الجمعة، 23 نوفمبر 2018

بعد ثمان وعشرين سنة يلتقي بأهله

عن عبيد الله بن محمد بن الحسن قال: حدثني أبي، قال :

سمعت شيوخنا بالصراة، وأهلنا يتحدثون: أن عمرو بن مسعدة، كان مصعداً من واسط إلى بغداد، في حر شديد وهو جالس في زلاّل، فناداه رجل: يا صاحب الزلال، بالله عليك إلا نظرت إليَ.

قال: فكشف سجق الزلال، فإذا بشيخ ضعيف حاسر الرأس، 

فقال له: قد ترى ما أنا عليه، ولست أجد من يحملني، فابتغ الأجر فيّ، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجادفهم، إلى أن أصل بلداً يطرحونني فيه.

قال عمرو بن مسعدة : فرحمته، وقلت خذوه، فأخذوه، فغشي عليه، وكاد يموت لما لحقه من المشي في الشمس.
فلما أفاق، قلت له: يا شيخ، ما حالك، وما قصتك؟

فقال : قصة طويلة، فسكنته وطرحت عليه قميصاً ومنديلاً، وأمرت له بدراهم ، فشكرني.
فقلت: لا بد أن تحدثني بحديثك.

فقال: أنا رجل، كانت لله – عز وجل – علي نعمة جليلة، وكنت صيرفياً، فابتعت جارية بخمس مئة دينار، فعشقتها عشقاً عظيماً
وكنت لا أقدر على أفارقها ساعة واحدة، فإذا خرجت إلى الدكان، أخذني الجنون والهيمان حتى أعود فأجلس معها يومي كله
فدام ذلك حتى تعطل دكاني وتعطل كسبي وأقبلت أنفق من رأس المال حتى لم يبق منه قليل ولا كثير، وأنا مع ذلك لا أطيق أن أفارقها
فحبلت الجارية، وأقبلت أنقض داري، وأبيع نقضها، حتى فرغت من ذلك، فلم تبق لي حيلة فضربها الطلق، فقالت: يا هذا، هو ذا أموت، فاحتل فيما تبتاع به عسلاً، ودقيقاً ولحماً، وإلا مت.
فبكيت وحزنت، وخرجت على وجهي، وجئت لأغرق نفسي في دجلة، فذكرت حلاوة النفس، وخوف العقاب في الآخرة، فامتنعت.
ثم خرجت هائماً على وجهي إلى النهروان، وما زلت أمشي من قرية إلى قرية، حتى بلغت خراسان، فصادفت بها من عرفني، وتصرفت في ضياعه، ورزقني الله عز وجل – مالاً عظيماً، فأثريت، واتسعت حالي، ومكثت سنين، لا أعرف خبر منزلي، فلم أشك أن الجارية قد ماتت. وتراخت السنون حتى حصل لي ما قيمته عشرون ألف دينار فقلت:
قد صارت لي نعمة، فلو رجعت إلى وطني، فابتعت بالمال كله متاعاً من خراسان وأقبلت أريد العراق، من طريق فارس والأهواز، فلما حصلت بينهما، خرج على القافلة لصوص، فأخذوا جميع ما فيها، ونجوت بثيابي، وعدتُ فقيراً. ودخلت الأهواز، فبقيت بها متحيراً، حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن أعرفه، فأعطاني ما تحملت به إلى واسط.
ونفدت نفقتي، فمشيت إلى هذا الموضع، وقد كدت أتلف، فاستغثت بك، ولي منذ فارقت بغداد ثمان وعشرون سنة.

فعجبت من ذلك، وقلت له: اذهب، فاعرف خبر أهلك، وصر إليّ، فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك

فشكر، ودعا، ودخلنا بغداد ومضت على ذلك مدة طويلة، أنسيته فيها، فبينا أنا يوماً قد ركبت أريد دار المأمون، وإذا بالشيخ على بابي راكباً بغلاً فارهاً، بمركب محلي ثقيل، وغلام أسود بين يديه، وثياب حسنة فلما رأيته رحبتُ به، وقلت: ما الخبر؟

فقال: طويل، وها أنا آتي إليك في غد، وأحدثك الخبر.

فلما كان من الغد، جاءني، فقلت له: عرفني خبرك، فقد سررت بسلامتك، وبظاهر حالك

فقال: إني صعدت من زلالك فقصدت داري، فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلفته، غير أن باب الدار كان مجلوا، نظيفاً، وعليه دكاكين، وبواب، وبقال مع شاكريه.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت جاريتي وملك الدار بعض الجيران، فباعها من رجل من أصحاب السلطان، ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة، فوجدت في دكانه غلاماً حدثاً.
فقلت له: من تكون من فلان البقال؟
فقال: أنا ابنه

فقلت: ومتى مات؟
قال: منذ عشرين سنة

قلت: لمن هذه الدار؟
قال: لابن داية أمير المؤمنين، وهو الآن صاحب بيت ماله

قلت: بمن يعرف؟
قال: بابن فلان الصيرفي، فأسماني

قلت: فهذه الدار من باعها إليه؟
قال: هذه دار أبيه

قلت: وأبوه يعيش؟
قال: لا

قلت: أتعرف من حديثهم شيئاً؟

قال: نعم حدثني أبي أن والد هذا الرجل كان صيرفياً جليلاً، فافتقر، وأن أم هذا الرجل ضربها الطلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً، ففقد وهلك.
وقال أبي: جاءني رسول أم هذا يطلب لها شيئاً، وهي تستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة، ودفعت لها عشرة دراهم فما أنفقتها، حتى قيل: قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود ذكر، وقد عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل ثديهن، وقد طلب له الحرائر فجاؤوا بغير واحدة، فما أخذ ثدي واحدة منهن، وهم في طلب مرضع، فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا، فحملت إلى دار الرشيد، فحين وضع فم الصبي على ثديها قبله، فأرضعته، وكان الصبي المأمون، وصارت عندهم في حالة جليلة، ووصل إليها منهم خير كثير.
ثم خرج المأمون إلى خراسان، وخرجت هذه المرأة وابنها هذا معها، ولم نعرف أخبارهم إلا منذ قريب، لما عاد المأمون، وعادت حاشيته، رأينا هذا قد صار رجلاً، ولم أكن رأيته قبل قط، وقد كان أبي مات.
فقالوا: هذا ابن فلان الصيرفي، وابن داية الخليفة المأمون، فبنى هذه الدار وسواها.

فقلت: فعندك علم عن أمه أهي حية أم ميتة؟

قال: هي حية، تمضي إلى دار الخليفة أياماً، وتكون عند ابنها أياماً هنا.

فحمدت الله – تعالى – على هذه الحال، وجئت، حتى دخلت الدار مع الناس، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن، وفيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخرة، وفي صدره شاب بين يديه كتّاب وجهابذة، وحساب يستوفيه عليهم، وفي صفاف الدار وبعض مجالسها جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين يقبضون ويُقبضون. وبصرت بالفتى، فرأيت شبهي فيه، فعلمت أنه ابني، فجلستُ في غمار الناس، إلى أن لم يبق في المجلس غيري، فأقبل عليّ فقال: يا شيخ، هل من حاجة تقولها؟

فقلت: نعم، ولكنه أمر لا يجوز أنه يسمعه غيرك.

فأومأ إلى الغلمان الذين كانوا قياماً حوله، فانصرفوا، وقال: قل – أعزك الله –

قلت: أنا أبوك

فلمّا سمع ذلك تغير وجهه، ثم وثب مسرعاً، وتركني مكاني، فلم أشعر إلا بخادم جاءني، فقال: قم يا سيدي، قمت أسير معه، حتى بلغت ستارة منصوبة. في دار لطيفة، وكرسي بين يديها، والفتى جالس على كرسي آخر.
فقال: أجلس أيها الشيخ

فجلست على الكرسي، ودخل الخادم، فإذا بحركة خلف الستارة
فقلت: أظنك تريد أن تختبر صدق ما قلت لك من جهة فلانة، وذكرت اسم جاريتي أمه

قال: فإذا بالستارة قد كشفت، والجارية قد خرجت إلي، فوقعت عليّ تقبلني وتبكي، وتقول: مولاي والله
قال: فرأيت الفتى قد تشوّش، وبهت، وتحير فقلت للجارية  ويحك ما خبرك؟

فقالت: دع خبري، ففي مشاهدتك مما تفضل الله – عز وجل – بذلك كفاية، إلى أن أخبرك، فقل ما كان من خبرك أنت؟

فقصصت عليها خبري، منذ يوم خروجي من عندها، إلى يومي ذاك، وقصّت هي علي قصتها مثل ما قال ابن البقال، وأعجب، وأشرح وكل ذلك بمرأى من الفتى ومسمع، فلما استوفى الحديث، خرج وتركني في مكاني.

قال: وإذا أنا بخادم، قال: يا مولاي، يسألك ولدك أن تخرج إليه

قال: فخرجت إليه. فلما رآني من بعيد، قام قائماً على رجليه، وقال: معذرة إلى الله، وإليك يا أبت من تقصيري في حقك، فإنه فاجأني من أمرك ما لم أظن أنه بكون، والآن، فهذه النعمة لك وأنا ولدك، وأمير المؤمنين مجتهد بي منذ دهر، أن أدع هذه الجهبذة، وأتوفر على خدمته في الدار، فلا أفعل، طلباً للتمسك بصنعتي، والآن، فأنا اسأله أن يرد إليك عملي، وأخدمه أنا في غيرها، فقم عاجلاً، وأصلح أمرك.

فأخذت إلى الحمام ونظفت، وجاؤوني بخلعة، فألبستها، وخرجت إلى حجرة والدته، فجلست فيها، ثم أدخلني على أمير المؤمنين، وحدثته بحديثي، وخلع عليَ ورد إليَ العمل الذي كان إلى ولدي، وأجرى علي من الرزق في كل شهر كذا، وقلد ابني أعمالاً هي من أجل عمله، وأضعف له أرزاقه، وأمره بلزوم حضرته في أشياء استعمله فيها من خاص أمره.
فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل، وأعرفك بتجديد النعمة.

◽️◽️

📚 تم تحريره من كتاب "وأخيراً جاء الفرج "
قصص وتجارب واقعية
للمؤلف أحمد بن سالم بادويلان

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق