لا أعني شيئاً هنا يا صديقتي.. سوى أنك إنسانة رائعة..
صديقة الشمس
حين كنت أحضر باكراً بالحافلة.. وأتوجه لقاعة الكافتيريا لأتناول فطوري..
صديقة الشمس
حين كنت أحضر باكراً بالحافلة.. وأتوجه لقاعة الكافتيريا لأتناول فطوري..
كنت أراها هناك..
كانت تجلس في نفس المكان.. على تلك الطاولة إلى أقصى اليسار.. قرب النافذة الكبيرة حيث تدخل أشعة الشمس..
كنت أستغرب كيف تجلس تحت الأشعة.. ألا تشعر بالحر؟ لماذا لا تغير مكانها..
لذا كنت أسميها في نفسي
(صديقة الشمس)..
كنت أراها دائماً تمسك بكتاب وتقلب صفحاته وهي تفطر وحدها..
كنت أجلس في جهة مقابلة لطاولتها.. أحاول أن أراقبها فأجدها تلمحني..
ابتسم لها فترد الابتسامة..
كانت ترتدي دائماً ملابس واسعة بألوان باهتة.. تشد شعرها بقوة إلى الخلف.. وبشكل مرتب جداً.. وترتدي نظارة طبية بلا إطار..
مع مرور الأيام.. ومع كثرة رؤيتي لها..
نشأت علاقة ألفة بيني وبينها.. دون أن أتحدث معها.. كنت أعتبرها صديقتي التي لم أتعرف عليها..
ذات يوم التفتُّ وأنا أسحب صينيتي على رف البوفيه.. فإذا بها خلفي..
انتهزت الفرصة لأسمع صوتها وهي تشير لعاملة البوفيه..
- جـ.. جـ.. جـ.. جججـ..
استغربت وأنا أحاول إبداء عدم اهتمامي..
بدأت تضغط بقوة.. حتى نطقت..
ـ ججبن .. أبيض..
ارتاحت لأنها نطقت بها بعد صعوبة ثم أكملت..
ـ لو سمحت..
ألقيت نظرة سريعة عليها أثناء سيري..
وجدت يديها ترتجفان وهي تحمل صينيتها..
كانت هذه فرصتي لأفتح معها موضوعاً.. كنت أتمنى أن أتعرف عليها.. لا أعرف لماذا..
ابتسمت لها.. فردت بابتسامتها التي اعتدتها كل صباح..
لم أجد ما أقوله.. شعرت بالحرج.. ومضيت في طريقي نحو طاولتي التي أجلس عليها كل يوم..
ورأيتها تجلس هي الأخرى في مكانها.. تحت أشعة الشمس..
* * *
في اجتماعنا العائلي الأسبوعي.. فتيات كثيرات..
بنات عماتي وأعمامي ..
أنظر إليهن طويلاً..
أقصى اهتماماتهن المكياج وصبغات الشعر..
أحدث جوال في السوق.. أو المظهر الجديد للمغنية المشهورة..
أففففففففف..
أشعر بالملل..
- فايزة.. ليش ما تصبغين شعرك؟
كم يضايقني هذا السؤال..
ـ أحب لونه..
- لكن أنت بيضاء.. حلو لو صبغتيه أحمر نحاسي..
كيف يمكن أن أدخل في جدال حول موضوع كهذا..
نظرت إليها.. واكتفيت بالصمت..
في تلك اللحظة كنت أشعر بحاجة ماسة لشخص عاقل أتحاور معه.. أتحاور معه حول موضوع.. (يستحق) الحوار..
* * *
صباح الأربعاء ممتع دائماً.. وخفيف..
توجهت لقاعة الكافتيريا.. لمحتها تجلس في نفس طاولتها.. تحت الشمس..
ما شاء الله!.. تأتي مبكرة جداً.. كل يوم..
كنت أتمنى أن أراها أمام بوفيه الطعام مثل ذلك اليوم لعلي أفتح معها حديثاً..
حين وضعت صينيتي على رف البوفيه لمحت كتاباً.. لم يكن أحد يأبه به..
اقتربت منه.. غلاف قديم.. (الأرض الطيبة).. يا الله.. قرأتها منذ زمن طويل..
بشوق غريب.. فتحت الغلاف.. عليه ختم مكتبة الجامعة.. إنه للإعارة..!
مسكينة صاحبته.. يجب أن تستعيده وإلا فهي في مشكلة..
نظرت حولي في القاعة.. من يمكن أن تكون التي قد اختارت هذا الكتاب؟ من صاحبة الحس الأدبي الرفيع؟
كانت القاعة فارغة تقريباً.. لم يكن هناك سوى فتاتان إحداهما ضخمة.. ذات شعر قصير جداً.. لا يناسبها.. معها صديقة نحيلة ذات شعر طويل خفيف يلمع بالزيت على ما يبدو من بعيد..
لا أعرف لم.. لا أتخيل أن إحداهما يمكن أن تكون صاحبة الكتاب..
هناك فتاتان سمراوان تضحكان طوال الوقت.. ترتديان قمصان بألوان فاقعة.. إحداهما تضع النظارات السوداء الرخيصة.. والثانية تضع سماعات الهيد فون..
حسناً لا يمكن..
وهناك.. في أقصى القاعة على اليمين..
تجلس صديقتي.. التي لا أعرفها.. (صديقة الشمس).. قرب النافذة..
تشرب كوب شايها بهدوء.. وقد سقطت أشعة الشمس عليها..
أنهيت أخذ طعامي.. ثم توجهت بصينيتي وبالكتاب.. نحوها..
ـ السلام عليكم..
نظرت إلي وهي تبتسم كعادتها..
ـ وعليكم السلام..
وضعت الصينية على الطاولة ورفعت يدي بالكتاب..
حين نظرت إليه استغربت..
ـ أوه!! كتابي.. شكراً.. أين وجدته..؟
ابتسمت..
ـ هناك على الرف.. خمنت أنه لك..
ـ أشكرك.. جزاك الله خيراً..
فكرت سريعاً.. يجب أن أجد وسيلة لفتح حوار.. لن أضيع الفرصة..
ـ كتاب رائع.. قرأته حين كنت في الثانوية..
ـ ما شاء الله!! أنت تحبين القراءة..
ـ أووه!.. أحب القراءة؟.. يمكنك أن تسميني (دودة) كتب..
ـ حقاً؟ لأول مرة أجد فتاة مثلي تحب القراءة..
ـ هل تسمحين لي أن أجلس في طاولتك..
ردت بفرح..
ـ بالطبع تفضلي..
بدأنا نتبادل الحديث بسرعة حول العديد من القصص والكتب.. وحول هواياتنا ووجدنا الكثير من التشابه بيننا..
لاحظت أنها أحياناً.. تقف عند حرف معين.. وتضغط عليه وتكرر نطقه كثيراً..
كانت تشعر بالحرج وتغمض عينيها وكأنها تريد أن تهرب من نظراتي أو نظرات من حولها.. وتضغط على أسنانها.. وتحمر أذنيها.. ثم تكمل باقي كلامها بشكل طبيعي..
أصبحنا نجتمع كل يوم في الصباح.. في الكافتيريا..
نتبادل الأحاديث.. ونتناول وجبة الفطور مع وجبة لذيذة من الثقافة والأدب..
وأخبرتها أني كنت أسميها (صديقة الشمس)
فضحكت.. وقالت أنها لم تشعر يوماً بحرارة أشعة الشمس خصوصاً حين تستغرق في القراءة..
* * *
ذات صباح صيفي..
حين بدأت ترتاح لي أكثر.. ودون مقدمات.. قالت..
ـ أنا أكثر ما يحرجني.. هو.. هذا الثقل في لساني كما ترين.. لا أحب التحدث مع الآخرين لهذا السبب.. الكل ينظر إلي.. دون أدنى اهتمام بمشاعري.. يحدقون بي بكل غباء..
سكت.. لم أقل شيئاً..
ـ لهذا أهرب للكتب..
وابتسمت لي..
وسكتُ أيضاً..
أكملنا تناول فطورنا..
ـ لم أكن هكذا من قبل.. كنت طبيعية جداً.. حين توفي والدي فجأة وأنا في المرحلة الثانوية.. أصبت بهذا الثقل في لساني..
ـ سبحان الله..!
ـ نعم..
* * *
عدت للبيت وأنا أفكر في صديقتي.. وكيف يمكن أن تتجاوز أزمتها..
كنت موقنة أن علتها.. لها علاقة بألمها وحزنها لوفاة والدها.. شيء غريب..
كان أخوتي يتصارعون في الصالة.. ورائحة العرق تفوح بشكل مقزز..
صرخت فيهم..
ـ نويصر!.. عبيد!.. بس.. خلاص.. أزعجتونا.. ريحتكم قرف.. روحوا غرفتكم..
رفع سبابته إلى جانب رأسه..
ـ كيفنا وعلى مزاجنا..!!
ـ بعد؟؟!! حتى نويصر الذي لم يجاوز العاشرة أصبح (ينفخ) ويرد..
بحركة لا شعورية دفعته بيدي بقوة ليسقط على الأرض.. وخرجت من الصالة..
فإذا بصاروخ عظيم.. يرتطم برأسي المتعب من الخلف.. دووووووو.!!!!
آآآآآآآه.. يا الله.. ماذا حدث؟؟ الدنيا تدور..!
لقد ألقى علي (مسنداً) ضخماً كردة فعل انتقامية.. ليرتطم برأسي من الخلف..
حتى أني سقطت على الأرض.. ولم أستطع التوازن..
كنت أشعر بالألم يخترق رأسي وعنقي ويصل لأسناني وعيني وجبهتي..
كنت أغلي من شدة الغضب.. والانفعال..
لم أعرف ما أفعل..
أخذت أبكي وأصرخ.. دون وعي..
وحين أتت أمي..
ورأتني على الأرض ممسكة برأسي لم أكن قادرة على الكلام من شدة الغضب والألم.. كانت الكلمات تختنق بدموعي.. أقسم أني حاولت أن أكون عبارة فلم أستطع من شدة الغضب والحزن والألم..
وبصعوبة شديدة استطعت أن أنطق اسم أخي (الذي هرب من المكان طبعاً)..
أصبت برضوض في العنق.. ولم أكن قادرة على تحريك رأسي بحرية لعدة أيام.. لكن الحمد لله..
شعرت لأول مرة بشعور صديقتي.. حين تحاول إخراج كلمة فلا تستطيع فتعتصر عقلها لعدة ثواني حتى تنطقها..
عرفت أن السبب هو مشاعر حبيسة.. مشاعر ألم.. حملتها معها وكبتتها منذ وفاة والدها.. ولم تستطع التخلص منها..
ـ جواهر.. لديك مشاعر لم تمت.. تخلصي منها..
نظرَتْ بصمت.. واستغراب..
ـ مشاعرك هي التي تشل قدرتك على الحديث بحرية..
اتركي الباب مفتوحاً لها لتخرج.. لا تحبسيها داخلك.. لأنها ستضر..
قد لا تشعرين بها.. لكنها موجودة.. تخنقك..
كانت تتنفس بصوتٍ عال.. وهي تحدق بي باهتمام..
ـ أنا جادة.. يجب أن تتحدثي عن هذه المشاعر بمنتهى الصراحة لترتاحي..
وقفت فجأة وأمسكت يدها..
ـ قومي.. هيا يا صديقة الشمس.. آن الأوان لأن تختاري مكاناً آخر تجلسين فيه.. قبل أن تحرقك.. دون أن تشعري..!
📚 مجلة حياة العدد (٧٠) صفر ١٤٢٧ هـ
ليس ثمة بكاء تحت الباب
كانت منيرة تضع الحناء على رأسها حين دخلت غرفتي..
ـ (أفففففف .. شالريحة..؟!)
ـ حمد الله! أي ريحة؟ حناء..
ـ لا ! .. شكله فيه بلاوي..
ـ ما فيه شي .. بيضة وشوية ثوم بس..
ـ بسسسسسسسسس؟! يا سلام .. طيب تفضلي برا .. قبل لا..
فجأة.. دخل أطفالها خلفها.. وهجوووووم جنوني على غرفتي..
ـ أطلعوا برا.. عندي اختبار.. حرام عليكم الساعة واحدة وأنا ما خلصت.. براااا..
انطلق عزيزان نحو أدراج مكياجي مباشرة..
فأسرعت أهجم عليه.. وأسحب من يده أرواجي..
حين التفت كانت ريّوم قد قفزت على سريري وأمسكت بالقلم وبدأت ترسم على ملزمتي..
ـ منيييييييييييييييييييييييرة.. طلعي قرودك بسرعة..
مطت منيرة شفتها وأعطتني ظهرها دون أي اهتمام مبتعدة تاركة رائحة الثوم تفوح خلفها..
أمسكتهم من ياقة بيجاماتهم.. ورفعتهم لأعلى مثل جراء القطط ورميتهم خارج باب غرفتي وهم يبكون.. وأغلقت الباب..
وهنا .. بدأ الصياح .. والبكاء..
يا الله .. يا ربي .. ماذا أفعل الآن..؟
أصوات بكاء مزعجة .. وأنا أريد أن أدرس..
ريوم تضع فمها تحت فتحة باب غرفتي وتبكي..
ـ خالة حصووووص .. الله يخليك .. آآآآآآآآآ..
يتبعها صوت عزيزان الخشن..
ـ هالة هسوووووووس .. عآآآآآآ .. عااااااا...
ـ أقول .. الله ياخذكم..
وأفكر قليلاً فأستغفر الله ..
ـ أستغفر الله .. الله يهديكم ويصلحكم .. روحوا عند ماما نورة .. وإلا ماما منيرة يالله روحوا لا أذبحكم...
ـ لااااااااا .. نبي عندك..
أفففففففففف .. يا الله .. مشكلة .. يا لها من مشكلة..
أحاول حل مسألة بسيطة فلا أستطيع التركيز..
كم مول يوجد في 50 ملجم من نترات الصوديوم إذا علمت..
(هاااااالة هسووووووووس .. عآآآآآآآآآآآآآآآآآآ..)
كم مول يوجد في 50 ملجم من هسوس .. وجع!!
عزيزاااااااااان .. بس يا البعير!
منذ ستة أشهر وأختي منيرة تقيم لدينا بعد خصامها مع زوجها .. وهؤلاء القرود يعيثون في بيتنا فساداً..
لم أعد قادرة حتى على الدراسة لمدة نصف ساعة!
يا الله..
رغم شقاوتهم .. وأذاهم .. إلا أني أشعر بالعطف عليهم .. إنهم مثل الأيتام..
حسناً .. سأفتح لهم..
لا .. لا! .. يجب أن أدرس .. اختباري غداً صعب جداً .. سأتركهم يبكون إلى الغد..
كل هذا بسبب أمهم..
مهما قالت .. ومهما قالت أمي..
ما كان عليها أن تتخذ قراراً مصيرياً كطلب الطلاق .. لأسباب تافهة ..
(لا يخرج بي .. دائماً عند أهله .. لا يهتم بي ...!)
هل هذه أسباب تبرر لها أن تطلب الطلاق ولديها أطفال أبرياء..؟
فتحت باب غرفتي لأحضر بعض الماء .. فإذا .. بهم وقد ناموا عند الباب..
منظر مضحك .. ناموا وأفواهم عند فتحة أسفل الباب .. هه..
ناديت منيرة..
ـ منيييييييرة.. تعالي احملي أطفالك .. لقد ناموا على الأرض..
ـ احمليهم أنت..
ـ ماذا؟!
شعرت بالغضب من برودها..
ـ لن أحملهم.. سأدعهم هنا على السيراميك البارد..!
لم تهتم واستمرت تتابع مسلسلتها المفضلة .. يا للبرود!
ذهبت لأشرب الماء .. وعدت وهؤلاء المساكين على الأرض .. لكني كنت قد اتخذت قراراً بالـ (العناد).. والمشكلة أن أمي قد نامت .. فمن يحملهم..؟
ـ منييييييييييرة .. حرام عيالك شيليهم..!
ـ اصبري شوي..
كانت تتابع التلفاز بمنتهى الاهتمام في الصالة..
وأردت أن أعرف نهاية هذا البرود .. فضغطت على قلبي .. ودخلت غرفتي .. تاركة إياهم على الأرض .. مساكين..
سبحان الله ..
هل هو برود أم عناد .. أم لا مبالاة ..
كيف تترك أطفالها هكذا ..
عرفت الآن ماذا كان يعني زوجها حين قال أنه سئم من تحمل برودها وعدم اهتمامها ..
أختي للأسف .. إنسانة فارغة .. ليس لديها أي اهتمام بشؤون التربية أو التعامل مع الآخرين ..
ليس لديها أي حس بالمسؤولية..
كل ما يهمها فقط هو خلطات شعرها وبشرتها .. وتعلم طرق وضع المكياج .. ومتابعة تمارينها في النادي..
حين علم الناس بأنها (زعلانة) لدينا قامت الدنيا ولم تقعد .. شهقت جارتنا أم خالد..
(منيييييييييييييييرة؟! المزيونة؟! مالت عليه .. وين يلقى أحلى منها .. صحيح الزين ما له حظ..)
كنت أعلم أن أختي مليئة بالعيوب لكني سكت على مضض ولم أبح لأحد ولا حتى لأمي بفداحة أخطائها في التعامل مع زوجها وأطفالها..
لا ترى إلا نفسها .. لا تريد أن تبذل أي شيء .. ولا تهتم بأي شيء .. أطفالها ينامون جوعى .. ترتفع حرارتهم .. يجلسون مع الخادمة بالساعات.. لا يهم!! .. زوجها يعود فلا يجدها في البيت .. لا مشكلة..! يطلب منها حضور مناسبة مهمة مع والدته.. غير ضروري!.. يمرض زوجها ويتغيب عن عمله.. بينما تذهب للنادي بمنتهى اللامبالاة..!
حاول المسكين أن يصبر عليها من أجل الأطفال .. تحمل من أجلها الكثير .. أصبح يهرب من البيت لمنزل أهله .. لكن دون جدوى .. وحين ملت من هروبه .. سحبت أطفالها معها إلى بيتنا..
الساعة الرابعة فجراً .. صحوت على صوت أبي عند بابي وهو غاضب..
ـ حرام عليكم .. كيف تتركون هؤلاء الأطفال نائمين على الأرض تحت التكييف ..
منيييييييييرة!!
فتحت باب غرفتي فإذا بأبي الذي كان يستعد للذهاب لصلاة الفجر وهو يحمل عزوز..
ـ حسبي الله ونعم الوكيل على أمكم..
* * *
ـ منيرة..
ـ نعم..
كانت تضع قدميها في حوض ماء دافئ .. وتتابع التلفاز..
ـ لماذا لا تعودين إلى زوجك؟!
نظرت إلي بغضب .. واشمئزاز..
ـ ماذاااااااا؟! أعود لذلك الـ(خبل)؟!
صعقت .. كيف يمكن أن تتحدث عن والد أبنائها –بأي حال- بهذه الطريقة؟
ـ وما الذي تريدينه منه بالضبط..؟
حكت رقبتها باسترخاء ثم قالت..
ـ لن أعود له حتى يرجوني أن أقبل اعتذاره..! حين يعرف قيمتي..
ـ لكنه أتى وحدث الوالد أكثر من مرة .. وحاول إرضاءك بشتى السبل..
ـ لا يكفي .. أريد أن أذله أكثر..
ـ (تذلينه)؟! .. ما هذا الكلام يا منيرة..؟ حرام عليك.. ثم .. إن لك الآن ستة أشهر بعيدة عن بيتك .. ليست بالمدة الهينة .. ألا تكفي؟
ـ المشكلة أنه لا يفهم ولا يتعلم .. ولا يقدر من هي زوجته..
كنت أعلم أنها تحبه .. لكنها كعادتها .. لا تهتم بأحد أبداً..
بعد حديثنا ذلك بثلاثة أسابيع حدث ما لم نكن نتوقعه .. تم طلاقها..
حتى هي صعقت .. انهارت .. لم تتصور أن يتخلى عنها بهذه السهولة..
وشعرتُ بشماتة غريبة في سري .. رغم أنها أختي إلا أني كنت أريدها أن تتعلم درساً من غرورها ولا مبالاتها..
بعد طلاقها .. ازداد إهمالها لأطفالها .. وازداد اهتمامها بنفسها بشكل مقزز..
كانت تصرف راتبها كله على جمالها ورشاقتها.. دون أن تفكر ولو لوهلة في توفير شيء منه لأطفالها أو حتى لنفسها..
تعبنا أنا ووالدتي المريضة بالسكر والقلب .. من متابعة أطفالها الأشقياء..
وحين طلب والدهم حضانتهم منا .. وافقت أمي مباشرة .. لأنها لم تعد تستطيع السيطرة عليهم ..
حاولت ثني أمي عن القرار قلت لها أني سأحاول أن أكون مسؤولة عنهم .. لكنها رفضت .. وقالت أنها تعبت من مسؤوليتهم ومن متابعة شؤونهم (في ظل لا مبالاة أمهم طبعاً)..
أما منيرة .. فلم تهتم بالأمر كثيراً .. بالعكس سمعتها تتناقش مع أمي حول أن هذا سيعطيها فرصة أكبر للزواج!
سبحان الله كيف تفكر بالزواج وصغيرها لم يجاوز الثلاث سنوات؟
حين أتى والدهم لأخذهم قبلتُهم وضممتهم إلى صدري وأخذت أبكي .. أما هي فكانت تتحدث بالهاتف كعادتها .. دون أدنى اهتمام .. وكأنهم ذاهبون لمشوار قصير وسيعودون..!!
بعد ذلك .. لم يعودوا يأتون لزيارتنا إلا مرة في الشهر..
الساعة الواحدة ليلاً .. لدي اختبار مهم غداً ..
أقلب صفحات الملزمة..
أفتقد شيئاً ما .. لا أستطيع التركيز..
شيء يؤلمني ..
أقف عند باب غرفتي ..
أرهف السمع .. أبحث عن شيء..
لكن عبثاً..
ليس ثمة أصوات بكاء تتسلل تحت الباب..
📚 مجلة حياة العدد (٧١) ربيع أول ١٤٢٧ هـ
زهرة .. في تربة الألم
دخلت مسرعة بعد عودتي من المدرسة وأسرعت أرمي عباءتي وأنطلق نحو (السوني) لأمسك بمقبض اللعبة.. فإذا به يدخل خلفي مسرعاً وهو غاضب.. صرخت:
ـ أنا حجزته!!
فأسرع يسحبه مني بقوة..
ـ أقول.. (انقلعي)!.. جهازي وتحجزه بعد؟!
ـ فهيدان.. حرام عليك أمي اللي شاريته لك.. خلني ألعب..
وضع إصبعه على جانب رأسه.. وبغرور قال..
ـ جهاااااااازي..!
ـ طيب بس عشر دقايق.. الله يخليك..
بدأ يلعب وهو يتجاهل كلامي..
ـ وش كبرك.. رجال في ثالث ثانوي.. وجالس على اللعبة مثل الأطفال..
رفع حاجبيه بكل برود وهو يبتسم..
كان فهد يكبرني بثلاث سنوات فقط..
ورغم كثرة شجاراتنا معاً.. كان هناك رابط خفي بيني وبينه..
كان يعترف أنني الوحيدة التي أستطيع منافسته في الألعاب القتالية في السوني..
ـ هذا (سمير) ولد خالة أبوي..
كان شعري قصيراً.. وأرتدي طاقية.. وثوباً..
وكنت في الثامنة من عمري يومها.. وأبدو كولد فعلاً.. بل ولد نحيف وقبيح!
عرفني على زملائه في حلقة التحفيظ..
اختار هذا الاسم ليحرجني.. ولم أكن أستطيع مناقشته في ذلك بالطبع..
* * *
حين أنظر اليوم لباب غرفته..
أعرف أن الزمن كفيل بقلع الكثير من زهور الحياة الجميلة..
أطرق الباب بهدوء..
ـ فهد.. الغداء..
صمتٌ ألفناه..
أطرق مرة أخرى..
ـ فهد.. الصينية عند الباب.. سأذهب.. خذها..
وأبتعد.. أقف خلف جدار الصالة.. وأختلس النظر..
يفتح الباب بحذر.. ينظر يمنة ويسرة بريبة..
ياااه.. منذ متى لم أر وجهه..
يسحب الصينية بسرعة ثم يقفل الباب..
* * *
تكاد أمي تبكي وهي تطرق الباب..
ـ يا وليدي افتح.. لازم ننظف الغرفة..
صمت يعتصر القلوب..
ـ لازم ناخذ الصحون ونغسل ملابسك..
لكن بلا إجابة..
* * *
كان قد قبل في كلية الهندسة..
حين بدأت رائحة الألم..
بعد أول أسبوع له في الدراسة، رفض الذهاب..
ثم..
بدأت رحلة المرض..
* * *
أفتح الدولاب تحت التلفاز.. أنظر لجهاز السوني.. ينزوي تحت أسلاكه..
لم يعد لي رغبة في اللعب به..
أنظر لأشرطة الألعاب..
يعتصرني الألم.. فأغلق الدولاب..
* * *
( دخل المسجد.. قبل صلاة العصر..
نعم.. كنت هناك..
كان وجهه مشرقاً.. كأني أراه الآن..
ـ مبروك يا فهد..
ابتسم بخجل..
ـ الله يبارك فيك..
تحرك الجار الذي كان يستند للجدار وهو يمسد شواربه ويحد النظر لفهد..
ـ وش عليه؟..
ـ فهد قبل في كلية الهندسة.. ما شاء الله عليه..
ليتني لم أقل.. ليت لساني شل في تلك اللحظة..
شهق واستوى في جلسته..
ـ أوف.. هننننننننندسة مرة وحدة!! .. أثرك مب هين يا فهيد..
كنت أعرف أن لهذا الجار الحقود ثلاث أبناء كلهم لم يجاوزوا المرحلة المتوسطة وفشلوا بسبب انحراف أخلاقهم عافانا الله وإياهم.. لذا شعرت بالخوف..
وحين انحنى فهد ليسلم عليه ضربه على كتفه بقوة.. وهو يتمتم بأن أبو فهد محظوظ لأنه سيصبح لديه ولد (مهندس)!!
وكانت نظرات الحقد تشع من عينيه بشكل واضح..
ارتبك فهد وتغير وجهه..
وخرج بعد الصلاة وعليه آثار تعب..
عرفت أن شيئاً قد حصل..
وقد حصل..)
هذا ما قاله جارنا الطيب أبو مساعد.. لوالدي.. ذات مساء حزين..
* * *
غداً اختبار الكيمياء.. أمسك الكتاب.. أحاول أن أقرأ..
أسمع صوت يصرخ..
ـ لاااااااااااااااا..
كان أبي قد فتح الباب بقوة.. وهو يحاول أن يسحبه ليجبره على الاستحمام..
أصوات مفزعة.. صراخ..
وأمي تبكي..
ـ خلاص.. اتركه.. كيفه..
ـ آآآآآآآآه.. لاااااااا.. خلووووووووني..
الساعة الحادية عشرة..
غداً الاختبار النهائي.. ثالث ثانوي..
لم أنه حتى الباب الأول.. يا رب ارحمني..
ـ أقوووول لكم اتركوووووووني..
أبكي تنساب دموعي..
أسحب مسجلي الصغير وأضع السماعات على أذني.. أضع شريط قرآن للشيخ الشاطري..
وأتأمل معاني الآيات..
تهدأ نفسي بعض الشيء..
لكن الصراخ قاتل وعال.. أعود للبكاء..
وفجأة.. تعتريني رغبة وحشية في التحدي..
أردت أن أصرخ.. وأقول لا.
أن أصنع شيئاً.. أن أحطم هذا الألم.. وأواجهه..
أردت أن.. أنجح.. بل وأتفوق..
لن أستسلم..
رغم كل هذه الظروف.. كنت أريد أن أحقق شيئاً..
أن أعبر عن ألمي بشيء إيجابي..
انكببت على الكتاب أقرأ وأحل.. وأخطط حتى الفجر..
حين خرجت من غرفتي لصلاة الفجر..
كان البيت هادئاً كالموت..
شاهدت أمي جالسة بصمت في الصالة..
كانت عيناها حمراوين..
نظرت إلي.. وتحدثت وهي تهذي..
ـ ضربه بالعقال.. حتى استطاع أن يخرجه من غرفته..
ـ هل اغتسل..؟
ـ رمى بوالدك على جدار الحمام فكاد يخلع كتفه..
سكتنا..
ـ ضربني أنا أيضاً.. آآآ ..
وبدأت تبكي.. وتهتز..
ـ فهد.. انتهى يا ميمونة.. ولدي راح.. خلاص..
رأيت الحقيقة تكشر أنيابها أمامي.. فزعت..
هربت مسرعة نحو الحمام.. وهناك.. بكيت حتى ارتويت..
* * *
كانت ورقة الاختبار أمامي..
الأسئلة.. الحروف.. الأرقام..
صوت صراخ فهد القوي.. (لااا.. خلوووووووني..)..
بكاء أمي..
أتخيل منظر أبي..
ارتعش قلمي بين أصابعي.. ضاعت الكلمات..
* * *
كنا نجلس على حافة السطح.. وأصحاب فهد في الشارع..
ـ يا الله مونة وريييييهم..
كان عمري سبع سنوات فقط.. وكان قد تحدى أولاد الجيران أن يجعلني أدور على جدار السطح..
وقفت.. وبدأت أسير على الحافة ببطء..
ثم أخذت أسرع.. أجري..
وهم ينظرون بخوف..
فجأة كدت أفقد توازني وأسقط.. وضعت يدي على الأرض.. تماسكت.. ووقفت مرة أخرى..
نظرت إليه..
كان ينظر لي بخوف لكن بفخر واعتزاز.. يريدني أن أريهم ما لدي من قدرات..
فرحت.. استمتعت بنظرات فخره.. انتشيت لأنه يتباهى بي.. ضحكت..
أردت أن أجعله أكثر فخراً..
أسرعت أجري وقفزت عدة مرات.. والجميع مبهورون..
صرخ بفخر: (حيووووووووووووها..!)
* * *
في الجريدة خبر يخصني..
اسمي.. مسبوقاً بـ (المركز السابع على منطقة الرياض)..
تطايرت الأوراق..
ماتت العبرات..
ونبتت زهرة.. في تربة الألم..
📚 مجلة حياة العدد (٧٢) ربيع ثاني ١٤٢٧ هـ
لم تعد
جبالاً
بعد اليوم
عدت من المدرسة منهكة..
رميت حقيبتي على الأرض.. وألقيت عباءتي على الكرسي..
ورميت بجسدي على السرير..
كانت كل عضلة من عضلات جسمي ترتعش من التعب..
يا الله ما أجمل السرير في غرفة مكيفة باردة..
الشرشف بارد ومنعش.. والوسادة لينة.. رحت في إغفاءة خفيفة.. وأنا أرخي جسمي كله..
تمنيت لو أستطيع النوم.. تمنيته بشدة.. كنت أحتاجه جداً..
جاءني صوت تهاني الحاد..
- بدرية! كيف تستطيعين أن تستلقي هكذا؟ اخلعي حذاءك على الأقل؟
بصوت ناعس أجبت..
- آآه.. أشعر أني سأموت من التعب.. يا الله.. زحمة.. حر.. شمس حارقة.. والباص طبعاً بلا تكييف..
- قومي.. يا الله.. غيري ملابسك واغسلي وجهك..
- إيه.. يحق لك تتدلعين علينا.. غايبة اليوم..!
- يا الله قومي بس.. ساعدي أمي على الغداء..
قمت بصعوبة وأنا بالكاد أسحب رأسي من على الوسادة الباردة المنعشة..
وأنا أسمع صراخ أمي من المطبخ..
- يا الله يا بنات.. بسرعة تعالوا حطوا الغداء..
في المطبخ.. اقتربت لأسلم على رأس أمي.. لكنها مدت يدها لي بمغرفة الطعام وهي غاضبة..
وخرجت..
كان الوضع مزرياً كالعادة بل مأساوياً!
الأواني متراكمة في المجلى.. وكل شيء يحتاج لتنظيف..
لا أعرف بم أبدأ..
بدأت في وضع الغداء في الصحون.. ونقلته أخواتي الصغيرات إلى السفرة في الصالة..
أما أنا فكان تفكيري مشغولاً بالأواني المتسخة وكم ساعة أحتاج لتنظيف المطبخ..
لم أستطع تناول الغداء.. أسرعت أنظف المطبخ وأغسل الصحون وأنا أمني نفسي بنصف ساعة قبل أذان العصر أغفو فيها.. كنت أسرع لكي أنتهي من التنظيف.. والنعاس يغلبني.. وكذلك الألم..
أطلت أمي لتصرخ علي وتنبهني للأرضية المتسخة.. سكت على مضض..
- إن شاء الله يمه..
ثم ذكرتني بإعداد الشاي ووضعه في البراد..
- إن شاء الله..
ثم ذكرتني بغسل وتعقيم رضاعات أخي الصغير..
- إن شاء الله يمه..
وخرجت.. بعد أن نبهتني لبطئي وسوء تنظيفي..
ففي بيتنا.. كنت أبتلع الألم كل يوم..
بل أتناوله كوجبة غذاء أساسية!
منذ رجوعي للمنزل منهكة.. تبدأ أوامر أمي وطلباتها.. وأستلم المطبخ بدلاً منها..
لا أمانع في ذلك فهي أمي..
لكن.. التذمر والشكوى هي ما يقتلني..
لا شيء يرضيها.. دائماً غاضبة علي.. دائماً تصرخ علي..
دائماً أنا مذنبة في نظرها..
مهما فعلت ومهما ضغطت على نفسي من أجلها..
كلمة واحدة منها تحرق كل ما قدمته.. وتنثر رماده في الهواء..
فأنا في نظرها دائماً مقصرة وعاقة و.. رغم أني لم أتفوه عليها في حياتي بكلمة واحدة.. وأحاول قدر المستطاع أن أحترمها وأجيب طلباتها..
أخذت أفكر وأنا أمسح الأرفف..
لماذا.. لماذا لم أسمع منها في حياتي كلمة شكر..
كلمة حب.. كلمة طيبة..
أحلم كثيراً أن أسمعها تناديني.. يا ابنتي.. يا حبيبتي.. يا قلبي!!
لكنها مجرد أحلام..
سأكون مستعدة حينها لأن أخدمها بكل ما تريد وأنا سعيدة..
أخذت أنظف سطح الفرن والدموع تنساب من عيني..
إلى متى هذه القسوة..
أنهيت التنظيف..
الحمد لله.. المطبخ يشع نظافة..
أعددت الشاي.. وها هو في الصينية..
رضاعات أخي نظيفة ومعقمة..
لابد وأنها ستفرح.. انتهيت اليوم مبكرة الحمد لله لن تقول أني بطيئة..
كنت ألهث من شدة التعب.. وبالكاد أقف من شدة النعاس والصداع.. لكني قررت أن أمسح الثلاجة أيضاً..
فجأة دخلت..
نظرت حولها ثم صرخت..
- أففف ما هذه الرائحة؟ ألم تغسلي الفوطة جيداً قبل المسح؟
- غسلتها يا أمي..
- رائحتها كريهة..
- لقد أعددت الشاي..
- دعيني أرى..
صبت القليل منه في كوب.. فتغير وجهها..
- ما هذا؟! لماذا هو غامق هكذا؟!.. لن يشربه والدك..
وأسرعت لتدلقه في المجلى بكل بساطة..
- قومي بعمل آخر.. بسرعة.. والرضاعات أين هي؟
- ها هي هنا.. غسلتها وعقمتها..
- أعطني واحدة..
وخرجت كما دخلت..
أخذت أستعيد شريط كلامها.. أبحث بين الكلمات والحروف عن كلمة شكر أو دعاء.. لكني لم أعثر على شيء منها..
انتهيت من إعداد الشاي.. وذهبت لغرفتي وأنا بالكاد أسحب أقدامي..
* * *
كانت المشرفة الاجتماعية قد طلبتني لغرفتها لكي أقوم بمساعدتها في كتابة سجلات أسماء الطالبات نظراً لحسن خطي.. كنت أجلس على الأرض.. وحولي السجلات.. وأوراق بالأسماء.. والمشرفة تتحدث بالهاتف أو تكتب..
وحين انتهيت من أحد السجلات ناولتها إياه..
- ما شاء الله خطك مرتب جميل.. تسلم يدك يا بدرية.. روووعة تبارك الله..
ابتسمت باستغراب.. لم أعرف ماذا أقول!
- شكراً..!
- أنا من يجب أن يشكرك.. تشكرينني على ماذا حبيبتي؟
أوف.. حبيبتي مرة واحدة!.. (قلت في نفسي)..
واحمر وجهي خجلاً..
- لا تحرجيني أستاذة نورة.. أنا ما عمري سمعت كلمة شكر.. ولا ثناء..
- معقولة؟ كيف؟
كان وجهي شاحباً.. وشفتاي جافتان.. كنت أشعر بإرهاق وتعب.. وبالكاد أتحدث..
- يعني.. أنا لست متفوقة.. ولا مميزة في المدرسة.. لم يمدحني أحد من المدرسات من قبل.. إلا مدرسة العلوم حين كنت في صف ثاني ابتدائي!.. أما في البيت.. فـ.. ههههه.. ولا عمري..
كنت أضحك على نفسي بسخرية.. وأكاد أبكي في نفس الوقت.. فسكت..
نظرت أبلة نورة إلى وجهي مباشرة..
- في البيت ماذا يا بدرية؟ تعالي اجلسي هنا.. تحدثي..
جلست على الكرسي.. وأنا أشعر بالخوف.. ماذا سأقول..
- ماذا يا أبلة نورة؟ لا شيء لدي.. كل ما أردت قوله.. أن أمي عصبية.. دائماً غاضبة.. لا يرضيها شيء.. قاسية في كلامها.. لم نسمع منها كلمة حب واحدة في حياتنا.. ومهما تعبنا معها لا نسمع كلمة شكر واحدة..
بدأت أبكي لا شعورياً.. فمسحت أنفي بمنديل..
- في حياتي.. لم أسمع كلمة مدح أو ثناء أو شكر منها.. صدقيني يا أستاذة.. أعود من المدرسة متعبة.. ولأني الكبيرة.. أستلم مسؤولية تنظيف المطبخ.. ثم مسؤولية أخوتي الصغار في العصر.. وكذلك إعداد العشاء.. ورغم هذا دائماً غاضبة مني..
ابتسمت أبلة نورة وقالت بهدوء..
- عااادي يا بدرية.. لا تأخذي الأمور على محمل الجد..
إن كل ما تقوم به أمك تجاهك لا يعني أبداً أنها لا تحبك.. أو لا تهتم بك.. صدقيني.. هي فقط.. لا تعرف كيف تعبر.. ولم تتعود على تغيير نمط كلامها وحديثها.. هذا هو الظاهر لك فقط.. لكن ما في قلبها من حب ومودة.. لا يمكن أن تعرفيه..
نظرت إلي ثم قالت..
- هل جربت مرة أن تقولي لها كم يضايقك أسلوبها؟ هل سبق ووضحت لها مشاعرك وآلامك؟
نظرت لها باستغراب ودهشة..
- لا..!
- إذاً كيف تريدينها أن تعرف أنك متضايقة؟
حاولي أن توضحي لها مشاعر ألمك وأنك تحتاجين لسماع كلمة شكر أو ثناء منها..
- لكن إذا لم تقلها من تلقاء ذاتها.. كيف أطلب منها ذلك.. سيبدو ذلك سخيفاً!
- كلا.. أمك تعودت على طريقة معينة في الكلام.. وهي تعتقد أنك لا تشعرين بأي ألم من جراء ذلك.. لذا فهي مستمرة في أسلوبها بكل بساطة!
- لا أعرف.. أستحي..
- ولماذا تخجلين؟ لماذا تصنعين هذا الحاجز..؟ إذا انتهيت من عمل ولاحظت أنها لم تمنحك الشكر والاهتمام الكافي.. قولي لها ما تريدين قوله.. أمي ألا أستحق شكراً؟ جزاني الله خيراً؟
وستتأقلم بإذن الله مع الأيام على هذا الأسلوب..
لكن.. ليس بسرعة.. فالمسألة تحتاج لصبر..
- يبدو ذلك صعباً.. لكني سأحاول..
- نعم هكذا أريدك أن تفعليه يا عزيزتي.. لا تيأسي أو تعتقدي أنك وحدك من يعاني من هذا الأمر.. الكثير من الفتيات يعانين مثلك مع أمهاتهن.. لا تكوني حساسة، وتقبلي الأمر.. عيشي حياتك ببساطة ورضا.. ولا تقفي عند الآلام البسيطة لتصنعي منها جبالاً شاهقة.. وتذكري أنها أولاً وأخيراً والدتك.. وأنت مأجورة بإذن الله على صبرك عليها وبرك بها..
كان كلامها بسيطاً.. لكنه ولا أعرف كيف غير نظرتي كثيراً لأمي..
حين عدت من المدرسة.. ألقيت نظرة عليها في المطبخ.. وقفت عند بابه.. كانت تطبخ والبخار يعلو فوق القدور.. وأخي الصغير في كرسيه على الأرض وهو يصيح..
شعرت بعطف كبير عليها.. كيف لها أن تتحمل هذه المسؤوليات كلها.. ولا تتعب وتتضايق..
أحسست بأني كنت نوعاً ما أنانية..
اقتربت من أخي لأقبله وأداعبه..
- عدتِ؟
ابتسمت لها..
نظرت إلي.. وابتسمت ابتسامة لم أرها منذ مدة..
ربما شعرت بأن شيئاً ما في داخلي قد تغير!
📚 مجلة حياة العدد (٧٣) جمادى الأولى ١٤٢٧ هـ
كليمات من القلب
حسناً..
اليوم... لن أبدأ برواية حكاية..
ولن أترك الفتاة تعترف قبلي.. لأني أريد أولاً أن أتحدث معكم قليلاً.. عن بعض القصص الأخيرة.. وعن ردود فعل بعضها..
وعندي كليمات دارت في عقلي وقلبي وأحببت أن تشاركوني بها..
يسألني الكثيرون دائماً هل هذه القصص التي تروينها حقيقية..؟
وأنا أقول.. كل قصصي هي من رحم الواقع.. من أرض الحياة الحقيقية.. لكنها ليست بالضرورة صوراً أصلية..
هذه الاعترافات هي لقطات من حياة حقيقية لطالبات وزميلات وصديقات.. قصص عايشت أطرافاً منها.. أو سمعتها شخصياً من أصحابها مباشرة.. ثم أضفت لها لمسة من خيال..
هي قصص ترتكز على جذع من الواقع.. وربما أضفت لها بعض الأوراق وشذبت لها بعض الأغصان..
أهدي قصصي لكل من تعني لها شيئاً.. وما أردت قوله دائماً هو.. أننا جميعاً عانينا ونعاني من الآلام في حياتنا..
ليس هناك من شخص يعيش السعادة الكاملة في هذه الدنيا..
السعادة الحقيقية هي في الإيمان بالله والرضا بواقعك مهما كان.. والأروع هو شكر الله وحمده بصدق على ذلك الواقع سواء أكان ابتلاء أم نعمة..
لن أطيل كثيراً..
فالحديث في غير القصة لا يروق لكن كثيراً.. أعرف ذلك.. لكن.. لا يزال هناك شيء هام أريد قوله اليوم..
قبل فترة.. كتبت قصتين عن حالات طلاق..
إحداهن.. (ذهبت ولن تعود)..
والأخرى.. (ليس ثمة بكاء تحت الباب)..
وقد تلقيت العديد من الرسائل حولهما..
الأولى عن زوج يشكو من سوء خلق زوجته وإهمالها.. يقول أنه كان على وشك طلاقها.. لكن قراءته للقصة الأولى جعلته يتخيل أن (منال) هي ابنته الصغيرة.. جعلته يتخيل ألمها ووحدتها وفراقها عن أمها حين تكبر..
ويقول أنه أبعد فكرة الطلاق عن رأسه تماماً بعدها.. وهو مستعد لتحمل كل شيء من أجل طفلته الصغيرة.. ويسأل الله أن يهدي زوجته العنيدة التي لا تحترم أحداً حسب قوله..
والرسالة الثانية.. هي من أب رحيم.. يتفطر قلبه على أبنائه الذين تركتهم أمهم لديه منذ عدة أشهر.. أشبه بالأيتام.. وهو لا يزال متردداً في اتخاذ قرار الطلاق حتى لا يهدم حياة أطفاله.. ويتمنى لو عادت أمهم إليهم.. لأنهم ضائعون دونها مهما حاول هو تعويضهم..
يقول.. بعد قراءتي للقصة أصبحت أنتبه حتى لطريقة تمشيطهم لشعورهم.. ولتعابير وجوههم.. وأخشى أن يتألموا كما تألمت (منال) في القصة دون أن أشعر بهم..
أما الحالة الثالثة فهي لفتاة يتفطر قلبها حزناً.. جاءتني وهي تبكي..
وتصف حال أختها كما هو في قصة (ليس ثمة بكاء تحت الباب).. والتي تركت بيتها وأولادها.. دون سبب يذكر.. وبتقصير كبير منها..
حيث إنها عنيدة ولا تقبل التفاوض في أي أمر.. وتريد تطبيق ما تريده دون نقاش..
تقول هذه الفتاة..
حين يأتي أبناء أختي كل أربعاء لزيارتنا نفرح بهم كثيراً.. لكن يوم الجمعة.. يصبح يوم البكاء والألم الأسبوعي.. الجميع يبكي.. أنا.. أمي.. أخواتي.. خاصة على الطفلة ذات الأعوام الخمس.. والتي تتشبث بأمها إلى آخر لحظة رافضة العودة لمنزل أبيها..
كلنا نبكي.. إلا أختي.. الأم..
تصوري!!..
إنها تبدي لا مبالاة عجيبة بأبنائها..
بل إنها تقول أنهم يذكرونها بوالدهم لذا فإنها لا تريد أن تتعاطف معهم!!
تخيلي أربعة أطفال يعيشون لوحدهم في البيت مع والدهم أكبرهم فتاة لم تجاوز الثالثة عشرة.. والصغيرة ذات خمس سنوات.. يعانون الألم والمسؤولية عن أنفسهم بلا أم.. ولا جدة ولا حتى خادمة..
ابنة أختي الصغيرة أصبح شعرها يتساقط بغزارة.. وحين نسألها لماذا يتساقط شعرك هكذا؟ تخيلي ماذا تجيب طفلة السنوات الخمس؟ إنها تقول.. شعري يتساقط من كثرة التفكير!!
طفلة لم تجاوز عامها الخامس تفكر؟
في ماذا يا حبيبتي تفكرين؟
فتجيب ببراءة.. أفكر في أمي.. وأبي.. ثم تبكي بكاء حاراً مثل الكبار..
والكل يبكي معها.. إلا أمها.. التي تجمدت مشاعرها تماماً.. ولم يعد يهمها سوى نفسها فقط.. ولا تريد تقديم أي تنازل أو تفاوض..
دعونا نتأمل قليلاً..
هذه الطفلة من يهتم بها؟ من يرحمها إن لم تفعل أمها؟
وأختها الكبرى.. هل ترحمها معلمتها القاسية.. هل تشفع لها إن لم تنجح بسبب سهرها مع أختها المريضة طوال الليل..؟
هل ترحمها مديرة المدرسة؟ هل تقدم لها خدمة معنوية أو لمسة حانية؟ بل هل تعرف بوضعها أصلاً؟
أربعة أطفال يعيشون الألم والوحدة وجفاف المشاعر من الأبوين.. من يقدم لهم لمسة حنان؟
أعرف أننا نقف عاجزين أمام الكثير من الآلام التي نراها في حياتنا..
لكن أيضاً أمامنا الكثير لنفعله..
يبدو أني انتقلت من موضوع لآخر.. لكني أدعو كل فتاة أن تفكر ملياً قبل اتخاذ قرار الزواج.. لأن هذا القرار مصيري.. وعليها تحمل نتائجه لأنه لا يرتبط بمصيرها فقط بل مصير أبنائها الأبرياء.. وأن تعلم أنها لا تدخل نزهة في حديقة وتقرر الخروج منها متى شاءت بكل بساطة..
أدعو كل أم أن تفكر ألف بل مليون مرة قبل اتخاذ قرار الطلاق.. وأن تجرب كل الطرق ووسائل الإصلاح والإقناع والتغيير قبل أن تقرر.. وأن تحسب سلبيات وإيجابيات القرار جيداً.. بما في ذلك ما ستسببه لحياة أبنائها من تدمير وآلام لن يمسحها الزمن..
أدعو كل أم أن تعلم بناتها قيمة الحياة الزوجية.. وكيفية احترامها وتقديرها.. وفن التغاضي عن العيوب والهفوات والبحث عن الإيجابيات في شخصية كل زوج بدلاً من النبش في سلبياته..
أدعو كل معلمة ومربية أن تجعل التربية والإصلاح همها الأول قبل دفتر التحضير وتقييم المشرفة.. أن تمنح طالباتها الحب والحنان قبل المعلومة.. أن تمنحهم الدفء والأمان قبل الدرجات.. وأن تحتسب الأجر في ذلك..
أدعو كل معلمة أن تنظر في وجوه طالباتها.. وتبحث عن المتألمة.. الكسيرة.. الحزينة.. المحتاجة لمسحة على الرأس أو الكتف.. فبينهن اليتيمة.. والوحيدة.. والمسؤولة.. والمتألمة..
لا أعرف ما الذي دفعني لكتابة هذا الكلام..
هي كلمات فقط أحببت أن أشارك قارئاتي الحبيبات بها..
دعونا نمنح الحب لمن حولنا.. لنكن أكثر اهتماماً.. ولنراعي مشاعر الآخرين.. لا أنفسنا فقط..
📚 مجلة حياة العدد (٧٤) جمادى الآخر ١٤٢٧ هـ
مشهد .. كل ليلة
كنت في السابعة أو ربما الثامنة من عمري.. نعم.. أتوقع في الثامنة - كنت قد أنهيت الصف الثاني الابتدائي- حين أجريت لأبي عملية خطيرة في القلب..
أصيب بعدها بمضاعفات.. وجلطة مفاجئة في جانب من الدماغ..
أذكر.. حين.. دخلت مع أمي لغرفته.. في العناية المركزة..
أذكر الأجهزة.. رائحة المعقمات..
الصوت المرعب لنبضات القلب على الجهاز..
وقفت مع أمي عند طرف السرير.. وهناك كان أبي ممدداً عاري الصدر ألصقت عليه المجسات والأسلاك، وثمة أنابيب مؤلمة في أنفه..
شعرت بالخوف منه.. لم يكن أبي الذي أعرفه..
نظر إلي بطرف عينيه بصعوبة.. هيئ إلي أنهما كانتا تدمعان.. حرك إصبعين من كفه الأيسر ليشير إلي
بالاقتراب..
شعرت بالخوف..
أمسكت عباءة أمي والتصقت بها..
- هذا أبوك.. حنين.. روحي بوسي إيده..
- أخااااف..!
لم تكن أمي قادرة على حملي ورفعي لأنها كانت حاملاً في شهرها الأخير.. سحبتني بقوة وهي تكتم عبراتها.. وحملتني بمشقة..
- هذا بابا حبيبتي.. شوفيه زين..
دفعتني عند رأسه لأراه جيداً.. لعلي أقبله..
نظرت إليه.. كانت عيناه تدمعان.. وهو ينظر إلي بشوق..
أفلت بقوة من يد أمي وأسرعت أختبئ خلفها.. وألتف بعباءتها.. وأخذت.. أبكي..
- أخااااف ما أبي..!
أخذت أمي تمسح على رأسي وتهدئني.. وصوتها يرتعش بالعبرات..
- خلاص حبيبتي ما يصير تصيحين.. هذا بابا.. شفيك؟
في تلك اللحظة.. كنت أحبه أكثر من أي لحظة مضت.. كنت أتمنى لو أقفز على صدره كما أفعل دائماً وأقبله..
أبي الحبيب..
لكني رأيت في عينيه شيئاً مخيفاً..
رأيت.. الموت.. فخفت منه..
لم أستطع أن أقترب من أبي وهو في لحظات ضعفه هذه..
كان شيئاً مخيفاً جداً لطفلة السنوات الثمانية.. أن ترى والدها بهذا الضعف..
قريباً من شيء مخيف.. كالموت.. هذا ما لم يفهمه أحد ممن كان حولي..
غضبت الممرضة وأمرتنا بالخروج حتى لا نؤثر على مشاعر أبي وقلبه الضعيف..
ارتعشت أمي.. اقتربت من أبي همست في أذنه بكلمات.. وقبلته على رأسه.. ومسحت على شعره..
وخرجنا..
كانت متماسكة نوعاً ما حتى خرجنا..
حين خرجنا من الغرفة وفي الممر مباشرة.. انهارت أمي.. أسندت أمي ظهرها إلى الجدار وأخذت تبكي بقوة..
كانت تنشج كما كنت أفعل حين أطلب شراء لعبة غالية..
فوجئت بالمنظر المؤلم.. أمي تهتز.. ببطنها الكبير... وهي تبكي بقوة.. وتتأوه بحسرة..
- ماما خلاص.. ماما حبيبتي..
طوقتها بطنها بذراعي..
لم تكن تسمعني.. فقط أمسكتني وحضنتني بشدة وهي تبكي...
وكأن بكاؤها يتردد صداه في أذني حتى هذه اللحظة.. ذكراه تحرق قلبي..
الآن فقط فهمت مشاعر امرأة شابة مع طفلين صغيرين.. وجنين في بطنها..
دون أب.. ولا أم..
ومع زوج على حافة الموت..
كان خالي ينتظرنا في البهو الكبير للمستشفى..
حين وصلنا إليه لم يكن يبدو على والدتي أي أثر غير طبيعي..
استطاعت أن تتماسك بسرعة وتبتلع ما بقي من دموعها..
ركبنا معه في السيارة.. وطوال الطريق كان يحاول إقناع أمي بأن تأتي لتسكن لديه ريثما يشفي أبي..
لكنها رفضت وأصرت على أن نبقى في بيتنا..
- لكنك حامل.. وقد تلدين في أي لحظة.. يجب أن يكون قربك رجل.. لا يصح هذا يا نهلة..
- لا تخف علي.. أستطيع أن أتصل عليك عندما أحتاج لذلك.. لا تخف يا أخي..
لم تغب صورة أبي بصدره العاري والأسلاك تغطي جسمه عن ناظري طوال الأيام التالية.. بل طوال أيام عمري الباقية كلها.. أصبحت روتيناً ليلياً..
فقد كانت آخر صورة له..
إذ لم أر أبي بعدها أبداً..
توفي خلال أيام..
غاب عنا..
نساء كثيرات جئن لبيتنا..
بكت أمي كثيراً.. بكت.. حتى خشيت أن تموت.. قلت لها ذلك..
وبقينا في بيتنا.. لم نذهب إلى أي مكان آخر كما أصر الجميع علينا..
* * *
ذات صباح.. استيقظت على صوت أمي وهي تطلب مني أن أغير ملابسي بسرعة..
كان هناك شيء غير طبيعي.. صوتها يرتعش بقلق..
أخذتني أنا وحمودي عند بيت خالي.. وقالت أنها ستذهب في مشوار مع خالي وتعود..
شعرت بالخوف في بيت خالي..
كنت أجلس وحدي أنا وأخي.. لا نفعل شيئاً..
فقد كانت زوجة خالي من النوع الغاضب دائماً.. صراخها الحاد على أبنائها وبناتها كفيل بجعلي – أنا وأخي - لا نغير أماكننا خوفاً من صرخة منها..
عرفت جيداً لماذا لم ترغب أمي في أن نسكن معهم..
شعرت بالملل طويلاً من الجلوس وحدي حتى نمت على الكنبة وأنا أشاهد التلفاز.. ونام حمودي قربي..
وبعد ذلك بمدة.. استيقظت.. وعلمت أن أمي أنجبت طفلاً صغيراً..
لم أفرح كثيراً.. كنت مهتمة بأمي قبل ذلك..
- وأمي أين هي؟ متى تعود؟
- أمك في المستشفى يا حنين..
شعرت بمغص في بطني.. كرهت المستشفى.. تذكرت شكل أبي.. لا.. لا أريدها أن تذهب هناك.. أخشى ألا تعود كما حصل مع أبي.. بكيت.. وبكيت.. ولا أحد يعرف سر بكائي..
عادت أمي تحمل جنينها..
وذهبنا مباشرة إلى بيتنا وأحمد الله أننا لم نجلس في بيت خالي كما حاول إقناعنا..
تعبت أمي بعد ذلك.. كانت مسؤولية البيت والأطفال لوحدها كبيرة عليها.. لكني كنت أساعدها قدر استطاعتي..
ربتنا أمي أفضل تربية.. تعبت علينا كثيراً.. وتعذبت كثيراً في تربية أخويّ..
لا أزال أذكر تلك الليالي التي كانت أمي تدور فيها بقلق في أرجاء البيت حين كان محمد يتأخر فيها في السهر..
ولا زلت أذكر الليلة التي بتنا فيها جميعاً نبكي حين غضب عبد الله وخرج من البيت آخر الليل.. لا نعرف إلى أين ذهب.. وبقينا نبكي بخوف أنا وأمي حتى ساعات الصباح ننتظر رجوعه..
كانت أمي تتحرج من الاتصال بخالي ليتدخل في كل صغيرة وكبيرة..
وكانت مسؤولية صعبة.. أن تواجه المشاكل وحدها..
أصيبت بالقولون.. ثم بالضغط.. ثم.. بالتهاب المفاصل..
أصبحت حركتها صعبة وهي لا تزال صغيرة..
كان أثر الهم والمسؤولية بادياً على جسدها النحيل ووجها الحزين..
ورغم آلامها ومرضها..
كانت حريصة على قيام الليل كل ليلة.. تدعو الله لنا أن يصلحنا ويهدينا - كما أسمعها كثيراً.. وتدعو الله أن يرحم والدي ويجمعها به في
الفردوس الأعلى..
* * *
رغم التعب والآلام.. والسنوات المتعبة التي عاشتها.. بدأت أمي تقطف ثمار جهدها يوماً بعد يوم..
تغير حال أخوي بعد أن كبرا بفضل الله..
رزقهما الله الهداية وصلاح الخلق..
تخرجا.. عملا..
تزوج كل منهما..
وأنا لا زلت أنتظر نصيبي.. مع أني مستمتعة بالحياة مع أمي الحبيبة.. ولا أتخيل نفسي بدونها..
* * *
الليلة.. وكل ليلة..
كلما وضعت رأسي على الوسادة.. أرى مشهد أبي الأخير على سريره.. عاري الصدر.. بالأسلاك والأجهزة.. وصوت نبضات القلب..
أتذكر حركة إصبعيه وهو يشير إلي أن أقترب..
عيناه الدامعتان..
أتذكر بكاء الأم الشابة..
فأدعو الله له بالمغفرة والرحمة من كل قلبي..
وأن يجمعه الله بأمي في جنات
النعيم..
📚 مجلة حياة العدد (٧٥) رجب ١٤٢٧ هـ
ليتني أعود .. صفحة بيضاء
تبدأ الجروح كبيرة.. دامية..
ثم تصغر.. تجف..
تلتحم..
لكن.. يبقى مكانها بعض الألم.. وتبقى آثارها مهما مر الزمن..
مكان بلا جرح.. ليس مثل مكان جُرح..
حتماً ليسوا سواء..
إنها الحقيقة مهما حاولنا تجاهلها..
كنت أقف عند نافذة غرفتي.. أطل على إخوتي الصغار وهم يتقافزون في مسبحهم الجديد الذي اشتروه بمناسبة حلول الصيف.. يتقاذفون كراتهم وألعابهم بكل مرح..
ما أجمل الطفولة وبراءتها..
ما أجمل أن تعيش خفيفاً.. دون هم.. ولا حزن ولا مسؤولية.. ولا ذكريات مؤلمة..
ليتني أعود طفلة بريئة طاهرة..
ليتني أعود راوية التي كانت طفلة بليدة مسكينة يضحك عليها بنات أقاربها ويهزأن بها فتجري خلفهم بشعرها الأعرد المتطاير..
ليتني أعود راوية التي تفرح بالفستان واللعبة.. وتمسح دموعها في حضن أمها بعد معاركها مع ابنة عمها كل مساء..
ليتني أعود سعيدة مبتهجة كما كانت راوية يوم العيد في فستانها ذي الحزام العريض وقبعتها وحقيبتها المليئة بالريالات.. لم تكن تهتم في ذلك الوقت بضحكات بنات أعمامها اللاتي كن قد بدأن في لبس الملابس النسائية ووضع شيء من المكياج.
بينما هي تبتسم في وجوه العمات والأعمام منتظرة (العيدية) لتفتح حقيبتها كل خمس دقائق وتعد ما جمعته من مال..
لا أزال أذكر نظراتهن وهمساتهن الضاحكة علي.. وقد وضعت كل منهن رجلها على الأخرى..
لم كن يستعجلن أن يصبحن نساء؟
كنا في نفس العمر تقريباً..
لكنهن يستعجلن أن يكبرن.. أن يضعن المكياج.. الفساتين الضيقة.. التسريحة الأنثوية..
لماذا؟
هل نحن الآن سعيدات بعد أن كبرنا؟
ما أجمل أيام الطفولة.. وبراءتها..
ليتني بقيت فيها أكثر وأكثر.. ليتني لم أكبر بهذه السرعة..
* * *
حاولن جذبي إلى عالمهن السري.. الخاص..
دخلته على وجل..
- يا خبلة ما يصير تلبسين كذا خلاص السنة الجاية بتروحين المتوسط.. وش هالدلاخة؟ للحين تلبسين ملابس أطفال؟ متى بتكبرين؟
- تعالي بس.. لازم نعلمك شلون تلبسين.. تكشخين.. تتمكيجين.. تمشين بالكعب.. تسرحين شعرك.. أصلاً هالـ(كشة) يبغى لها قص.. أنتي وجديلتك!
أشياء كثيرة تعلمتها.. رغم أنها لم تكن تحبها..
لا لشيء سوى لأنهن أقنعنها أنها هكذا غريبة.. مضحكة.. يجب أن تصبح مثلهن..
تعلمت كيف تضع أحمر شفاه لامع.. وقصت شعرها..
- حتى هذه الحواجب لازم (تنظفينها).. شكلك (غلط) فيها!!
كانت قد سمعت أن هذا حرام.. لكنها خجلت وسكتت حين رأت كل الفتيات يؤيدن ما قالته ابنة عمها..
- لكن.. لحظة.. لكن..
- أقول بس.. تعالي أزينهم لك.. علشان يصير شكل عيونك أحلى!
بدأت تمشي بالملقط على حاجبها.. كانت تشعر بالألم يسري لقلبها.. كانت تعرف أن هذا خطأ.. لا يجدر بها فعله.. أن تعصي خالقها لأجل شعيرات.. لكنهن جميعاً أصررن عليها.. كلهن يقمن بذلك..
أصبح لها مظهر آخر.. لم تعد تلك الطفلة..
أصبحت شيئاً آخر.. بقصة شعرها.. ومكياجها.. وكعبها..
من عينيها كانت نظرة براءة تحاول أن تتحدث.. لكن الحاجبين المثلثين كانا يسكتان تلك النظرة ليصرخا بنظرة دهاء.. هي منها بريئة..
تحولت لمسخ..
طفلة بمظهر(..)..!
* * *
- تعالي.. وش ذا العباة.. وش ذا (القراوة)!.. يحليلك.. شكلك كنك عجيّز..!
- هاه؟
- ليش ما تلبسين عباية شبابية.. شي حلو..
- لا.. ما له داعي..
لم تكن تستطيع أن تقول لا.. أنا أحبها.. أفتخر بها..
أحنت رأسها بصمت.. ابتلعت ريقها واستسلمت..
- يا الخبلة أنتي جسمك حلو.. ليش تخبينه بهالخيمة؟ البسي عباة مخصرة.. شيء فيه أنوثة.. أصلاً الشباب هالأيام ما يبون إلا اللي كذا..
ولأول مرة تكلمت..
- وشدخلني بالشباب؟
ارتبكت ابنة عمها..
- آآ.. قصدي إذا بغوا يخطبون..
إيه..!
وغيرت العباءة واستبدلتها بأخرى كانت تسير فيها على استحياء.. حتى تعودت عليها..
* * *
ثم بدأت مرحلة جديدة..
- قولي لهم يشترون لك جوال.. خلاص أنتي بتروحين ثاني متوسط.. أكبر من هالكبر؟!
- بس.. أنا ما أحتاجه..
- من قال ما تحتاجينه؟ أصلاً شكلك كذا يضحك في العزايم والمناسبات كل البنات معهن جولاتهن ويتبادلن البلوتوثات وأنت مسيكينة كنك بزر ما معك جوال.. وبعدين إلى متى صديقاتك إذا بغوا يكلمونك يتصلون على البيت ويرد عليهم فلان وعلان لازم معك جوال تتصلين على صديقاتك متى ما بغيتي لو نص الليل..
وعلى مضض..
أخذت تطالب أهلها به.. حتى كان لها..
* * *
كانت تلاحظ أن مها تمضي الساعات وهي تتحدث في الجوال تضحك.. تهمس.. وتلعب بشعرها..
- من كنت تكلمين؟
- ما لك دخل.. هذه أشياء ما تعرفينها.. توك صغيرة عليها..
- مها وش تقولين..؟
- هذا يا حبيبتي عالم ثاني مالك فيه يا المسكينة..
- شالألغاز؟ من تكلمين؟
أخذت تغني.. وتدور وشعرها يطير حولها.. ثم رمت نفسها على السرير..
وتنهدت..
- مسكين اللي ما جرب الحب والغرام..
- أي حب وغرام؟ مها!!.. أنتي تكلمين واحد؟
- لا.. عشرة! خخخخخ.. إيه.. أكلم واحد.. شفيك نتاظريني كذا؟
- مها حرام عليك!
- حرام عليك أنتي اللي دافنة نفسك وشبابك.. عيشي حياتك.. شوفي حولك.. كل البنات يكلمون.. ما بقى إلا أنتي بس يالمسكينة..
- لكن..
- بلا لكن.. يا أختي عمرنا ما سمعنا كلام حلو.. اسمعي الكلام اللي عمرك ما سمعتيه.. غير الرسايل والهدايا..
وجرفتني بكلامها المعسول.. لا أعرف كيف..
بدأت على خجل..
ثم تعودت.. مات الحياء.. غاب الخوف من الله..
(كل البنات يكلمون.. أنتي بس اللي توك طفلة)
طفلة.. بزر.. نقطة ضعفي.. الكلمة التي كنت أكرهها في ذلك الوقت..
كنت أريد أن أخلع ثوب الطفولة وكل ما يمت إليه بصلة.. بأي وسيلة.. وبسرعة.. حتى لو خلعت معه آخر غلالة للحياء والإيمان..
* * *
مات كل شيء جميل..
كلمت أكثر من شاب..
الكلام المعسول تعودت عليه..
الرسائل بدأت تتكرر.. أصبت بالملل.. الملل من الحياة في خوف وقلق.. وحيرة..
ومن التقلب بين جوال هذا وماسنجر ذاك..
العلاقة لم تكن تصل إلى شيء..
كلهم يدعون الحب.. ثم ماذا؟..
يحاولون إقناعي بالخروج معهم.. ثم ييأسون من رفضي ويذهبون..
كان هذا الجدار الأخير الذي لم يسقط حمداً لله..
- طيب اخطبني!!
ضحكة طويييلة ثم..
- يحليلك.. (بزر).. أي خطبة وأنتي في ثاني متوسط..
- ثالث متوسط!
- المهم في المتوسطة.. أي خطبة.. أكيد أهلك ما راح يوافقون..
- أنت جرب..
- أقول بلا خرابيط.. خلينا كذا أحسن.. بلا زواج بلا هم..
- لكن ما يصير لازم نتزوج..
- شوفي يا ماما.. أنا رجال متعقد من الزواج.. عندي اللي مكفيني..
- طيب ليش ما تطلق زوجتك إذا ما تبيها؟ ليش نبقى كذا معلقين؟
- أوووه.. شكلك بتطفشيني..
هكذا كانت تنتهي معظم علاقاتي.. بت أعرف طريقتهم.. أسلوبهم.. كيف يبدؤون.. وكيف يكذبون.. ومتى يتغيرون.. ومتى يغضبون.. ومتى ينهون العلاقة كما يريدون..
سئمت تعبت.. تعبت من محاولات أن أخلع ثوب الطفولة..
تعبت.. من الضياع.. من البعد عن الله..
* * *
نظرت إلى نفسي بالمرآة..
رأيت نفسي بلا وجه..
بلا حياء.. بلا نور إيمان.. بلا راحة.. بلا رضا..
كنت أرتدي قناعاً قبيحاً.. مقززاً.. أهذه هي الأنوثة..؟
تباً لها إن كانت كذلك..
سأخلع هذا القناع.. وهذا الثوب الذي لا أحب..
وليقولوا طفلة.. وغبية.. ومسكينة.. سأكون فوقهم ولن أخجل هذه المرة..
سأعود لربي الذي أعرضت عنه طويلاً..
سأمرغ جبهتي في الأرض طلباً لرضاه هو.. ولن أهتم بما سيقولونه أو يفعلونه..
* * *
- رااااااوية.. شوفيني.. بأغوص..
ابتسمت وأنا أنظر إلى خلودي الصغير وهو يستعرض..
ما أروع أن يكون الإنسان مرتاحاً.. بلا مكابرة.. بلا معاص تثقل ظهره..
ذهبت الجروح.. ذهبت الأحداث.. لكن آثارها لا زالت باقية.. تحرق فؤادي كلما تذكرتها..
ليتني أعود طفلة بريئة..
ليتني أعود صفحة بيضاء..
📚 مجلة حياة العدد (٧٦) شعبان ١٤٢٧ هـ
◽️◽️
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
📥
سلسلة { اعترافات فتاة } (١/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٢/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٣/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٤/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٥/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٦/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٧/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٨/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٩/٩)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق