كانت يد أمي باردة ورطبة حين أمسكت يدي وسحبتني ..
كنت أشعر بها تبكي في صمت ..
وكانت يدها ترتجف بعض الشيء .. وبغريزة طفولية شعرت بأنه ليس من اللائق سؤالها .. ولا الحديث معها حول ذلك ..
" هيا سلَّمي على جدتك وقبلي رأسها " ..
هكذا قالت لي أمي عند باب غرفة أمي وضحى ..
كنت أشعر أن حدثاً غريباً قد حصل .. الجميع مرتبك وأشخاص كثيرون في المنزل ..
حاولت أختي تهاني أن تشرح لي أن ماما وضحى قد ذهبت عند الله ..
لكني لم أصدقها .. حتى دخلت الغرفة ..
كانت هناك .. مستلقية على السرير .. وقد غطيت بالعباءة ..
وامرأة غريبة تجلس قربها .. رائحتها تشبه رائحة جدتي .. لكنها مختلفة ..
كشفت المرأة عن وجه جدتي .. بدت وكأنها نائمة .. لولا تهدل غريب في فكها الأسفل ..
أسرعت المرأة تحكم شد الرباط الأبيض الذي ربطوه حول فكها ورأسها كيلا يفتح فمها ..
توقفت قليلاً أنظر إليها ..
وشعرت أن أمراً عظيماً ذلك الذي حصل ..
إنها غريبة جداً .. جسد خاوٍ لا حراك فيه ..
حملتني المرأة برفق وقربتني من رأسها لأقبلها ..
أمسكته بيدي الصغيرتين كيلا يترنح يميناً وشمالاً .. ثم قبَّلته بشدة ..
شممت رائحة الحناء مع رائحة جميلة ..
كنت أحبها جداً ..
لكني لم أفكر لحظتها في أنني لن أراها أبداً بعد ذلك ..
أصابعها الدافئة كانت تتسلل عبر شعري بحنان غريب .. تفرك بيديها
شيئا ً من ماء الورد وتبلل هامتي به .. ثم تبدأ في جدل ظفائري ..
كانت أمي تنهرني كل صباح ..
ـ إنك تتعبينها ..
ـ كلا .. لا أريد .. فقط ماما وضحى تمشّط شعري ..
وسرعان ما أهرول نحو غرفتها بشعري المتموج المنفوش .. وحزام مريولي يسحب على الأرض ..
دفئ جميل كان يشع في غرفتها .. رائحة العود .. وماء الورد ..
وتلك الصناديق الصغيرة التي على الرف ..
كانت تتوهج ببريق ساحر .. كنت أشعر أن في كل منها حكاية ..
وأقضي الساعات في ترتيبها ..
والكشف عن محتوياتها من البخور والأمشاط والخواتم القديمة ..
حتى تلك الأكياس المربوطة بإحكام .. كنت أتلذذ بفتحها .. فتعبق أنفي رائحة المرة والعنزروت ..
لم أكن أخرج من غرفتها إلا للنوم .. وأحياناً كنت أنام هناك ..
سابحة في أحلام قصص لم أكن أفهم معظمها ..
حين أنزلتني المرأة .. لاحظت شيئاً غريباً يلمع على بطنها ..
تشبثت بها ..
وبفضول غريب صرخت ..
" ما هذا ؟ " ..
سحبت عباءتها ..
فقالت المرأة بهدوء " هذه مرآة يا حبيبتي نضعها على بطن الميت .. كيلا ينتفخ "
الميت .. الميت .. الميت ..
شعرت بها تتردد بقوة هائلة في ذهني ..
يتردد صداها حولي .. فلا أستطيع تحملها ..
ماما وضحى .. أصبحت ميت !
نظرت إليها مرة أخرى .. بدا شيء بسيط من بياض عينيها تحت جفنيها شبه المغلقتين ..
لم أعد أشعر أنها جدتي ..
إنه الجسد .. فقط ..
الجسم الذي كانت موجودة فيه .. وكانت روحها متلبسة في أطرافه ..
والآن أصبح خاوياً .. بلا روح ..
بلا ماما وضحى …
تعصف في ذهني أفكار كثيرة ..
أكبر من قدرة عقلي الصغير ..
أسئلة كثيرة .. لم أجد من يجيبني عليها ..
الكل كان يبكي .. ومشغول ..
إلا أنا ..
كنت فقط أفكر ..
ولا أعرف لماذا لم أبك ..
صوتها لا يزال يتردد في مسمعي .. وهي جالسة على الأرض ترتب ملابسها وأغراضها رغم التعب الذي بدا واضحاً عليها ..
كانت تنظر في أكياس أدويتها .. وتردد ..
" إذا جاء حمام الموت ما ينفع الدواء ولا من حفر قبري ولا من نعاني "
لم أستوعب يومها سوى عبارة " حفر قبري " ..
ـ يمه وضحى .. وش تقولين ..
تنهدت وهي تضع جانباً تلك الأكياس .. ثم استمرت في وضع ملابسها في الدولاب السفلي ..
ـ يعني .. الواحد إذا خلاص .. جاه الموت .. ما عاد ينفعه .. لا الدواء .. ولا الناس اللي يحبونه .. ويبكون عليه .. ولا اللي يحفرون قبره .. ما ينفعه إلا عمله الصالح ..
بدت لي تلك الحقيقة مخيفة جداً .. وبقيت ساكنة لفترة .. أبتلع ريقي وأرطّب شفتيَّ الجافتين بلساني .. وأنا أفكر بما سأقوله ..
كنت أشعر أنها تقصد شيئاً ما .. وفجأة صرخت وشفتي السفلى ترتعش ..
ـ لكن أنت لن تذهبين .. لن تموتي .. لن أدعك تذهبين .. !
ضحكت بحشرجة وأزاحت طرحتها .. ليظهر شعرها الأحمر المختلط بالبياض .. ولم ترد عليَّ فتابعت بغضب ..
ـ ترى والله أزعل عليك .. !!
حانت مني التفاتة سريعة لكفَّها .. كان أصبعها واقفاً في وضع التشهد .. وبقايا لون الحناء ظاهرة على طرفه ..
اقتربت أمي وسحبتني .. استسلمت لها بشكل غريب ..
وخرجت وأنا أرمقها حتى آخر لحظة ..
بعد العصر ..
أتت بعض النسوة .. وأعمامي جميعهم أتوا من المدينة ..
الكل كان يدخل غرفتها ثم يخرج .. وهو يبكي ..
وبقيت أنا أرمق كل شيء من بعيد ..
لكني لم أبكِ .. بعــد ..
تقول أمي إنهم يقومون بتغسيلها ..
واستغربت .. لأن ذلك عيب ..
كانت أمي وضحى تستحي حتى أن تُظهر شعرها أمامهم ..
فما بالك بجسمها .. ؟
ثم فكرت في هدوء ..
لو كانت هي هنا .. لما تركتهم يفعلون ذلك ..
لكنها .. ليست هنا ..
لقد تركت جسدها وذهبت .. إلى اللــــــــه ..
ولم يعد يهمها جسدها ..
بدت متعبة جداً تلك الليلة ..
حتى أنها لم تستطع إكمال حكايتها عن حياتها في السابق
وكيف كانت تستيقظ من الفجر لتصلي ثم تعجن وتكنس وتطعم الماشية ..
كنت أسمعها للمرة المائة ربَّما .. لكني كنت منصتة بكل حواسي ..
أقرأ فمها الجاف الذي كان يتوقف بعد كل مقطع عن الحركة ..
فجأة …… أخذت تلهث وهي تمسك صدرها ..
بدأت أشعر بالقلق ..
فحثثتها على إكمال القصة ..
لأني لم أكن أحب التوقف .. كنت أخاف من أي لحظة توقف .. ولا أريد التفكير بها ..
شعرت بيدها الضعيفة تتشبث بكفي ..
حتى رأيت العروق الخضراء واضحة في يدها المتجعدة ..
كانت تردد الشهادة في صعوبة بالغة وبصوت هامس ومضطرب ..
فسحبت يدي بسرعة من كفها .. وأسرعت إلى أمي ..
ولم أرها بعد ذلك ..
ولم تكمل الحكاية ..
إنهم يخرجونها ..
لقد لفوها بقماش أبيض .. مهيب ..
وضعوها على لوح .. فوقه شيء أشبه بالقفص ..
وخرجوا بها من الباب ..
بدا جسدها ضئيلاً .. وعمتي كانت تبكي بشدة ..
لكني لم أبك ..
ذهب أبي وأعمامي معها .. سوف يحفرون لها حفرة ..
ويضعونها .. لوحدها ..
مسكينة ماما وضحى .. هكذا فكرت ..
سوف تنام الليلة لوحدها .. في تلك الحفرة المظلمة ..
شعرت بقشعريرة باردة ..
وأسرعت أنزوي قرب أمي .. وألوك شيئاً من طرف طرحتها دون أن أشعر ..
تمنيت أن أكون معها هناك ..
لكنها كانت تقول : أن لا أحد سيبقى مع الإنسان في قبره ..
سوى عمله الصالح .. صلاته وصدقاته .. ودعاء أبنائه له ..
نعم .. قالت ذلك ..
أسرعت نحو غرفتي ..
ارتديت ثوب صلاتي .. وصليت ثم رفعت يدي نحو الأعلى ودعوت الله من كل قلبي أن يرحم جدتي ..
دعوت الله ألاّ يجعلها تخاف في تلك الحفرة ..
كان ذلك تعبيري البسيط ببساطة سنوات عمري السبعة ..
بكيت يومها بخشوع .. لا زلت أتمنى حتى اليوم أن أصلّي بمثله ..
وفي تلك الليلة نمت في سرير أمي ..
وبقيت أفكر في الأمر مدة طويلة ..
كنت أدعو الله لها دائماً .. حتى لا تشعر بالخوف هناك ..
وذات ليلة رأيتها .. كانت ترتدي ملابس بيضاء .. ووجهها جميل .. وهي تبتسم لي ..
أشــارت من بعيد ..
فأسرعت أجري نحوها .. وأضمها ..
نظرت إليّ وهي تبتسم .. ثم قدمت لي شيئاً .. لا أذكره ..
لم أسألها ماذا حل بها .. لكنها كانت سعيدة ..
وكذلك كنت ..
كانت تستلقي في المساء لتستمع لإذاعة القرآن الكريم ، عبر مذياعها الصغير قرب رأسها .. وفجأة أمسكت طرف طرحتها ..
ومسحت عينيها .. وتنهدت ..
أييييييييه .. يا الله يا رب تغفر لنا وترحمنا ..
تساءلت ببلاهة ..
ـ يمه أنتي ما تبين تروحين عند الله ؟
ردّت وهي لا تزال تمسح عينيها ..
ـ بالعكس .. أنا أتمنى .. لكن .. أنا خائفة لأني أخطأت كثيراً ..
كانت أيامها الأخيرة غريبة ..
بدت فيها وكأنها تستعد لرحلة النهاية ..
كانت ترتب غرفتها وتعطّرها .. وتكثر من الصلاة والدعاء ..
لم تكن تخرج من غرفتها إلا نادراً ..
حتى خواتمها سلمتها لأمي وقالت باستحياء ..
يا أم ناصـر أريدك أن تبيعها وتتصدقي بثمنها .. أريدها صدقة جارية إن أمكن ..
كانت تقول ..
ـ يوماً ما .. ستتركيني يا منار .. سيتركني الجميع .. وسأبقى وحدي في تلك الحفرة ..
حاولت أن أخفي عبرة تهزُّ فكي الأسفل دون أن أستطيع الكلام .. فتابعت ..
ـ كلنا يجب أن نذهب إلى هناك يوماً ما .. إنه المنزل الأخير لكل إنسان ..
يذهب ليحاسب على كل ما اقترفه في حياته من خير وسوء ..
قاطعتها بسـرعة وصوتي يرتجف وبعبارتي المعهودة ..
ـ لكن أنت لن تموتي .. !
نظرت إلي بهدوء ثم قالت :
ـ حبـيبتي منار .. إذا كبرتي لا تنسين جدتك .. اللـه الله بالصلاة .. والحشمة والستر .. لا تلهيك الدنيا .. وتنسين وصية جدتك .. لا تنسي حقيقة الموت .. لا تنسي ..
حتى الآن لا زلت أشعر بنظراتها الدافئة المتوسلة بصدق ..
يومها .. ! ارتميت في حضنها وبكيت كثيراً .. رغم أني لم أفهم وصيّتها جيداً ..
لكني الآن أفهمها جيداً ..
حين أفكر بها بعمق ..
تفزعني حقيقة النهاية .. حين يبقى الإنسان وحده ..
يتحمل مسؤولية نفسه .. ولا أحد معه ..
يواجه كل شي بنفسه ..
دون أن يستطيع أحد من أحبابه مساعدته ، ولا التخفيف عنه ..
تنتابني قشعريرة غريبة فاستغفر الله وأدعوه أن يرحمنا بشدة حين نؤول إلى ذلك المكان ..
كنت متخوفة من أن يضحك عليّ .. لذا خفضت رأسي في خجل وأنا أعبث بشماغ أبـي ..
ـ يبـه .. لو بغيت أروح عند ماما وضحى في الجنة .. يصير ؟
تبسم أبـي .. ثم مسَّد يده على شعري وضم رأسي إلى صدره ..
ـ حبيبتي .. الإنسان ما يروح الجنة إلا إذا مات ..
فأجبت بفرح غبي ..
ـ طيب أنا أبي أموت ..
ـ اسم الله عليك يا بنيتي .. كل إنسان ما يموت إلا في يومه ..
ـ يبـه طيب ليش الناس ما تبي تموت ؟ .. إذا كانوا يسمعون كلام الله ويحبونه ليش ما يبون يروحون عنده .. ماما وضحى كانت تقول أن اللي ما يسمع كلام الله هو اللي ما يحب الموت لأنه بيروح النار ..
شعرت بأن أبي لم يعد قادراً على مسايرة أفكاري الغريبة .. فضمني بشدة وكأنه يستحثني على الصمت ..
لكن فيما بعد .. عرفت جيداً ..
أن كل ما قلته ببساطة كان صحيحاً ..
عرفت أننا لا نهرب إلا عندما نشعر بأننا مذنبون ..
ولأننا قد نقصر في حقوق الله .. ونتهرب من اتباع أوامره ..
فإننا نخشى المواجهة .. نهرب منها ..
تتوسع أحداقنا برعب حين تشير الأصابع إلى هناك ..
يظهر لنا كنهاية ممر مظلم ..
لا أحد يعرف الإنسان مثلما يعرف نفسه ..
هو يعرف مقدار ظلمه ..
فيرتعب من النهاية .. وينفر من المواجهة .. حيث الحساب العادل ..
ويسوّف طويلاً مبتعداً عنها ..
يهرب كحيوان بري مذعور .. يجري في السهول ..
إلى حيث لا مكان ..
ويظل يجري دون أن يمهل نفسه لحظة واحدة .. يفكر فيها بهدوء ..
في حقيقة كل ما يفعل ..
حقيقة حياته كلها .. التي
مهما طالت ..
فإن مآلها كلها .. إلى مكان ضيق واحد .. يهال فوق التراب ..
◽️◽️
📚 من كتاب : النائمون تحت الرماد
نوف الحزامي
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق