لا شك أن المسلم يؤمن بأن سعادته في كلتا حياتيه:
الأولى، والثانية موقوفةً على مدى تأديب نفسه، وتطييبها، وتزكيتها، وتطهيرها،
كما أن شقاءها منوط بفسادها، وخبثها، وذلك للأدلة الآتية:
قوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ سورة الشمس.
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ سورة الأعراف.
وقوله: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ سورة العصر.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يدخل الجنة إلاّ من أبى ) قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟
قال ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) رواه مسلم.
كما يؤمن المسلم بأن ما تطهر به النفس وتزكو هو حسنة الإيمان، والعمل الصالح،
وأن ما تتدسى به، وتخبث، وتفسد هو سيئة الكفر والمعاصي، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ سورة هود.
وقوله: ﴿ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ سورة المطففين .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ) رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح.
فكذلك الران الذي قال الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ سورة المطففين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) رواه أحمد والترمذي والحاكم.
من أجل ذلك يعيش المسلم عاملاً دائماً على تأديب نفسه، وتزكيتها، وتطهيرها إذ هي أولى من يُؤدّب، فيأخذ بالآداب المزكية لها، والمطهرة لإرادتها، كما يجنبها كل ما يدسيها، ويفسدها من سيء المعتقدات وفاسد الأقوال والأفعال، يجاهدها ليل نهار، ويحاسبها في كل ساعة يحملها على فعل الخيرات، ويدفعها إلى الطاعة دفعاً، كما يصرفها عن الشر والفساد صرفاً ويردها عنهما رداً،
ويتبع في إصلاحها وتأديبها لتطهر وتزكو الخطوات التالية:
١ ـ التوبة
٢ ـ آداب مراقبة النفس
٣ ـ أداب محاسبة النفس
٤ ـ آداب مجاهدة النفس
١ ـ التوبة
والمراد منها التخلي عن سائر الذنوب والمعاصي، والندم على كل ذنب سالف والعزم على عدم العودة إلى الذنب في مقبل العمر، وذلك لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ سورة التحريم.
وقوله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ سورة النور.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة ) رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيةٍ مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحــاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) متفق عليه.
٢ ـ آداب مراقبة النفس
ينبغي للمسلم أن يأخذ نفسه بمراقبة الله تبارك وتعالى، ويلزمها إياها في كل لحظة من لحظات الحياة حتى يتم لها اليقين بأن الله مطلع عليها، عالم بأسرارها، رقيب على أعمالها، قائم عليها وعلى كل نفس بما كسبت، وبذلك تصبح مستغرقة بملاحظة جلال الله وكماله، شاعرة بالأنس في ذكره، واجدة الراحة في طاعته، راغبة في جواره، مقبلة عليه ، معرضة عما سواه.
وهذا معنى إسلام الوجه في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ سورة النساء
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ سورة لقمان
وهو عين ما دعا إليه الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ سورة البقرة
وقوله عز وجل: ﴿ وَكَانَ اللهُ عَلَيكُمْ رَقِيبا ﴾
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ سورة يونس
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) متفق عليه.
وهو نفس ما درج عليه السابقون الأولون من سلف هذه الأمة الصالح إذ أخذوا به أنفسهم حتى تم لهم اليقين، وبلغوا درجة المقربين وها هي ذي آثارهم تشهد لهم:
١ ـ قيل للجنيد رحمه الله: بم يستعان على غض البصر؟
قال: بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور له.
٢ ـ قال سفيان الثوري: عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة.
٣ ـ قال ابن المبارك لرجل: راقب الله يا فلان، فسأله الرجل عن المراقبة فقال له: كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل.
٤ ـ قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى مكة فتحرَّسْنَا ببعض الطريق فانحدر علينا راع من جبل فقال له عمر: يا راعي بعنا شاة من هذه الغنم فقال الراعي: إنه مملوك.
فقال له عمر: قل لسيدك: أكلها الذئب، فقال العبد: أين الله؟. فبكى عمر، وغدا على سيد الراعي فاشتراه منه، وأعتقه.
٥ ـ حُكيَ عن يعض الصالحين أنه مر بجماعة يترامون، وواحد جالس بعيداً عنهم فتقدم إليه وأراد أن يكلمه، فقال: ذكر الله أشهى، قال: أنت وحدك؟ فقال: معي ربي وملكاي، قال له: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له، قال: أين الطريق؟ فأشار نحو السماء، وقام ومشى.
٦ ـ وحُكِيَ أن " زليخا " لما خلت بيوسف – عليه السلام – قامت فغطت وجه صنم لها، فقال يوسف عليه السلام: مالك؟ أتستحين من مراقبة جماد ولا أستحي من مراقبة الملك الجبار؟.
وأنشد بعضهم قائلاً :
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل = خلوتُ ولكن قل عليّ رقيبٌ
ولا تحسينَّ اللهَ يغفلُ ساعةً = ولا أنَّ ما تُخفي عليه بغيبُ
ألم ترَ أنّ اليوم أسرعُ ذاهبٍ = وأنَّ غداً للنّاظرين قريبُ
٣ ـ آداب محاسبة النفس
وهي أنه لما كان المسلم عاملاً في هذه الحياة ليل نهار على ما يسعده في الدار الآخرة، ويؤهله لكرامتها، ورضوان الله فيها وكانت الدنيا هي موسم عمله كان عليه أن ينظر إلى الفرائض الواجبة عليه كنظر التاجر إلى رأس ماله،
وينظر إلى النوافل نظر التاجر إلى الأرباح الزائدة على رأس المال،
وينظر إلى المعاصي والذنوب كالخسارة في التجارة،
ثم يخلو بنفسه ساعة من آخر كل يوم يحاسب نفسه فيها على عمل يومه، فإن رأى نقصاً في الفرائض لامها ووبخها، وقام إلى جبره في الحال.
فإن كان مما يقضى قضاه، وإن كان مما لا يقضى جَبَرَهُ بالإكثار من النوافل، وإن رأى نقصاً في الفرائض عوض الناقص وجبره. وإن رأى خسارة بارتكاب المنهي استغفر، وندم، وأناب، وعمل من الخير ما يراه مصلحاً لما أفسد.
ها هو المراد من المحاسبة للنفس، وهي إحدى طرق إصلاحها، وتأديبها، وتزكيتها، وتطهيرها، وأدلتها ما يأتي:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ سورة الحشر.
فقوله تعالى: ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ﴾ هو أمر بالمحاسبة للنفس على ما قدمت لغدها المنتظر.
وقال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ سورة النور.
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إني لأتوب إلى الله، وأستغفره في اليوم مائة مرة )
وجاء في مسلم بلفظ: ( إنّه ليُغان على قلبي. وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة ) وبهذا اللفظ أيضاً ما رواه أبو داود.
وقال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
وفي هذا المعنى ما رواه الترمذي بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ).
وكان عمر رضي الله عنه إذا جن الليل يضرب قدمه بالدُّرَّة ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم؟.
وأبو طلحة رضي الله عنه عندما شغلته حديقته عن صلاته خرج منها صدقة لله تعالى فلم يكن هذا منه إلا محاسبة لنفسه، وعتاباً لها وتأديباً.
وحُكيَ عن الأحنف بن قيس أنه كان يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار، ثم يقول لنفسه: يا حُنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟.
وحُكيَ أن أحد الصالحين كان غازياً فتكشفت له امرأة فنظر إليها فرفع يده، ولطم عينه ففقأها، وقال: إنك لَلَحَّاظَةٌ إلى ما يضرك! .
ومر بعضهم بغرفة فقال: متى بنيت هذه الغرفة؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسأليني عما لا يعنيك؟! لأعاقبنك بصوم سنة فصامها.
ورُويَ أن أحد الصالحين كان ينطلق إلى الرمضاء فيتمرغ فيها ويقول لنفسه: ذوقي، ونار جهنم أشد حراً، أجيفة بالليل بطالة بالنهار؟.
وإن أحدهم رفع رأسه إلى سطح فرأى امرأة، فنظر إليها، فأخذ على نفسه أن لا ينظر إلى السماء ما دام حياً.
هكذا كان الصالحون من هذه الأمة يحاسبون أنفسهم عن تفريطها، ويلومونها على تقصيرها، يلزمونها التقوى، وينهونها عن الهوى عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ سورة النازعات.
٤ ـ أداب مجاهدة النفس
لا بد أن يعلم المسلم أن أعدى أعدائه إليه هو نفسه التي بين جنبيه، وأنها بطبعها ميالة إلى الشر، فَرَّارَة من الخير، أمَّارة بالسوء: قال تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ سورة يوسف. تحب الدعة، والخلود إلى الراحة، وترغب في البطالة، وتنجرف مع الهوى، تستهويها الشهوات العاجلة وإن كان فيها حتفها وشقاءها.
فإذا عرف المسلم هذا عبأ نفسه لمجاهدة نفسه، فأعلن عليها الحرب، وشهر ضدها السلاح، وصمم على مكافحة رعوناتها، ومناجزة شهواتها، فإذا أحبت الراحة أتعبها، وإذا رغبت في الشهوة حرمها، وإذا قصرت في طاعة أو خير عاقبها ولامها، ثم ألزمها بفعل ما قصرت فيه، وبقضاء ما فوتته أو تركته.
يأخذها بهذا التأديب حتى تطمئن، وتطهر، وتطيب، وتلك غاية المجاهدة للنفس. قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ سورة العنكبوت.
والمسلم إذ يجاهد نفسه في ذات الله لتطيب، وتطهر، وتزكو، وتطمئن، وتصبح أهلاً لكرامة الله تعالى ورضاه يعلم أن هذا هو درب الصالحين، وسبيل المؤمنين الصادقين، فيسلكه مقتدياً بهم، ويسير معه مقتفياً آثارهم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم قام الليل حتى تفطرت قدماه الشريفتان.
وسئل عليه السلام في ذلك فقال: ( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) رواه البخاري (٨ / ٤٤٩) في قيام الليل، ومسلم رقم ( ٢٨٢٠ ) في صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادات.
أي مجاهدة أكبر من هذه المجاهدة وايم الله؟!! .
وعلي رضي الله عنه يتحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما أرى شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غيراً صفراً قد باتوا سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكر الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لولا ثلاث ما أحببت العيش يوماً واحداً: الظمأ لله بالهواجر، والسجود له في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر.
وعاتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه على تفويت صلاة عصر في جماعة، وتصدق بأرض من أجل ذلك تقدر قيمتها بمائتي ألف درهم.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة بكاملها، وأخَرَّ يوماً صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين.
وكان عليٌّ رضي الله عنه يقول: رحم الله أقواماً يحسبهم الناس مرضى، وما هم بمرضى وذلك من آثار مجاهد النفس.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( خير الناس من طال عمره، وحسن عمله ) رواه الترمذي ، وحسنه.
وكان أويس القرني رحمه الله تعالى يقول: هذه ليلة الركوع فيحيى الليل كله في ركعةٍ، وإذا كانت الليلة الآتية قال: هذه ليلة السجود فيحيى الليل كله في سجدة. أورد هذا الآثار الإمام الغزالي في الإحياء.
وقال ثابت البناني أدركت رجالاً كان أحدهم يصلي فيعجز أن يأتي فراشه إلا حبواً، وكان أحدهم يقوم حتى تتورم قدماه من طول القيام، ويبلغ من الاجتهاد مبلغاً ما لو قيل له: القيامة غداً ما وجد مزيداً.
وكان إذا جاء الشتاء يقوم في السطح ليضربه الهواء البارد فلا ينام، وإذا جاء الصيف قام تحت السقف ليمنعه الحر من النوم، وكان بعضهم يموت وهو ساجد.
وقالت امرأة مسروق رحمه الله تعالى: كان مسروق لا يوجد إلا ساقاه منتفختان من طول القيام، ووالله إن كنت لأجلس خلفه وهو قائم يصلي فأبكي رحمةً له.
وكان منهم من إذا بلغ الأربعين من عمره طوى فراشه فلا ينام عليه قط.
ويروى أن امرأة صالحة من صالحي السلف – يقال لها ( عجرة ) – مكفوفة البصر كانت إذا جاء السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك، وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني لديك في عليين، في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الراحمين، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء، يا كريم، ثم تخر ساجدة ولا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.
◽️◽️
📚 من كتاب ( جامع الآداب الإسلامية )
عبده بن عبّاس الوليدي
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »