كنت أتناول القهوة في أحد الأسواق النسائية، وقد ارتحت على إحدى الطاولات،
بينما كانت جارتي في الطاولة المجاورة، فتاة في ريعان الصبا، تحتسي مشروبها بهدوء وقد تركتها أختها أو رفيقتها لتجلب شيئاً ما على ما يبدو،
سرعان ما اتجهت إليها إحدى الأخوات وقرعتها على العباءة الضيقة التي ترتديها، كان يبدو على ملامح وجهها الحزم والجدية، بينما تلاشت الابتسامة تماماً على الشفاه الأربعة،
ومع أن منظرهما لم يكن يبدو كشجار بالرغم من اكفهرار الملامح إلا أنه لفت نظر جميع النساء المتواجدات ووصلتني بعض الكلمات بحكم قربي النسبي، ولفتني نبرة التقريع التي تبدو واضحة من خلال كلمات الأخت الناصحة،
وكم تمنيت لحظتها أن أقول لها: مهلاً جزاك الله خيراً... (ما هكذا تورد الإبل).
وإن كنت لا أريد النقاش في الحدود التي نعرفها جميعاً، حتى تلك التي تخطتها، إلا أنني أريد الحديث هنا عن أسلوب التخاطب والنصح،
فبعض الأخوات وهن في نية صادقة للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزاهن الله خيراً، يتخذن سبيلاً ينهج إلى اللوم والتقريع لا إلى التحبيب والترغيب،
ومع أنهن مشكورات إلى مبادرتهن بالنية الطيبة إلا أن للدعوة أسلوبها وهو الأسلوب الذي انتهجه نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث نزلت فيه الآية الكريمة شاهداً بيناً على خصاله (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)،
فامتلاك المعلومة شيء محمود لا غبار عليه، لكن إيصالها يحتاج إلى مهارة ولباقة وأسلوب في التقرب والاقتراب بتواضع ومحبة،
ولا أجد هنا أقرب من حادثة الفتى الذي أتى يستأذن نبي الله ورسوله في أن يجعل له رخصة في الزنا، وهي إحدى الكبائر، فلم يغضب الرسول عليه الصلاة والسلام ولا هو بادر إلى تقريع الشاب، ولم يكن ذلك بالطبع استهانة من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في حدود الله، حاشا رسول الله، إلا أنه كان عن دراية بسبل النصح والدعوة وحكمة عميقة الغور أودعها الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، فما كان منه إلا أن أجلسه بجانبه وبادره بهدوء سائلاً: هل ترضى ذلك لأمك؟ هل ترضاه لأختك وما زال بالشاب حتى خرج وقد تاب عما كان يطلبه.
فكم هو جميل أن نتمثل خلق رسولنا الكريم عند النصح فلا نجعل من نكيل لها النصح تفر وقد ابتعدت ألف خطوة عن نقاش كان من الممكن أن يترك أثراً إيجابياً ويشدها نحو الالتزام أكثر، ويجعل لنا بها الله ثوابين، ثواب العمل والنية، وثواب توبة من عرفنا
كيف نتقرب منها ناصحات بأعذب أسلوب نهجه نبينا وننهجه بعده. فإن لم نكن سبباً في توبة نصوح، أقله ألا نكون سبباً في النفور من نصحنا.
وسيتم لنا ذلك عندما نأتي إلى الفتاة بإحساس المساواة لا إحساس التفوق،
فلا نشعرها أننا في واد آخر
بل نحن أقرب إليها وكلنا خطاء،
ونجرها إلى الحديث بنبرة الصدق والصداقة الآتية من شغاف القلب والتي تفتح أحكم الأبواب على مصراعيها،
عندها فقط نلامس شغافها ونصل إلى أعماقها ونستطيع أن نوصل ما نريد من القلب وإلى القلب.
◽️◽️
لبنى ياسين
📚 مجلة حياة العدد (٧٩) ذو القعدة ١٤٢٧هـ
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق