الخميس، 6 أكتوبر 2016

ذات النفس الكبيرة


ذات النفس الكبيرة

فاطمة بنت عبد الله البطاح

حينما تشير عقارب الساعة إلى الثالثة والنصف مساء أراك تمشين داخل المبنى الكبير، مرة تستعينين بالجدار، وأخرى أرقبك وأنت تمسكين بعصاك الصفراء الطويلة التي أرهقتها السنون كما أرهقتك.
تدخلين، وبصوت منهك ولهجة هادئة تلقين علينا تحية السلام، فنبادلك إياها بكل احترام وتبجيل.
تلتقطين أنفاسك، وتفتحين حقيبة صغيرة كنت تحملينها بيدك، وتخرجين منها مصحفاً كبيراً، تضعينه على الدرج وتبسملين.

أسمع إحداهن تقترب من مقعدك وتناديك: يا خالة.. لو وضعنا لك بساطاً تستلقين عليه وتريحين ظهرك من جلسة المقعد،
فتجيبينها: دعيني يا بنيتي أجلس كما تجلسن. جئنا لنحفظ لا لنستلقي. تبتسم لك ابتسامة رضا، وترمقك بنظرة ذات معنى تلقيها على ظهرك المقوس وقامتك المنحنية وشعرك الذي غزاه الشيب، فيضج المكان بهمس جماعي صادق: يا الله حسن الختام.

يسألونك: ماذا حفظتِ يا خالة؟
فتجيبينهن: الله يرحمنا ما حفظنا شيئاً، (بس) قصار السور مع ((الزهراوين)) البقرة وآل عمران.
أسمع تلاوتك فتروقني بحسنها وخشوعها، أود لو أطلتِ، لكنك تقطعينها وتقفين عند أحد مخارج الحروف وتقولين للمعلمة على استحياء: اعذريني يا بنيتي فهذا المخرج يعجز عن نطقه لساني.

يدق الجرس مذكراً إيانا بالرحيل، فتنهض إحداهن مسرعة تجاهك، وعلى مرأى منا تطبع على رأسك قبلة وتقول: إنا نحبك في الله.

في الغد نجيء، تتلاقى قلوبنا قبل أجسادنا. أبحث عنك. أطيل النظر في مقعدك يؤلمني أن أراه خالياً.
أسمع صوتاً من خلفي: أين الخالة أم عبد العزيز؟ منذ عام وهي أول من يجيئ وآخر من يذهب.

تدخل المعلمة والحزن بادٍ على وجهها.
أربكنا حالها، إنها تريد أن تتحدث فلا تقدر، وفجأة تنكب على مقعد الخالة وتبكي.
يختلط صوت نحيبها بكلامها وهي تقول: أم عبد العزيز اختارها الله إلى جواره ليلة البارحة. 
يضج المكان ببكاء حار امتزج فيه صوت النشيج مع استرجاع الأنفاس.

يا الله. ما أشد رخصك أيتها الدنيا. لكم أنت صغيرة في عيني من قبل ومن بعد . أذهبت يا أم عبد العزيز إلى جوار ربك؟ أهالوا عليك التراب؟ أتتركيننا يا خالة ولم تكملي (المائدة) التي كنت جازمة على حفظها معنا، ولم تحضري معك حفيدتك ذات الثمانية عشر ربيعاً لتنظم إلينا كما كنت تنوين؟
هل حدثت ابنك الذي تجاوز الأربعين عن سم ((الصحون)) التي اشتراها بعزيز ماله وعلقها على سطح بيته؟ 
ليته رأى تلك العبرات التي شرقت بها وأنت تتحدثين عن هذه (الصحون).
ليته وقف على مخاوفك وخشيتك على عفة حفيداتك من تلك (الصحون).

ما أكبر همتك يا خالة! تحفظين كلام الله وتدعين إليه رغم الوهن الذي أصابك. بربك أكانت سنوات عمرك السبعين تحتمل كل هذا الانتظام في حلق الذكر ومكابدتها؟ من يطيق ما كنت تطيقين؟

◽️◽️

📚 مجلة الأسرة العدد (٣٢) ذو القعدة ١٤١٦هـ

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

🔗 ولن تموت جوعاً!! .. فاطمة البطاح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق