تتمتع بلادنا بحمد الله بخيرات كثيرة، ونعم غزيرة لاتعد ولا تحصى.
ومن النعم الكبرى علينا التي نتفيؤ ظلالها نعمة الأمطار التي تحي الأرض بعد موات، والتي هطلت قبل فترة قصيرة على بلادنا ارتوت على إثرها الأودية والشعاب وأخرجت الأرض كنوزها.
فأكلت الدواب من خيرات الأرض واستمتع الناس بالأجواء الربيعية الخلابة وتزينت الأرض بخضرتها الأخاذة وزهورها الساحرة.
والإنسان بطبعه يحب الطبيعة
فالعشاق يصفون معشوقتهم بجمال الطبيعة
والأدباء والخطباء يقتبسون من الطبيعة دلائلهم ومقاصدهم
فالكل يعشق الطبيعة؛ لذا تجد الإنسان عندما تخضر الأرض ويكثر عُشبها سرعان ما يقصدها ويركن إليها تاركاً خلفه الحضارة بزينتها وزخرفها.
وعند نزول الأمطار واخضرار الأرض. كثيرا ما أتذكر والدي رحمه الله فقد كان أنموذجا رائعاً
حيث تظهر على قسمات وجهه البهجة والسرور والغبطة والحبور بنزول الغيث،
بل إنه سرعان ما يُبشر به أحبابه العارفين. حتى قال قائلهم إني لأجد طعما مميزا ونكهة خاصة لنزول المطر عندما يخبرني به أبو عبد الله إبراهيم الغضية حيث إنه يصف لي بدقة متناهية خبر المطر وكثافته.
وكثيراً ما تحدثنا والدتي حفظها الله وشفاها، بقولها عند نزول المطر يسر أبو عبد الله به كثيراً، فلا يصبر حتى يأخذني معه لنرى آثار الأمطار وحدودها، فنحمد لله على ذلك.
فلو كان أبي موجوداً لأمرنا أن نصحبه لنرى آثار رحمة الله التي فيها حياة للقلوب، وانشراح للصدور
فقد كان رحمه الله يتفكر ويفكر في مخلوقات الله التي تبعث على زيادة الإيمان. وكان يستشعر بطريقته قول الله تعالى:
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ .
لو كان أبي موجوداً لما رضي عن بعض المتنزهين وقاصدي الرحلات البرية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون..
ففي إحدى المرات في حياة الوالد رحمه الله كنت معه في الصحراء
وكان في ذلك الوقت ربيع طيب
وقد شاهد سيارة يقودها شاب بتهور أو ما يسميه المراهقون (التطعيس) مخلفاً وراءه في الأرض خراباً للعشب والنبات
فقال أبي حاول أن توقفه
وبالفعل توقف الشاب بعد أن بادره والدي بالسلام قال له: ما شاء الله عليك يا وليدي إنك تقود السيارة بمهارة وفن.. لكن يا وليدي الحيوانات لا تجد فرصة للأكل الطبيعي إلا في مثل هذه الأيام حيث العشب متوفر بكثرة.. يا وليدي لا يعاقبك الله بسبب هذه الحيوانات الضعيفة..
وبنهاية الحديث قدم الشاب اعتذاره وشكره للوالد ثم ذهب.
لا أخفيكم أنني استفدت من محاورة أبي لهذا الشاب دروسا وعبرا، إليكم شيئا منها:
أولاً: لابد أن نحمل همّ لهذا الدين كل على طريقته، فوالدي رحمه الله لم يهمل هذا الجانب بل دعا الشاب أن يتقي الله في حقوق الآخرين، حيث إن الحيوانات مخلوقات ضعيفة تحتاج لشفقة ومساعدة الإنسان لها.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (في كل كبد رطبة أجر...).
ثانياً: استفدت من هذه القصة وجوب التعامل باللين والبشاشة وطلاقة الوجه والحكمة في الدعوة، امتثالا لقوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ النحل.
فلقد تلطف أبي رحمه الله مع هذا الشاب باختياره للعبارات الأكثر تأثيراً على الشخص والأسرع وصولاً للقلب كقوله: (يا وليدي) حيث ناداه كما لو كان ينادي أحد أولاده توددا منه وتلطفا، كما إنه لم يُغفل جانب الجذب والتأثير حيث أمتدحه بقوله: (ما شاء الله تقود السيارة بمهارة وفن).
ثالثاً: لم يقل أبي الصحراء واسعة وكبيرة وبإمكان الحيوانات أن تجد مكاناً آخر، لأن مجرد العبث والاستهتار تصرفات لا يقبلها أبي. فوالدي رحمه الله يتمنى أن يتربى الشخص على حب الخير للآخرين، وعدم الأنانية، وأن يستمتع الجميع بالطبيعة من غير إفساد لها ولا تعدٍ على حق أحد.
رابعاً: من الدروس تواضع أبي بتحدثه مع شاب بالعشرين من عمره متنزلاً معه في طريقة محاكاته وأسلوبه وباعتقادي أن أبي يقرر مسألتين هامتين هما: التواضع والتنازل .. تواضع يتحلى به كل مسلم، وتنازل عن حظوظ النفس في سبيل الدعوة.
وهنا دعوة صادقة لأصحاب المبادئ السليمة أن يتخذوا التواضع منهجاً أساسياً في حياتهم والابتعاد بقدر الاستطاعة عن الرسمية.
فرحمك الله يا أبي من مرب صادق وداعية ناصح..
وأخيرا أقول: لو كان أبي موجوداً وشاهد ما أحدثه الناس في رحلاتهم البرية لرأى عجباً ولما أعجبه تصرفات بعض العوائل هداهم الله.
ففي مثل هذه الأيام الماطرة الجذابة تشد العوائل رحالها قاصدين البر للاستمتاع بالربيع الذي يجدون فيه تنفيساً عن ضغوطات الحياة، وهروبا من زحام المدنية.
ولكن تظهر هناك بعض التصرفات التي يصدق عليها أنها تصرفات (طائشة)، فالبعض يصطحب معه دراجات نارية تسلية لأبنائه ومكافأة لهم بعد جهد وتحصيل في الدراسة. وهذا من نعم الله. غير أن الأمر يتحول بعض الأحيان إلى ظهور بعض السلوكات المرفوضة، أو التصرفات الغير مسؤولة حيث تمتطي بعض الفتيات الدراجات النارية بلباس فاتن ضيق يصف جسمها أحياناً كالبنطال وغيره، وتنطلق بعيداً عن رقابة ولي أمورها أو بعلمه أحياناً، ولربما تتعرض لأذى أو مضايقات من بعض الذئاب البشرية فتقع فريسة ومن بعدها تحل الكارثة.
وكم سمعنا في هذا من قصص دامية قلبت الأفراح أتراح.
لو كان أبي موجوداً لشاهد الصور المشرفة من العوائل المحافظة التي تمتثل أمر الله في ترفيه مباح، وتسلية للقلوب، من غير انتهاك للحدود.. تحرص على إقامة للصلاة، والتعاون على البر والتقوى، وهذه الصورة بحمد الله تمثل شريحة كبيرة من ساكني هذه البلاد الطيبة.
أسأل الله المغفرة والرحمة لوالدي ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.
◽️◽️
عبد اللطيف بن إبراهيم الغضية
📚 مجلة شباب العدد (٩٨) محرم ١٤٢٨هـ
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق