الإعلام الإسلامي مقصر، ولكن الدعاة كذلك مقصرون في الكتابة في الصحف أو التحدث في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وأتمنى أن يعطي الإعلام بصورة عامة هموم الدعوة ما يعطيه للرياضة والفن من اهتمام.
*هل جاءت مبادرتك متأخرة بعض الشيء؟
آن الأوان أن أتذكر الموت وداره، خاصة وأن العمر قد انقضى في الركض وراء الدنيا ولا بد لي من صحوة أعود بها إلى الله وأعبده حق العبادة من خلال الدعوة، لهذا قررت أن الوقت قد حان لأعمل لآخرتي، وأن أتفرغ للدعوة في إفريقيا وأن أعيش وسط قبيلة أصلها عربي مسلم فَقَدَت هويتها وضاع منها دينها وتحولت إلى الوثنية، أصلها من الحجاز هاجرت قبل ٨٠٠ سنة إلى جنوب شرق مدغشقر، ولم يبقَ لها من الإسلام إلا تحريم أكل لحم الخنزير وكراهية الكلب وكتابة كتابهم المقدس بالحروف العربية ولكن بلغتهم، لقد نسيهم الدعاة، فنسوا دينهم وعبدوا الأحجار والأشجار.
لقد قررت أن أعيش بينهم في منطقة نائية في مدغشقر ينعدم فيها كثير من الخدمات، لمساعدتهم على العودة إلى دينهم واستعادة هويتهم..
إن عددهم نصف مليون وهم بحاجة إلى جهود كبيرة وأموال كثيرة، خاصة وأن الكنيسة بدأت العمل بينهم منذ ١١٠ سنوات، وقد وضعنا خطة لنشر الإسلام بينهم لمدة ٢٥ سنة وأنا بصدد جميع مبلغ ٥٠ مليون ريال وقفاً على المسلمين الضائعين من أمثالهم. ومن ريع هذا المبلغ سوف ننفق على رواتب الدعاة والقوافل والدورات الدعوية وكفالة الطلبة في المدارس والجامعات والأيتام وحفر الآبار وتنمية المنطقة دعوياً وتعليمياً واقتصادياً وصحياً، ورغم علمي أن المبلغ المطلوب كبير لكن الله علمني أن أثق فيه وفي عونه.
وقد أسلم عشرات الألوف من أبناء هذه القبيلة، ومعدل تكلفة هداية الشخص الواحد للإسلام ٣١٢ ريالاً سعودياً، وقيمة السهم الواحد في هذا الوقف ٣١٢٥ ريالاً سعودياً، ونحن هنا بحاجة ماسة إلى كفالة المزيد من الدعاة حتى نسهم في هداية هذه القبيلة إلى الإسلام، وطبع وترجمة الكتيبات، وبناء دور الأيتام وحفر الآبار...إالخ.
* ما هي ثمرات هذه الدعوة؟
لقد أسلم في أثيوبيا وشمال كينيا خمسون ألفاً من قبيلة (البوران)
وأسلم ثلاثون ألفاً في شمال كينيا من قبائل (الغبرا) و(البرجي)
وأسلم مئات الألوف في رواندا ومثلهم في ملاوي
و٨٠ ألفاً أسلموا في جنوب تشاد
وستون ألفاً في جنوب النيجر
وعشرات الألوف في جنوب السنغال وغينيا الغابية وبنين وسيراليون وغيرها... وهذا ما جعلني أشعر بعظم مسؤوليتي أمام الله، وأن الطريق طويل والعقبة كؤود والزاد قليل، فكيف ألقي عصا الترحال وهناك الملايين ممن يحتاجون للهداية وأنا بحاجة إليهم يوم القيامة ليشهدوا لي لعلي أدخل الجنة بدعاء واحد منهم؟
لو كانت القضية دنيوية لقلت نعم بملء فمي، فعندي عشرات الأمراض من جلطة بالقلب مرتين وجلطة بالمخ مع شلل قد زال والحمد لله، وارتفاع في ضغط الدم، ومرض السكري وجلطات في الساق، وتخشن في الركبة يمنعني من الصلاة دون كرسي وارتفاع في الكولسترول ونزيف في العين وغيرها كثير، ولكن مَنْ ينقذني من الحساب يوم يشكوني الناس في إفريقيا بأنني لم أسعَ إلى هدايتهم.
وهل أبقي مع أولادي ورسولنا – صلى الله عليه وسلم – يقول: ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها ) وأدعو الله أن يكون ذلك رجلاً من قبائل ( الأنتيمور) التي أعمل وسطها حالياً، والتي أسلم فيها عشرات الألوف ينقذني من النار ويكون سبباً في دخولي الجنة.
* متى تلقي عصا الترحال؟
سألقي عصا الترحال يوم أن تضمن الجنة لي، وما دمت دون ذلك فلا مفر من العمل حتى يأتي اليقين فالحساب عسير.. كيف يراد لي أن أتقاعد وأرتاح والملايين بحاجة إلى مَنْ يهديهم؟ وكيف أرتاح بدنياً وكل أسبوع يدخل الإسلام العشرات من أبناء (الأنتيمور) من خلال برامجنا ونرى كل يوم أن أعداء الإسلام لا يدخرون جهداً ولا مالاً في سبيل إبعاد أبناء هذه القبيلة التي كانت عربية مسلمة عن الإسلام وينفقون كل سنة عشرات الملايين ولديهم عشرات من العاملين هنا؟
* ماذا عن الحادث الذي جرى لك بالعراق؟
الحادث الذي حدث لي بالعراق بعد سقوط النظام السابق لا يستحق الذكر، وكنت قد ذهبت للإغاثة وتعرضت لحادث سيارة وتراكمت المضاعفات والحمد لله رب العالمين.
الأمور في العراق قد اختاط فيها الحابل بالنابل، ولم يعد للإنسان المعتدل مجال للعمل أو المساعدة إلا بصعوبة بالغة.
*هل من أثر للتنصير في الخليج؟
التنصير في الخليج ما زال قاصراً والخطر الأكبر من تغيير القيم والغزو الفكري والعلمانية الملحدة والعولمة،
وهذا تركته لأهل الخليج ليتعاملوا معه بالحكمة.
* ما أكثر المواقف تأثيراً على نفسك؟
المواقف أكثر من أحصيها وكثيرة جداً ولكن ما زلت أذكر قرية غرب السودان أثناء مجاعة ١٩٨٤م سألناهم: ماذا تطلبون؟ فقالوا: كل أطفالنا ماتوا من الجوع وبدأ الكبار يموتون بعد أن ماتت ماشيتهم وزروعهم؟ نناشدكم الله أن تحفروا لنا قبوراً لندفن موتانا، فنحن عاجزون عن حفرها بسبب الجوع، ونطلب منكم أكفاناً لموتانا.
في تلك الفترة رأيت قرى بكاملها في أثيوبيا مات سكانها وحيواناتهم وزروعهم، ولم أعثر على مسلم واحد يذكر الله، فكلهم إما في القبور أو ماتوا ولم يجدوا مَنْ يدفنهم فبقيت هياكلهم العظمية شاهداً على إهمالنا لهم.
*هل تواجهون خسائر مادية أو بشرية؟
هذا شيء طبيعي ومَنْ يُرِد الراحة الجسدية فليجلس عند زوجته ولا حاجة لله فيه، وطريق الدعوة محفوف بالمشكلات، وكل سنة نفقد حوالي ٨–١٠ من العاملين معنا في الحروب الأهلية التي لا ننسحب منها لأن الحاجة إلى عملنا تكثر،
لقد أصبت مرتين بجلطة في القلب، وأصبت بأمراض كثيرة، ولكن هذا كله يهون إذا عظم الهدف الذي تسعى إليه.
لقد كان المخترع المشهور توماس أديسون يعمل أحياناً ٣٦ ساعة متواصلة دون راحة في اختراعاته،
وعمل كولونيل ساندرز سنتين متواصلتين يحاول تسويق دجاج كنتكي المقلي، وكان ينام في سيارته حتى نجح وأصبح للشركة الآن حوالي عشرة آلاف مطعم في العالم ومبيعاتها السنوية بآلاف الملايين،
وهؤلاء يعملون للدنيا فأين مَنْ يعمل للآخرة من شبابنا ونسائنا؟ وفي تاريخنا قصص مشرفة عن علماء ساروا من أقصى المغرب إلى بغداد لتلقي العلم، وعلماء مثل ابن حنبل عمل حمالاً من بغداد إلى مكة حتى يأخذ حديثاً.
وهذا الإمام النووي لا يعرف له فراش ينام عليه، وكان إذا تعب يستند إلى عمود المسجد وينام ومات وعمره ٤٤ سنة، وترك لنا عشرات الكتب التي ندرسها، ولن ينجح مَنْ لا يدفع ثمن النجاح.
*ما أبرز الصعوبات التي واجهتكم في هذا المضمار؟
كانت وما زالت العقبات المالية، وتوفير الكوادر البشرية المؤهلة هي أكبر عقبة.. إن المال إذا وضع في يدٍ غير حكيمة أو بدون خبرة يتحول إلى نقمة على الدعوة.. وكل اللصوص الذين تزخر بهم إفريقيا أسهم في صنعهم كل مَنْ دفع لهم بحسن نية.
ولكن المال إذا وضع في يد أمينة يديرها عقل حكيم، تتحول إلى بلسم يشفي جراح الأمة، لقد رأيت بعض العاملين في مؤسسات خيرية يوزعون النقود في الشوارع وأغلب المستفيدين يشترون بها السجائر والخمور، ورأيت بعيني أحدهم يوزع على بعض الطلبة المسلمين نقوداً خرجوا جميعاً يتمتعون بها مع نساء الشوارع..!
بينما الكثير من مشاريعنا الدعوية متوقف، بسبب عدم توافر الدعم المادي لها، لهذا أشعر بضرورة عمل أوقاف ثابتة للدعوة الإسلامية ومشاريعها، وأن تُدار هذه الأوقاف باحتراف وبكفاءات عالية، ولنبدأ، وتأكدوا أن الله سيكون بعوننا.
* ماذا جنيت بعد ٢٦ سنة من العمل الدعوي؟
جنيت راحة البال وشعوري بأن حياتي التي قضيتها في مساعدة إخواني في أفريقيا كانت ذات معنى ولها هدف، قد لا أكون قد حققت كل ما أسعى إليه خاصة وأنني كلما وصلت إلى هدف بدأت أسعى إلى هدف أبعد.
*هل يرافقك أبناؤك في الدعوة إلى الله؟
عندما كان أبنائي صغاراً كانت مرافقتي لهم في عطلاتهم المدرسية هي فرصتي، لكي أتعرف عليهم ويتعرفوا عليَّ، لأن الصغار منهم لم يتذكروني إذا جئت إليهم من إفريقيا، أما الآن فقد كبروا وتخرجوا جميعاً، ما عدا واحد على وشك التخرج.
ابني الأصغر عبد الله سيتخرج -إن شاء الله– طبيباً بيطرياً بعد عام ونصف. وأود أن أكون له وقفاً من مالي الخاص –إن استطعت– ينفق من ريعه حتى يتفرغ للدعوة في إفريقيا بدلاً من مزاولة مهنته إذا يسر الله لي وله، وهو فيما أرى راغب جداً في العمل في ميدان الدعوة، وأرجو ألا يفهم من هذا أنني أدعو إلى التبرع لولدي.
*هل أنت داعية أم ماذا؟
أنا أبسط من أن أكون داعية فما زلت في بداية الدرب، والدعوة حقيقة أكبر مني، والسؤال من الأفضل أن يوجه للأبناء حتى يجيبوا عنه وأنا بعيد عنهم الآن في إفريقيا.
* تُرى ما الذي جعلك تترك مهنة الطب؟
العمل بالطب هو نوع من الدعوة ومن عمل الخير، وأنا شاكر جداً للروتين الحكومي الكويتي والبيروقراطية في مستشفياتنا، فلولا الله ثم هذه لما اتجهت نحو العمل الخيري في إفريقيا.
*هل اقتربت من تحقيق هدفك من الدعوة؟
أعيش من أجل إنقاذ إخواني في القارة السمراء، وأموت من أجل ذلك فما زال الهدف الأساس بعيداً جداً ولا وقت لدي الآن للتفكير في غير ذلك.
*الدعاة في الخليج هل أدوا دورهم كاملاً؟
لا أعتقد فيما عشته ورأيته ما يشجعني على قول إن الدعاة في الخليج أدوا دورهم في الدعوة في إفريقيا، نحن جميعاً مقصرون تجاه الله في إفريقيا.
*هل حدث أن تنصر أناس أسلموا على أيديكم؟
لا علم لي بذلك، ولكن لا يعني هذا أنني أنفيه، لقد رأيت مرتدين وحدثتهم ولكن لم أقابل مرتداً أسلم على يديّ حتى الآن.
*هل تذوقت طعم الفشل؟
لا نجاح أبداً بدون الفشل، النملة لا تستطيع تسلق الحائط بدون أن تسقط أكثر من مرة، والطريق إلى النجاح بمر دائماً بمحطات من الفشل، ولا خير فيمن يستسلم في المعركة الأولى.
* كيف تعاملت معك القبائل الإفريقية؟
بعض القبائل المسلمة في غرب إفريقيا فرحت بي كعربي مسلم يزورهم وأهدوني ثوباً ملكياً ونصبوني ملكاً عليهم وعندما عرضوا عليّ جارية لخدمتي رفضت
وأذكر في زيارة إلى قرية في سوازيلاند لحفر بئر هناك وجدنا المحكمة التقليدية منعقدة تحت شجرة، ولأننا لا نعرف العادات وقفنا احتراماً للمحكمة، ويبدو أن هذه جريمة في عرفهم فمروا في طابور يبصقون علينا أو يقذفون حرابهم بين أرجلنا وقالوا إن المفروض أن يحاكموننا لإهانتنا عاداتهم، طبعاً لم نحفر البئر، ولم نرجع مرة أخرى لهذه القرية..
وقد عرض عليّ الزواج أكثر من مرة من بنات زعماء إلا أنني مشغول بما هو أهم، وهو الدعوة ومن تزوج بالدعوة لا وقت له للزواج من بنات الناس.
* في أي جانب تنحصر مهمتكم في إفريقيا؟
مهمتنا هي دعوة الإنسان الإفريقي وإعادة بنائه ثقافياً ودينياً واقتصادياً واجتماعياً وصحياً، وتنمية المجتمع المهمش في إفريقيا، ولا شيء كالعلم الصحيح والدعوة بالحكمة في تحصين الإنسان من الردة.
* تعرضت للموت كثيراً.. كيف كانت ردة فعلك؟
الموت لا يأتي إلا في يوم مكتوب، ولن يموت الإنسان إلا بأجله، لقد سجنت مرتين مرة في بغداد عام ١٩٧٠م وكدت أعدم ومرة ١٩٩٠م عندما اعتقلتني المخابرات العراقية في الكويت، ولم أعرف مصيري، وعذبت في بغداد حتى انتزعوا اللحم من وجهي ويدي وقدمي، ولكنني كنت على يقين من أنني لن أموت إلا في اللحظة التي كتبها الله.
* في الختام مَنْ تتوقع أنه سيحمل مشعل العمل في ذات الدرب؟
إن أرحام المسلمات لم تصب بالعقم لتنجب مَنْ هو خير من عبد الرحمن السميط، ولقد أنجبت أمهاتنا صحابة رسول الله والتابعين والعلماء الأفذاذ والمجاهدين والمجددين وغيرهم، وكلهم خير ديناً ودنيا من عبد الرحمن السميط.
ولعلم قرائكم أنني تركت العمل الإداري منذ مدة وأعيش – كما ذكرت– في مكان نائي بعيد يصعب الوصول إليه، مما يعني أنني بعيد عن العمل الإداري منذ مدة، ويسرني أن تنشروا عنواني في مدغشقر وهو كالتالي:
📚 تم تحريره من مجلة نون العدد الرابع
رمضان - شوال ١٤٢٦ هـ
🔗 المقابلة كاملة مكتوبة على هيئة ملف وورد
📥 للتحميل:↓
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق