كان المسجد ممتلئاً بطلبة العلم والحاضرين لسماع درس الشيخ ..
وكان الجميع ينتظرون بتلهفٍ وتشوقٍ .. حضور شيخهم ومعلّمهم وأستاذهم " مالك بن دينار " رحمه الله تعالى .. لإلقاء درسه المعتاد !! ..
ولكن الشيخ تأخر هذا اليوم .. عن الحضور على غير العادة !!
وبينما هم في الانتظار ..
إذ به قادمٌ عليهم … وعليه وقار الصالحين وهيبة المتقين !! .. رؤيته تذكرك بذكر رب العالمين !! ..
فجاء فجلس في مكانه المعتاد بينهم .. ثم أطرق في الأرض مُفكّراً .. ثم رفع رأسه وقال :
عبـاد الله : ظللت فترة من الزمن أحدثكم وأعلمكم .. وأفقهكم أمور دينكم .. أما اليوم فسأحدثكم عن شيخكم الماثل أمامكم !! لعل الله أن ينفعكم بقصتي ..
================ ثم بدأ يقص حديثه وخبره قائلاً : ================
لقد كنت في العراق .. وأنا في ريعان شبابي .. وكنت رئيس حرس الأسواق .. وكنت أراقب الأسعار والتجار .. وأحارب الغش والخداع في البيع والشراء .. وكنت حينها فظّاً غليظ القلب !! .. لا يحبني أحد من أهل السوق ولا أحترم أحداً منهم !!
وفي ذات يوم .. وبينما أنا أجول في السوق .. إذ بي أرى رجلاً من التجار طويل القامة .. كبير الهامة .. عريض المنكبين .. قوي الجثّة .. قد لبس الحرير وأرخى عمامته .. ورائحة الطيب المنعشة تفوح من ثيابه وملابسه .. وقد لبس ثياباً فاخرة .. وحلّى أصبعه بخاتم ثمين !! والبطر والسرف ظاهر على محياه ..
ورأيت هذا التاجر وبين يديه رجل فقير .. قد جثا وبرك على الأرض بركبتيه ..
وهو يتوسل ويتضرع ويبكي يدي التاجر ..
وكانت ثيابه ممزقة .. لا تكاد تستر جسمه .. وكان نحيل الجسم .. غائر العين .. بارز الوجنتين .. أشعث الشعر .. أصفر الوجه .. مشقق القدمين واليدين من شدة الكدح والنصب والتعب .. وهو يقول للتاجر :
يا مولاي لماذا أخذت مني سبعة دراهم !! وهي حصيلة يومي وكدّي وتعبي ؟!! ..
أرجوك ردَّها علي !! لأنني لا أملك الليلة سواها !! .. وفيها عشاء بُنيّاتي .. فإن أخذتها مني فسيبيت بُنيّاتي طاويات من الجوع .. في هذا البرد القارس الذي لا يرحم !!
أرجوك ردها علي يخلفك الله خيراً منها !! .. وإلا فأمهلني أياماً حتى أردها إليك يرحمك الله !!
وكلما تذلل الفقير بين يدي التاجر .. شمخ التاجر بأنفه وتكبّر .. ورفع رأسه إلى السماء !! وكأن هذا الفقير لا يكلم إنساناً فيه قلب وروح .. وله عواطف ومشاعر .. بل كأنه يكلم جداراً أو حجراً لا إحساس لديه ولا مشاعر !!
يقول الشيخ فتأثرت من منظر استعلاء وتجبر الغني .. وتذلل وخضوع الفقير .. فاقتربت من التاجر الغني وقلت له
ما شأنك وهذا الرجل الفقير ؟!!
فردَّ علي بصلفٍ وتكبرٍ وماذا يحشرك أنت فيما بيننا ؟!! .. لا تتدخل فيما لا يعنيك !! .. واشتغل بحالك ودع الآخرين وانصرف الآن من أمامي .. إنك لا تعرف هذا الفقير إنه مكّار خبيث .. أقرضته منذ سنة سبعة دراهم .. وهو يفرُّ مني كلما رآني .. حتى اصطدته اليوم في السوق !! فأخذتها منه !!
فقلت له : سبعة دراهم ؟!! إنك رجل غني وثري لا حاجة لك بمثل هذا المبلغ التافه البسيط !! .. فرُدَّها عليه ليطعم بها بُنيّاته !!
فأبى واستكبر .. وصبَّ عليَّ شتائمه المقذعة .. فلم أُطق الصبر على ذلك .. فصفعتهُ صفعةً !! طنّت لها أذناه !! وانقدحت لها عيناه !! ثم أدخلت يدي في جيبه وأخرجت الدراهم السبعة وأعطيتها للفقير وقلت له
انطلق بسرعة !! .. لا يُدركك هذا الخبيث المتكبر !!! .. وإذا تعشَّت بُنيّاتك هذه الليلة وشبعن فقل لهن : يدعينَ لـ " مالك بن دينار " !! ..
فانطلق الرجل فرحاً مسروراً .. لا يكاد يصدق عينيه .. ولا أن الدراهم السبعة في جيبه !! ..
================ 2 ================
فلما أصبح الصباح ..
وبينما أنا في السوق أقوم بعملي في المتابعة ومراقبة الأسعار .. إذ بي أحس أن الله قذف في قلبي حب الزواج ..
فأخذت أعرض نفسي على الناس ليزوجوني .. فرفضوا وامتنعوا .. لسوء سيرتي وخلقي .. ولعلمهم بانهماكي في شرب الخمر .. وتركي لكثير من الصلوات والفرائض .. فلم يكن أحد يرغب في تزويجي !!
فلما طردني الناس وردُّوني .. ذهبت إلى سوق الجواري والإماء .. فاشتريت جارية مسلمة مؤمنة .. ثم أعتقتُها .. وجعلت مهرها عتقها .. ثم تزوجتها ..
فكانت نعم المرأة والزوجة !! عارفة بربها .. مطيعة له .. قائمة بحقوق زوجها .. وكنتُ أرى فيها الخير والبركة من يوم أن حلَّت في داري !!
فقد تركت الخمر .. وأقبلت على الصلاة .. وأقبلت على الذكر والطاعة !! ورقَّ قلبي ولان .. وأصبحت أحب الخير والدعوة إلى الخير !!
ورزقني الله منها ببُنيّة صغيرة .. كنت أرى فيها سعادة الدنيا بأجمعها !! ...
لقد كانت تلعب أمامي في الدار .. وتتلقاني إذا جئت .. وتنام بجواري في الليل .. وتداعبني وأداعبها .. وكنت أقضي معظم أوقاتي في ملاعبتها في الدار ..
================ 3 ================
في ذات يوم .. كنت أُلاعب طفلتي الصغيرة .. وكنت أرميها في الهواء وأتلقاها بين ذراعيَّ .. وهي تضحك وتبتسم .. وإذ بها تسقط في حجري جثة هامدة .. لا أدري ما السبب ؟!! وما الذي حدث لها ؟!!
لقد سقطت بين يديَّ وأنا انظر إليها .. فكاد قلبي أن ينخلع من مكانه .. فقلت بصوتٍ متهدجٍ : ويحي !! .. بُنيَّتي .. حبيبتي .. قرّة عيني .. ما الذي أصابكِ ؟!! أهيَ عين حلّت بكِ ؟!! .. أم قضاء الله نزل بكِ ؟!!
فحملتها وقد تدلَّت رقبتها على يدي !! .. إنا لله وإنا إليه راجعون وأخذت أمشي في البيت ذاهلاً فزعاً .. لا أدري إلى أين أذهب ؟!!
فاستقبلتني أمها .. وقالت : ما الذي حدث للبُنيَّة ؟!!
فقلت لها : لا أدري !! .. لقد كانت تلعب بين يدي !! .. ثم فجأة خرَّت جثة هامدة بين يدي !! .. لا تتحرك ولا تتكلم !! ..
فهززتها وحركتها .. فلم تتحرك !!
فأجهشت أمها بالبكاء .. وأخذت تحركها وتهزُّها بقوة .. والبنت لا تتكلم ولا تتحرك !! ..
فاستمعتُ لنبضات قلبها !! .. فإذا قلبها قد وقف وسكن !! .. وإذا هي قد فاضت روحها إلى بارئها !! ..
فأجهشتُ أنا وأمها بالبكاء المرير !! .. ثم دفنَّاها بعد أن غسَّلناها وصلَّينا عليها !! وانصرفنا عائدين .. ونحن غير مصدَّقين لما جرى ولكنه قضاء الله وقدره الذي لا مفرَّ منه
================ 4 ================
لقد كان موتها على هذه الصورة المفاجئة .. صدمة نفسية رهيبة قاسية علي .. لم أستطع أن أتحملها !! فكنت كلما التفتُ في الدار ـ بعد دفنها ـ أرى ذكراها الجميلة .. فهذه ألعابها التي كانت تلعب بها .. وتلك ملابسها .. فلها في كل زاوية أثر .. ولها في كل جدار ضحكة وابتسامة !!
إذا جاء الطعام تذكرتها .. وكيف أني كنت أضعها على حجري .. وألقمها الطعام بيدي !! ..
وإذا جاء المنام تذكرتها .. وكيف كانت تنام بجواري كل ليلة !!
واشتد الأمر علي .. وأخذني الحزن كل مأخذ … فتركت عملي … فلم أعد أذهب إليه !! وأصبحت لا أشتهي الطعام والشراب …
وأما إذا جاء الليل … وما أدراك ما الليل ؟!! … أظل أراقب نجومه … ولا أنام فيه إلا من شدة الإعياء والتعب والإرهاق !!
وذات ليلة … وقد بلغ بي اليأس والقنوط مبلغه .. ودبَّ الإعياء والتعب في جسمي .. جاءني الشيطان .. فوسوس لي وسوّل .. وقذف في قلبي السخط والاعتراض على قضاء الله وقدره !!
فقلتُ لأشربن هذه الليلة من الخمر حتى أموت !! .. وأغادر هذه الدار فإن راحتي هي في موتي ولحاقي بابنتي الحبيبة
وبالفعل أحضرت الشراب .. وجلست أشرب الخمر ـ وكنت قد تركتها منذ مدة طويلة ـ .. فجعلت أشرب ثم أشرب ثم أشرب !! .. حتى سقطت على الأرض صريعاً .. لا أدري كيف ؟!! .. ولا أدري متى ؟!! ..
وبينما أنا في ذنبي ومعصيتي .. حيث لم أرضَ بقضاء الله وقدره .. ولكن الله أرحم بي من نفسي ..
وإذا بي أرى في منامي وغيبوبتي .. وكأن القيامة قد قامت !! ..
وكأن الأرض تشقق عن العباد !! .. كالجراد المنتشر ..
يشارك في هول يوم القيامة كل شيء .. السماء تتفطر ! الجبال تُنسف ! .. الأرض تميد ! النجوم تنكدر ! ..
كل شيء يضطرب
والخلائق تجري وأنا أجري مثلهم .. ولكنني أحس بلهيب حارق خلف ظهري !!
فلما التفتُ ورائي .. رأيت ثعباناً يُطاردني " وفي رواية أخرى تنين أعظم ما يكون أسود أزرق قد فتح فاه مسرعاً نحوي " وينفث على ظهري ناراً !! ..
كلما هربتُ منه تبعني !! ..وكلما ابتعدت منه اقترب مني ..
فقلت حينها لنفسي :
إلى أين المهرب ؟!! كيف أنجو ؟!! .. إلى من أفر ؟!!
وجعلتُ أجري في عر صات الموقف مسرعاً .. ألهث من شدة التعب والإعياء .. والثعبان ورائي يتبعني مسرعاً ..
وبينما أنا على حالي أركض ..
مررت في طريقي بشيخ نقي الثوب .. طيب الرائحة .. فسلمت عليه فردّ علي السلام
فقلت : أيها الشيخ ! أجرني من هذا التنين أجارك الله !! ..
فبكى الشيخ وقال لي " أنا ضعيف وهذا أقوى مني وما أقدر عليه .. ولكن مر وأسرع فلعل الله أن ينجيك منه " ..
فوليت هارباً على وجهي
فصعدت على شرف من شُرف القيامة .. فأشرفت على طبقات النيران .. !! فنظرت في هولها .. !!
وكدت أهوي فيها من فزع التنين .. فصاح بي صائح :
ارجع فلست من أهلها .. فاطمأننت إلى قوله .. ورجع التنين في طلبي
فأتيت الشيخ فقلت : يا شيخ ! سألتك بالله أن تجرني من هذا التنين فلم تفعل ..
فبكى الشيخ وقال " أنا ضعيف ولكن سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين .. فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك ..
قال : فنظرت إلى جبل مستدير من فضة .. وفيه كوى مخرمة وستور معلق على كل خوخة وكوة مصراعان من الذهب الأحمر ..
فلما نظرت إلى الجبل وليت إليه هارباً .. والتنين من ورائي !! .. حتى إذا قربت منه .. صاح بعض الملائكة : ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا !! .. فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه .. !!!
فإذا الستور قد رُفعت .. والمصاريع قد فتحت .. فأشرف على من تلك المخرمات أطفال بوجوه كالأقمار .. !!!
وتُطل منهن بُنيّات صغيرات .. فلما رأينني .. صرخن جميعاً بصوت واحد قائلات :
يا ( فاطمة ) أدركي أباكِ !! ..
يا ( فاطمة ) أدركي أباكِ !!
فإذا بُنيتي الصغيرة .. تطل من شرفة الجبل فتراني !!! ..
فلما رأتني بكت !! .. وقالت :
أبي !! أبي !! ..
ثم أشارت إلى الثعبان فوقف !! .. ومدّت يدها إلي وأصعدتني عندها !!
ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي .. !! وقالت بصوت رخيم جميل
يا أبتاه !! .. يا أبتاه !! .. ﴿ ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ﴾
يا أبتاه !! .. ﴿ ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ﴾ ؟!! ..
يا أبتاه !! .. ﴿ ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ﴾ ؟!! ..
وجعلت تكررها
وأفقتُ من نومي وهي تكررها ..
وكأني أسمع صوتها في أذني يتردد بقوة !!
وبينما أنا على حالي تلك .. مدهوشاً فزعاً من تلك الرؤيا .. إذ بي أسمع أذان الفجر !! ..
وصوت المؤذن ينادي : حي على الصلاة .. حي على الفلاح ..
فأفقت من غيبوبتي !! .. واستغفرت وتبت إلى الله تعالى ..
ثم ذهبت فاغتسلت وتوضأت ..
ثم خرجت إلى المسجد لأداء صلاة الفجر .. ووقفت في الصف وراء الإمام ..
وإذ بالإمام يستفتح صلاته فيقرأ بعد الفاتحة قوله تعالى
﴿ ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ﴾ ..
فانتفض قلبي
وفاضت عيناي ..
وكأنني أنا المخاطب الوحيد بتلك الآية !!
وذلك من رحمة الله بي ..
فلما انتهت الصلاة .. إذ بالإمام يستدير ويقابل المأمومين بوجهه .. وبعد أن أنهى أذكاره .. شرع يفسر لهم قوله تعالى " " ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " ..
فأخذت أستمع إلى كلامه في خشوع وتذلل وانكسار لله تعالى .. وما كاد ينتهي من موعظته .. حتى أعلنت التوبة والإنابة إلى الله تعالى .. والإقلاع عن المنكرات والفواحش ..
فذهبت إلى زوجتي وقلت لها :
هيا بنا نشدُّ الرحال إلى مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام .. لأطلب العلم هناك على يد العلماء .. لعلَّ الله أن ينسيني هم بنيتي
فشددت الرحال إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام وطلبت العلم هناك .. ورزقني الله منه خيراً كثيراً .. وعوضّني الله خيراً من بنيتي !!
عوضّني عنها بأبناء المسلمين يسافرون إليَّ لطلب العلم .. من أقطار الأرض .. ويّمضون بين يديَّ نهارهم وزُلفاً من الليل .. يدرسون كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .. ويتعلمون ويتفقهون ..
فحمدت الله تعالى على نعمته الوافرة .. وتذكرتُ حينها قوله تعالى :
﴿ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾
فكم في طيّات هذا البلاء .. من خير ونعمة !! .. وكم من منحة جليلة وهبة كبيرة .. ظهرت في هذه المحنة العظيمة !!
◽️◽️
📚 كتاب قصص وعبر
بقلم الفقير إلى ربه أبي القعقاع : محمد بن صالح بن إسحاق
📚 كتاب رحلة حزينة إلى عالم الأموات
تأليف الشيخ محمود عبد الملك الزغبى
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق