كتابه العزيز : " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض " .....
صمت فجأة على إكمال الآية ، فقالت تحثه بقهر :
- لم لا تكمل .. لم لا تقول " وبما أنفقوا من أموالهم " ....
قال ينبض في أوردته الجرح :
- أتعايريني .. يا حسناء .. !
قالت بندم ..
- لا .. ولكني أردت أن أوضح لك نقطة كانت غائبة تماماً عن ذهنك ، وهي أن الأدوار قد انقلبت بيننا في هذا البيت ، فأنا أعمل وأنفق .. وكذلك أقوم بالطهي .. والتنظيف .. ومذاكرة الأطفال ورعايتهم ، بينما أنت لا تفعل شيء .. فقط تجلس في البيت تلبس وتأكل وتنام .. حتى الأولاد .. يبقون في حضانة أمي أو أمك معظم الوقت لأنك لا تحب ضجيجهم ولا تقدر على متابعتهم .. فما دورك بالتحديد وسط هذه المسئوليات التي أقوم بها وحدي ؟
قال يقر قولها بخجل :
- نعم .. أعلم أنني أحمّلك فوق طاقتك .. وأنني يجب أن أمد لك يد العون وأجد عملاً في القريب العاجل ..
قالت تشجعه بمودة :
- المهم أن تستمر فيه يا عزيزي .. أن تحسن التصرف ، ولا تقوم بالتشاجر والتخريب ..
قال يعدها خيراً :
- صدقيني .. سأفعل كل ما يرضيك .. وسأكون عند حسن ظنك إن شاء الله ..
حدث هذا منذ أشهر بعيدة ، وحتى الآن .. لم يطرأ ما يبشر بالخير على حياتها مع حمدان ، ومع بزوغ الفجر .. انتبهت حسناء إلى كوب الحليب الفارغ في يدها ، كانت قد تجرعته دون أن تستسيغ طعمه ، فقامت تصلب قامتها .. وتخطو إلى حجرتها بتثاقل .. محرضة نفسها على النوم ، لمواجهة .. يوم .. شاق .. آخر !! ..
٩ ـ أنت طالق .. يا ليلى
أصابه شيء من الإحباط ولوعة النفس ، لم يكن يعلم أي الدروب يمكن أن يطرق وهو عائدا إلى منزله من المسجد ..
شريدا تطارده خيبة الأمل ولواعج الهم .. صائبا بكل ما يخالف الفضائل أو يخرج عن الملة ، كادت عيناه أن تستسيغ ذرف الدموع لولا أن كتم الشهقة التي تجثم على صدره الحزين ، فدخل إلى منزله يتمتم بالاستغفار حين وجدها كعادتها تجلس أمام التلفزيون تقلب قنواته غير مكترثة لوجوده .. أو لقسماته التي تلونت بالإيمان واستهجان سلوكياتها المعوجة ...
جلس على المقعد وراح يتأملها بحسرة ، ثم أسقط رأسه إلى الوراء يتتبع خطوط البداية بعينين تغوصان في ذكرى مريرة ، وتحديدا إلى سنوات قد خلت حيث راح زميله " يندر " يسهب بالحديث عن أخته " ليلى " ذات الدين والجمال والأخلاق الرفيعة ، ما زال يذكر حديثه ذاك الذي كان يدعوه من خلاله لأن يطلب يدها ، قال له " بندر " باعتزاز :
- إن من يتزوج بأختي سيكون رجلا محظوظا بلا شك ، فهي تجمع ما بين الصلاح والعلم والثقافة ..
وهمس إليه مبتسماً : " فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
وبعد أسابيع قليلة كانت تدخل " ليلى " إلى منزل " عادل " كزوجة فاضلة كان يبحث زوجها من وجودها عن الحظ والسعادة .. ولم يخب ظنه أبداً .. حيث كانت ليلى نعم الزوجة الطيبة الوفية ، التي كانت تستنزف كل جهودها وعطاءها لتصنع منه رجلاً سعيداً ، بل إنها آلت على نفسها أن تصلح في عادل ما أفسده الشيطان عليه فراحت تمتعه بحديثها العذب ودروسها الإيمانية المتواصلة في التقوى والفضيلة إلى أن وضعته على الطريق المستقيم ، قالت له يوماً بحياء بالغ :
- ستصبح أباً عمّا قريب يا عزيزي .. وكم أنا سعيدة بأنه سيكون لابننا أب صالح مثلك .. !
همس لها حينئذ يبثها طمأنينة نفسه : وأنتِ إن شاء الله ستكونين الأم المثالية لولدنا أيضاً ؟؟
ولكن المثالية التي كان يرجو دوامها انقلبت إلى شر .. وليلى .. تلك المرأة الفاضلة تحولت إلى وحش نهم أخذ يلتهم طمأنينة عادل وفرحه ، حيث أنجبت زوجته طفلهما الأول .. وجاء " سعيد " إلى الدنيا يشيع البهجة في قلب والديه اللذان لم يكن لهما شاغل سواه ..
حتى تعاقبت الأيام بأحداث الأيام بأحداث غريبة ، فجأة تغيرت ليلى بعد أن صادقت إحدى السيدات المتحررات ، التي عرفّتها بدورها على نسوة لا يقللن عنها شأناً في الأخلاق الفاسدة وفي الاجتماعات التي لا تخلو من الغيبة والسخرية بالأخريات ، وشيئاً فشيئاً أخذت ليلى تهمل طفلها وبيتها ، أصبحت تميل إلى الكسل والخروج بعد أن خلعت عنها التزامها الذي كان يميزها ، وتمادت في أخلاقها الفظة فباتت لا تُكن لزوجها أي مودة أو احترام ، وعندما كان يواجهها عادل بأخطائها كانت تصرخ فيه طالبة منه الطلاق ، في كل مرة تفعل ذلك وتهدده بالطلاق ...
وفي كل شجار بينهما تطلب إليه أن يحررها منه ، حيث هو كان يتحصن بالصبر ويمنحها فرصة وراء الأخرى علَّها تفيق من غفلتها وتعود إلى صوابها ، ولكنها أبداً لم ترجع عن طريقها الشائك . بل إنها استرسلت في عنادها فأدخلت الدش إلى بيتها ورغماً عن زوجها .. كما أنها أصبحت تخرج وتدخل إلى منزلها دون أن تستأذنه أو تعيره أي اهتمام ، فأحالت حياة رجلها إلى كومة من العذابات المتتالية ..
استيقظ من شروده على صوتها وهي تسأله بغلظة :
- ألن تشتري لي ذلك الثوب الذي رأيته قبل يومين ، فموعد حفل صديقتي قد اقترب .
اعتدل في جلسته ثم رمقها بمرارة وهو يقول : لقد أخبرتك من قبل .. بأنه باهظ الثمن .. وإمكانياتي لا تسمح بشرائه ..
صرخت في وجهه بوقاحة : بل قل أنك لا تريد شرائه لأنك رجل بخيل ورجعي .. تماماً كما وصفتك صديقتي هناء ..
نهض من مقعده يستبد به السخط ، لم يعد هناك من سانحة أخرى يمكن أن يمنحها إياها بعد أن أصبحت تتطاول عليه على هذا النحو .. وقد آن الأوان لينهي هذه المهزلة التي تدمر عمره .. قال لها بأنفاس محترقة بينما هو يكز على أسنانه :
- بل أنت امرأة ناقصة دين وأدب .. وأعرف تماماً كيف أجعلك تثوبين إلى رشدك ..
أجابته ببرود وسخرية : ماذا ستفعل يعني .. ؟!
تحرك بسرعة أمام عينيها يحمل التلفزيون وجهاز الدش ويهوي بهما إلى الأرض بينما صرخاتها تحاول أن تمنعه .. وبعد أن أنهى مهمته .. التفت إليها وسط الحطام قائلاً :
- لقد صبرت عليك طويلاً .. ولكن دون فائدة .. وربما أنه حان الوقت كي أحقق رغبتك ..
سألته يخوف وقلق : ماذا تقول .. وأي رغبة تعني .. ؟
قال لها يدلق بصوته كل أحزانه السوداء : أنت طالق يا ليلى .. طالق .. طالق ..
ثم أضاف بقسوة : أخرجي من هنا .. ولا تفكري بأن تأخذي " سعيد " معك .. لأن مثلك لا تصلح أن تكون أماً له ..
ودخل إلى مكتبه يمنحها فرصة أن تحزم حقيبتها وتخرج من بيته الذي خربته بيديها وأحالته إلى جدران حزينة .
أما هي .. فكانت الصدمة تذهلها .. وكانت حدقاتها الدامعة تومض بالندم وبوادر التوبة وهي تفتش عن الحل لهذه الكارثة التي أثارتها بنفسها .. !
١٠ ـ لا أحب مثاليتك الناعمة .. هذه
لم يرقها أبداً الواقع الذي يجمعها برجل خيالي ، فارس تذوي قواه في حضرتها .. فارس بلا ملامح .. سيفه ناعم .. وخصاله مثل نسائم فجر تهب على ضعفها بالحنان المفرط فتثير حقنها ، ذاك هو زوجها ، مخلوق مرهف .. وشفاف لا يتواءم مع حساسيتها الأنثوية ، وإن حاول يوماً أن يثور أو يغضب ، فيتلون محياه بحمرة الارتباك والنقمة على نفسه ، لأنه لا يقدر على إسعادها كفاية .. أو لأنه يعجز أن يكون مثالياً معها إلى درجة الكمال .. هكذا كان يعتقد لذا كان يستفزها بسلوكياته المنبثقة دائماً من محاولة إرضاؤها ، يأتيها في المساء هائماً بحبه يحمل باقة من الورود .. وهدية مغلفة بابتسامة العاشقين ، ثم يطلب إليها أن تسترخي بدلال ريثما يعد لها الطعام أو فنجال من القهوة على ضوء الشموع الخافتة ، لم يكن يحب أبداً أن يراها تجهد نفسها أو حتى يلمس لديها شيء من الضجر .. ولم يكن هذا أيضاً ما كانت تحلم هي به ، بل كانت أمنيتها تتوالد في خيالها الخصب بأن تجمعها الأيام برجل مغاير تشعر معه بكل ضعفها أمام قوته الجارفة .. رجل يعلمها فنون الحياة الفطرية .. فتحتمي بظله باحثة عن الدفء والأمان ، أما هذا الذي تعايش معه حياة مريحة للغاية .. حتماً هو بعيد كل البعد عن كل ما يجول في رأسها المتعب من خواطر مرهقة .. حتى أنها قالت له يوماً تلقي بوروده على الأرض :
- لقد مللت .. مللت هذه الحياة ..
انتفض قلبه لتذمرها .. حيث أسرع صوبها متلهفاً لنجاتها :
- ماذا تريدين حبيبتي .. هل تحبين أن نسافر كي نجدد من نشاطنا .. أم تفضلين تغيير هذا المنزل .. كي أمنحك حياة جديدة ؟
صرخت في وجهه بألم : أنت لا تفهمني .. ولن تفعل أبداً .. فأنت من يحتاج إلى التغيير ..
قال بخيبة أمل : وبماذا قصرت معك يا منى .. حتى تقولين ذلك يا عزيزتي ؟ ..
همست إليه تسمعه شهقات قلبها الرافض خنوعه إليها :
- هذه هي المصيبة .. أنك لا تقصر بشيء .. وأنا لا أريد ذلك .. أفهمت .. أنا لا أحب مثاليتك الناعمة هذه .
وظل لا يفهمها أبداً .. وتمادى أكثر في تدليله لها .. حتى عاد يوماً إلى المنزل ليجدها قد غادرته .. تاركة له رسالة كتبت فيها :
" أنا أريدك رجل قوي يعتز برجولته ، رجل لم يُخلق للخضوع لامرأة مثلي قط .. وإنما ليكون لها الزوج والشريك والحامي .. فإن استطعت أن تصبح كذلك .. فأنا لك مدى الحياة .. وإن لم تستطع فهو الفراق بيننا .. "
بعد ثلاثة أشهر أعادها والدها إلى بيتها مرغمة .. بعد أن اتهمها بقسوة أنها إمرأة مجنونة لا تدرك قيمة زوجها أبداً ..
فجلست تندب حظها في حجرتها لأنه ليس هناك ثمة رجل على الأرض يفهم مبتغاها ..
وفي المساء عاد " ماجد " إلى المنزل بوجه مكفهر .. عالماً بوجودها من خلال اتصال هاتفي من أبيها ، وكان أول ما فعله عند اقتحامه للقاعة أن نادى عليها بغلظة : منى .. يا منى ..
خرجت إليه تماطله وهي تنظر إليه بقرف : ماذا تريد ؟
اقترب منها وتوعدها بغلظة : مرة أخرى حين أناديك .. عليك أن تتركي كل شيء .. وتأتين من فورك !
أجابته ببرود وسخرية : وها قد أتيت .. فماذا تريد أيها الحالم .. الضعيف الشخصية .. ؟
فجأة رفع يده ولطمها على صدغها بعنف قائلاً : كيف تجرؤين على السخرية مني ؟
بقيت دقائق طويلة مسمرة في مكانها .. لا تستوعب ما حدث ، أهذا هو " ما جد " السلبي الشاعري .. هل يمكن أن يتبدل وبهذه السرعة .. لم تصحو إلا على صوته وهو يأمرها بتسلط :
- هيا .. اذهبي وأعدي لي الطعام .. فأنا أتضور من الجوع .. هيا .. ماذا تنتظرين .. ؟!
وبدون كلمة انصاعت لأمره وهي تقول بضعف : حالاً .. حالاً يا عزيزي ..
نعم .. لقد تغير ماجد كلياً .. يا لسعادتها .. لقد أصبح قريباً من الرجل الذي تتمناه .. بل إنه قلب حياتهما وأدوارهما رأساً على عقب .. فباتت هي التي تنتظره كل ليلة بلهفة وصبر فارغ بينما روائح الطعام الشهية تفوح على المائدة وسط الشموع والأجواء الساحرة التي صنعتها لأجله .. لأجله فقط ..
وفي لحظة صفاء سألها وهي تلقمه من الحلوى التي أعدتها له :
- ها .. هل أنت سعيدة الآن .. ؟
تنهدت بارتياح : وكيف لا أكون سعيدة يا حبيبي .. وأنت تجعلني أبدو وكأني ولدت من جديد ..
همس إليها مشاغباً : إذن فأنت تحبين الرجل القاسي والفظ ؟
عارضته برقة : بل أحب الرجل القوي .. الذي أشعر بجانبه بالأمان والحماية .. وبأنني كائن ضعيف ومدلل ..
ضحك يمزق ستائر الليل بقهقهة صاخبة كادت أن ترجفها :
- حقاً .. إن عالمكن غريب أيتها النساء .. عالمكن غريب جداً ..
◽️◽️
📚 كتاب : حكايات خلف الأبواب (١١-٢٠)
الجزء الثاني
http://huria-alddaewa.blogspot.com/2016/09/10-20.html
📚 كتاب : حكايات خلف الأبواب (١١-٢٠)
الجزء الثاني
http://huria-alddaewa.blogspot.com/2016/09/10-20.html
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق