عن بكر بن عبد الله المزني قال :
كان رجل من ملوك بني إسرائيل، قد أعطي طول عمرٍ وكثرة أموالٍ وكثرة أولادٍ.
وكان أولاده إذا كبر أحدهم لبس ثياب الشعر، ولحق بالجبال، وأكل من الشجر، وساح في الأرض حتى يأتيه الموت. ففعل ذلك جماعتهم رجل بعد رجل ثم تتابع بنوه على ذلك.
وأصاب ولدًا بعد كبر، فدعا قومه، فقال: إني قد أصبت ولداً بعد ما كبرت، وترون شفقتي عليكم، وإني أخاف أن يتبع هذا سنة إخوته. وأنا أخاف عليكم إن لم يكن عليكم أحد من ولدي بعدي أن تهلكوا، فخذوه الآن في صغر سنه، فحببوا إليه الدنيا، فعسى أن يبقى من بعدكم عليكم.
فبنوا له حائطاً فرسخاً في فرسخ، فكان فيه دهراً من دهره.
ثم ركب يوماً فإذا عليه حائط مصمت، فقال: إني أحسب أن خلف هذا الحائط ناساً وعالماً آخر، فأخرجوني أزدد علماً وألقى الناس.
فقيل ذلك لأبيه، ففزع وخشي أن يتبع سنة إخوته، فقال: اجمعوا عليه كل لهو ولعب، ففعلوا ذلك.
ثم ركب في السنة الثانية، فقال: لا بد من الخروج.
فأُخبر بذلك الشيخ، فقال: أخرجوه فجعل على عجلةٍ وكلل بالزبرجد والذهب، وصار حوله حافتان من الناس. فبينا هو يسير إذا هو برجل مبتلى فقال: ما هذا؟
قالوا: رجل مبتلى.
فقال: أيصيب ناساً دون ناس أو كل خائف له؟
قالوا: كل خائف له.
قال: وأنا فيما أنا فيه من السلطان؟
قالوا: نعم،
قال: أفٍ لعيشكم هذا! هذا عيش كدر. فرجع مغموماً محزوناً،
فقيل لأبيه، فقال: انشروا عليه كل لهو وباطل حتى تنزعوا من قلبه هذا الحزن والغم.
فلبث حولاً، ثم قال: أخرجوني، فأخرج على مثل حاله الأول. فبينا هو يسير إذا هو برجل قد هرم، ولعابه يسيل من فيه. فقال: ما هذا؟
قالوا: رجل قد هرم.
قال: يصيب ناساً دون ناس أو كل خائف له إن هو عُمر؟
قالوا: كل خائف له.
قال: أفٍ لعيشكم هذا! هذا عيش لا يصفو لأحد.
فأخبر بذلك أبوه، فقال: احشروا عليه كل لهو وباطل. فحشروا عليه.
فمكث حولاً، ثم ركب على مثل حاله. فبينا هو يسير إذا هو بسريرٍ تحمله الرجال على عواتقها. فقال: ما هذا؟
قالوا: رجل مات.
قال لهم: وما الموت؟ إيتوني به!
فأتوه به.
فقال: أجلسوه.
فقالوا. إنه لا يجلس.
قال كلموه.
قالوا: إنه لا يتكلم.
قال: فأين تذهبون به؟
قالوا: ندفنه تحت الثرى.
قال: فيكون ماذا بعد هذا؟
قالوا: الحشر.
قال لهم: وما الحشر؟
قالوا: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) سورة المطففين (5). فيجزى كل واحد على قدر حسناته وسيئاته.
قال: ولكم دار غير هذه تجازون فيها؟
قالوا: نعم.
فرمى بنفسه من الفرس وجعل يعفّر وجهه في التراب، وقال لهم: مِن هذا كنت أخشى! كاد هذا يأتي علي وأنا لا أعلم به، أما ورب يعطي ويحشر ويجازي! إن هذا آخر العهد بيني وبينكم، فلا سبيل لكم علي بعد هذا اليوم.
فقالوا: لا ندعك حتى نردك إلى أبيك.
قال: فردوه إلى أبيه، وكاد ينزف دمه.
فقال: يا بني! ما هذا الجزع؟
قال: جزعي ليومٍ يُعطي فيه الصغير والكبير مجازاتهما ما عملا من الخير والشر.
فدعا بثياب فلبسها، وقال: إني عازم في الليل أن أخرج.
فلما كان في نصف الليل أو قريباً منه، خرج.
فلما خرج من باب القصر، قال:
اللهم! إني أسألك أمراً ليس لي منه قليل ولا كثير، قد سبقت فيه المقادير. إلهي! لوددت أن الماء كان في الماء، وأن الطين كان في الطين، ولم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة.
فلما خرج من باب القصر، قال:
اللهم! إني أسألك أمراً ليس لي منه قليل ولا كثير، قد سبقت فيه المقادير. إلهي! لوددت أن الماء كان في الماء، وأن الطين كان في الطين، ولم أنظر بعيني إلى الدنيا نظرة واحدة.
قال بكر بن عبد الله [المزني]: فهذا رجل خرج من ذنب واحدٍ لا يعلم ماذا عليه، فكيف بمن يذنب وهو يعلم ما عليه فيه، ولا يتحرج ولا يجزع ولا يتوب؟!
◽️◽️
📚 من كتاب (مختصر كتاب التوابين)
للإمام المقدسي
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق