الجمعة، 17 يونيو 2016

ملف/ مقالات (أ. هديل بنت محمد الحضيف) رحمها الله تعالى

حورية الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم

قال ربنا جل جلاله: 


[الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏]

[ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ]


بمزيد من الأسى والحزن وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره ،

أعزي الأمة الإسلامية أجمع في وفاة كاتبتنا ومبدعتنا والناشطة الاجتماعية أ. هديل بنت محمد الحضيف (غفر الله لها )، وذلك في صباح يوم الجمعة الموافق ١١/ ٥/ ١٤٢٩هـ ..

هديل الحضيف ابنة الدكتور الفاضل محمد الحضيف حفظه الله صاحب موقع (http://www.alhodaif.com/)

لها أنشطة معروفة يشهد لها التاريخ .. صاحبة مدونة الكترونية (باب الجنة http://www.hdeel.ws/) .. لها عدة مؤلفات (مجموعة قصصية ) .. 
محررة زاوية إبداع وتمتلك عدة مواضيع في مجلة حياة للفتيات..


سأبكيكِ .. يا هديل .. لأن غيابكِ غياب جهدا وفكرا مناضلا..

سأبكيكِ .. يا هديل .. لأن فقدكِ انكسار قلما لطالما سهر وسجل ودون لاأليء وجواهرا ودررا..

سأبكيكِ .. يا هديل .. لأن رحيلكِ غرس جرحا في قلوب والديك ، ومحبوك..

سأبكيكِ .. يا هديل .. لأن حياة ستسأل عنكِ ولن تراك تضيئين صفحاتها الجميلة..

سأبكيكِ .. يا هديل .. عند شروق الشمس وغروبها ..

سأبكيكِ .. يا هديل .. كلما تهجم أهل التغريب والمحاربين لقضايا المرأة المسلمة!..

سأبكيكِ .. يا هديل .. كلما سمعت عن الصالحات الداعيات المناضلات..

سأبكيكِ .. يا هديل .. لأنه سيحزن مجد الاسلام على فراقك ..


شاعرنا اللدكتور عبدالرحمن بن صالح العشماوي فاضت قريحته بهذه الأبيات:

هل يرحل الهديلْ؟ 
تأجَّج السؤال حينما سمعتُ بالخبر.. 
يَمُورُ في دمي 
ملتهباً كالجمر في فمي 
هل يرحل الهديلْ؟ 
قد يرحل الحَمام لا يَعُودْ 
يفارق الوجودْ 
من بعد أن يُسمعنا هديلَه الجميلْ 
من بعد أن يغرس في قلوبنا مشاتل الهديلْ 
شامخة كأنها سَوامقُ النخيلْ 
يغيب عن عيوننا الحَمامْ 
يلُفُّه الضياءُ في عالمِهَ الفسيحْ 
ونحن في عالمنا يلفُّنا الظلامْ 
يستأنس الأُفْقُ به، هناك يستريحْ 
وبينَنا وبينَه الغَماَمْ 
قد يَرْحَلُ الحَمامْ 
مغِّرداً في صَمْتِنا بصمتهِ البديعْ 
مسافراً عن أرضنا.. 
في دَوْحِه أَقامْ 
هناكَ، حيث يسكن الرَّبيعْ 
وتسكن الأَرواحُ في سلامْ 
هناك، حيث لا شتاءُ لا صقيعْ 
ولا شظايا وَجَعٍ يُطْلِقُها الِّلئامْ 
هل يرحَلُ الهديل؟ 
قد يرحل الحمامُ والطيورُ كلُّها.. 
ويرحل المَدَى 
ويرحل الصباحُ والزُّهورُ والنَّدَى 
وفي الفؤاد يمكث التغريدُ والصَّدَى 
ويمكثُ الهديلُ في مسامع الزَّمَنْ 
لأنَّ صَوْتَه الشجيَّ في القلوب قد سّكَنْ 
قد تُبْتَلَى النجومُ بالأُفولْ 
وتُبْتَلى الأشجار بالذُّبولْ 
فترحَلُ الغاباتُ والحقولْ 
وترحلُ الفصولْ 
الصيفُ والشتاءُ والربيعْ 
قد تسقط الأوراقُ من غصونها 
وتَبْرَأُ الرياحُ من جنونها 
وفي مسامع الحياةِ يَمْكُثُ الحفيفْ 
قد تَصْدَأُ السيوفُ في أَغمادها.. 
وفي مسامع الإباءِ يمكُثُ الصَّليلْ 
كذلك الحَمَامُ، قد يغيب عن عيوننا.. 
وفي قلوبنا الهديلْ. 
كأنَّني بقُبَّةٍ لُؤْلُؤةٍ مجوَّفَهْ 
برحمةِ الله الذي أّبْدَعَها مُزَخْرفَهْ 
تقول للأم التي بكاؤها احتدمْ 
وللأب الذي يسكنُه الألَمْ: 
هُنا، هنا سيسكُنُ الهديلْ 
فاعتصما بالخالقِ الجليلْ 
وأَسْكِنَا قلبيكما صبرَهُما الجميلْ


، ،
اللهم اجعلنا مما يقال له: 
(اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان)

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )

، ،

قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: 
(اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)

رحلت هديل وتركت آثارها المختلفة منها ما هو مسجل على صفحات الانترنت .. 
منها ما هو مدون في الكتيبات ..
منها ما خط في عدد من المجلات .. 
منها ما سكن في القلوب من نبل أخلاقها وحسن سيرتها وطيب معشرها
رحمها الله تعالى..


ويكفيها شهادة ما حكته احدى الأخوات هاله:
[ بشرى لمحبي هديل الخييييييييييييييييييييير
كنت في العزاء اليوم وسمعت د.رقية المحارب تقول أنها لما كانت تقرأ الرقية على هديل وتضع يدها على جبين هديل أن يد الدكتورة رقية بقيت فيها رائحة مسك ………………تلك عاجل بشرى المؤمن]

، ،

عزمت بعد التوكل على الله تعالى أن أخرج ملفا والذي عنونته بـ ملف/ إهداء إلى روح (أ.هديل بنت محمد الحضيف) رحمها الله تعالى

إهداء ،،، أرسله إإلى روحها الطيبة المؤمنة النقية (روح هديل).. (كصدقة جارية لها ان شاء الله)

إهداء ،،، إلى والدها الدكتور الفاضل أبا المنذر .. وإلى والدتها الكريمة أم المنذر ..

جمعت فيه كل ما كتبته الفقيدة في مجلات حياة .. الذي أسأل الله العظيم الرحيم أن ينالون أجره 
ويكون نورا في قبر هديل عاجلا غير آجل


اللهم اغفر لها وارحمها وأسكنها فسيح جناتك واجمعنا بها في أعلى عليين 
يارب العالمين

✍ حورية الدعوة

_______________

(١)

قصة قصيرة
بقلم/ هديل الحضيف

حطام عمُر


تناهى إلى سمعي بكاؤها وأنا خارج ، أغلقت الباب بقوة ، وهبطت الدرجات مسرعاً ، 
محاولاً دفن صوتها في اللا شعور . .
ركبت السيارة وبقيت لمدة دون أن أشغلها . .
ثم أرخيت رأسي على المقود . .
كان صوتها يتردد داخلي ، كنت أحاول تجاهله دون جدوى ، فقد أحكم الحصار . .
- ليس ذنبي إن كنت لا أحبك . . تذكري أني تزوجتك من أجل رضا (الوالد) . .
لم ترد حينها ، لم تبك ، ولم تتحرك . . فقط تجمدت في مكانها دون أن يرتسم
على وجهها أي تعبير . .

تمنيت لو أني لم أقلها، وخرجت مسرعاً حتى لا أعذب نفسي برؤيتها..
في غمرة الإحباط الذي كان يكتنفني، أتى رنين الجوال ليردني إلى واقعي لم يكن بي رغبة ولا حتى إلى رؤية المتصل، كنت في حال لا تسمح لي بالحديث.
استمر الرنين وكأنه يجبرني على الرد..
- نعم.. لا.. لم أنس.. لكن قد أتأخر وقد لا آتي البتة!!.. أعذرني مزاجي ليس على ما يرام اليوم.. طابت سهرتكم..
أشغلت السيارة، ثم تحركت ببطء، رفعت رأسي لأرى نافذة الغرفة، أحسست أنها ما زالت تبكي، أدرت المقود ومشيت دون أن أحدد هدفاً..
لا أعلم كم هو الوقت الذي مضى وأنا أسير على غير هدى..
- ستتزوج ابنة عمك.. إن لم تتزوجها من يأخذها؟.. أتتركها للغريب؟!!
- أبي لكن هيا لا تناسبني.. كما أني لا أحبها..
- إذن من هي التي تناسبك؟.. هذا أنتم يا جيل (هالوقت) أثرت بكم المسلسلات والأفلام حتى أفسدتكم.. إني آمرك.. ستتزوج هيا.. وكلامي هذا لا رجعة فيه.. أتسمع؟!!
أبي.. ليتك تعلم ما الذي فعلته، هيا لا تستحقني، وأنا لا أستحقها، نحن كماء وزيت.. جمعنا في إناء واحد.. دون أن نختلط..
تنبهت إلى خزان الوقود الذي شارف على الانتهاء، انحرفت إلى أقرب محطة، لم يكن بها سوى عامل واحد، كان شكلي داعياً للشك.. مظهري لم يكن لائقاً.. فقد أخذ مني التفكير كل مأخذ.. كما أن وجودي في هذه الساعة ، وحده يبعث على كل ريبة..
- عشرون ريالاً يا سيدي..
دون أي شعور.. مددت مئتين، وأشغلت السيارة لأمضي دون أن أنتظر الباقي، أخذ العامل الورقة وتفحصها، ثم حدق في رقم سيارتي وانطلق للهاتف..
لم أستوعب ما يفعله.. ومضيت لحال سبيلي..
قدت سيارتي لخارج المدينة، كنت بحاجة ماسة للهدوء، أردت أن تكون الليلة ليلة اتخاذ قرار.. سأتخذ قراري الذي يحدد مصير هذا الزواج البائس..
لاحت لي من بعيد سيارات شرطة، لم أعبأ بها، كانت تقترب أكثر فأكثر.. حتى وقفت أحدها أمامي ونزل من بها طالباً مني أن أبرز بطاقتي..
أعطيته إياها، فنظر إلي متهكماً:
لا وتزور بطاقات أيضاً؟؟!!
فغرت فاي:
ماذا تقصد يا سيدي؟!
- أقصد أنك تنتحل شخصيات أناس لهم وزنهم..
- لم أفهم؟؟!!
- حسناً ستفهم هناك.. تستطيع مرافقتي لأفهمك..
كنت قد وصلت لحال من اليأس، تأكدت أن كل هذا بسبب زواجي (المنحوس).. منذ أن تزوجت لم أهنأ يوماً كاملاً، وها هي تكتمل اليوم بأن أساق إلى مركز الشرطة كمجرم.. عندما وصلنا للمركز.. رمي بي رمياً في التوقيف.. التفت إلى الشرطي:
لو سمحت.. إعرف من تتعامل معه..
طالعني بوجه لم يدخر وسعاً في جعله ينطق بكل التحقير لي.. ثم مضى..
أدرت بصري، كان كل ما حولي كئيباً.. جدران صفراء خط عليها كلام كثير بخطوط مشوهه.. وجوه كالحة وأعين غائرة..
اتخذت الزاوية البعيدة، وأسندت رأسي على ركبتي، ورحت أنشج نشيجاً خافتاً..
طالعت ساعتي التي كانت تحاول عبثاً أن تقنعني أنه قد مضى خمس ساعات على خروجي من المنزل..
عاد بكاء هيا إلى خاطري مرة أخرى.. كان يستفزني بقوة، أحسست بمزيج من الشفقة والكراهية، كنت أعتقد أنها سبب البلاء الذي أنا فيه، ثم أعود وأقول أنني أنا الذي ظلمتها دون وجه حق.
منذ ستة أشهر، وهي فترة زواجنا، لم أعاملها بلطف.. كنت جافاً غليظاً معها، لا أذكر أني ابتسمت لها ولا حتى يوم زفافنا.
- هيه أيها الصغير.. لم تعطك أمك وجبتك هذه الليلة؟؟!! وزلزل المكان ضحكات هستيرية..
لم ألق له بالاً، تجاهلته تماماً، حالتي لم تكن تسمح لي سوى بالتركيز على شيء واحد، وهو:
لِمَ أنا هنا؟
كان الليل يزحف ببطء، كل ثانية تعني لي ألف سنة، الجدران الصفراء تقترب وتقترب.. حتى خنقتني، صرخت بقوة، ثم فقدت وعيي..


(٢)
فتحت عينيّ ببطء، كنت أحس بضعف عام، لم أتبين ما حولي.. لكني استطعت أن أميز أني خرجت من ذاك المكان الكئيب..
حسناً يا نايف.. يبدو أنك بدأت تستعيد قوتك.. ولكن لا تبذل أي مجهود حالياً.. لقد كتبت تقريراً..
وطلبت منهم أن لا يحققوا معك حتى تكون بصحة كاملة..
أي تحقيق يا دكتور؟!.. ما فعلت حتى يحقق معي؟!
نايف إهدأ الآن.. يجب أن تخلد للراحة تماماً.. حتى تستعيد كامل عافيتك..
وخرج تاركاً الحيرة أنيسي في هذه السكون الموحش..
(ليس هناك أي شيء غريب في هذه الدنيا.. لا تستغرب يا نايف.. إن وجدت نفسك ذات صباح في سجن دون أن تعلم ما السبب!!)
خالد.. أكنت تقرأ مستقبلي؟! لن أستغرب من شيء بعد أن تحققت كلمتك.. بعد ثمان سنوات..
خالد.. كم هو الزمن الذي يفصلني عنك؟.. كم هي المسافات التي تحول بيني وبينك؟..
ما الذي قفز بك إلى ذاكرتي في هذا الوقت بالذات..؟
ما الذي نفض عنك الغبار بعد كل هذه السنين..
أتعمدت أن تعود للضوء بعد أن كنت مدفوناً دهوراً في الظلام لتزيد ألمي..؟
أقصدت أن تظهر كي تذكرني، وأنا الذي لم أنس، بالفراغ الهائل الذي تركه رحيلك؟..
خالد..
كنت أظنك مقطوعة حزينة لم يبق سوى صداها يتردد بين حين وحين.. وإذا بك جرحاً طرياً ما زال ينزف.. ما زال ينزف..
- سيد نايف.. يجب أن تتناول إفطارك..
- لا أريده.. احمليه بعيداً..
- لكن الطبيب أصر وبشدة على أن تتناول طعامك..
- لا أريده!!
خرجت وقد يئست تماماً من إقناعي..
لم يكن بي أي شهية للطعام، فقدت كل إحساس بالرغبة بالحياة.. أردت فقط أن أنتهي وعلى أية حال.. زواجي.. سجني، عودة خالد إلى الذاكرة.. كلها تضافرت لتجهز على كل أحلامي..
- نايف... فعلك هذا سيزيد الأمر سوءاً..
- أبقي سوء بعد هذا؟!.. إذن أريد أن أجربه..
- نايف ساعدني لتخرج من حالة الإحباط هذه .. ثم تذكر أنه وحتى الآن لم تثبت التهمة عليك..
- أي تهمة تتحدث عنها يا دكتور؟.. صدقني أنا نفسي لا أعلم ما التهمة الموجهة إلي حتى تثبت أو لا تثبت!!
- حسناً.. تناول طعامك لتستعيد عافيتك، وتستطيع دفع التهمة عن نفسك..
- لست طفلاً يا سيدي.. أريد أن أعلم لِمَ أنا هنا؟! هذا سؤالي..
لم ألق إجابة، كنت متأكداً أنه يعتقد أني أدفع الجرم عن نفسي بهذه الطريقة.. فاستسلمت لألم زاد حالتي سوءاً، نقلت على إثرها لقسم العناية الفائقة..


(٣)
- والده رفض فكرة الزيارة تماماً.. قال إنه لن يخسر سمعته بسبب خطأ ارتكبه ابنه..
حاولت جاهداً أن أكذب ما سمعته، أو أن أقتنع أن المعني غيري وغير والدي.. لكن لم يكن هناك أي مجال للتأويل.. أبي المتحدث.. وأنا المعني!!
ها أنت يا أبي تكرر قتلك لي.. ها أنت مرة أخرى تقدمني قرباناً لتجارتك..!
حسناً يا أبي.. فلتعتبرني بضاعة نفيسة عندك.. أو لتعاملني كرقم في دفاتر حساباتك العديدة.. علي أحظى بقليل من احترامك..
التفت إلي الطبيب على حين غرة، ولحظ الدموع أغرقت وجهي، أحس بخطئه، فرفع صوته قائلاً:
الله يهديه أبو الحسن رفض أن يزور ابنه!!..
لم يكن هناك أي وقت لتصحيح الخطأ، على العكس تماماً.. غرس النصل بقوة في قلبي ..
- دكتور.. ليست المرة الأولى.. ليست المرة الأولى.. ثم سحبت الفراش على وجهي لاستسلم لبكاء صامت طويل..
- لا تلعب مع أولاد الحارة.. فأنت لست مثلهم.. أنت ابن التاجر علي الجواهرجي..
- لكنهم أصدقائي..
- أيها المعتوه.. ألم أقل لك اتخذ أصدقاء من أمثال محمد بن صالح.. وعبد العزيز وأحمد أبناء فهد؟!
- لا أحبهم يا أبي..
- وهل أنا أشاورك؟!!
منذ متى يا أبي وأنت تجمع ثروتك على حساب حزني؟.. منذ متى وأنت تبني قصورك بدمي؟.. منذ متى وأنت ترفع أسهمك بتحطيمي؟!..
واليوم تمتنع عن أداء وظيفتك كأب.. كي لا تخسر وظيفتك كتاجر!!
ما زلت تحت الفراش عندما سمعت صوتاً يناديني.. كدت أصرخ:
كفى يا هيا.. أنت سبب البلاء.. يكفي أن هاجسك لم يفارقني مذ خرجت من المنزل تلك الليلة المشؤومة..
- نايف..
رفعت الفراش عن وجهي، ظاناً أن الصوت مجرد خيال سيزول حينما ألتقي بعالمي الواقعي الكئيب..
- هيا!!.. ما الذي أتى بك إلى هنا؟!
ندمت على ما قلت عندما رأيت عينيها..
- آسف.. لكن فعلاً يئست من أي شخص فضلاً عنكِ.. خصوصاً..
لمحت الطبيب وهو يبتسم ثم يغلق الباب بهدوء..
- إن لم أقف معك أنا.. فمن يقف معك؟؟
أردت أن أضمها . أن أكمل بكائي بين يديها.. أردت أن أعتذر عن كل ما حصل.. أحسست بحب جارف يدفعني لأن أقول.. هيا.. سامحيني ما كنت سوى جاهلاً.. لكني قلت:
صدقيني إني بريء.. صدقيني لم أعمل شيئاً..
بقيت صامتة، تنظر إلى لا شيء.. أحسست أنها تذكرني بليلتنا تلك.. كأنها تقول: ذق.. جرّب..
كنت أريد أن تقول أي شيء .. لكنها سكتت..
مرّ زمن طويل دون أن تتكلم حتى ضقت..
- هيا تحدثي.. أرجوك أي شيء.. قولي أني ظلمتك.. قولي إني شقاؤك.. قولي أي شيء..
نظرت إلي طويلاً ثم قامت..
كدت أجن عندما خرجت.. بأي حق فعلت هذا؟!.. كيف تذهب دون أن تريح قلبي المتعب؟!
كنت أريد أن تجمعني من جديد.. أن تلملم أشلائي المنثورة.. لا أن تزيد شتاتي..
أنا الطير الجريح..
أنا المبعثر المحطم..
أنا الراقص على عزف الألم..
أنا الممزق ... أسى..
أطاب لها بعد كل هذا أن تغلق الباب على حطامي وتغيب..

ذات مساء أمسكت
قلماً وكتبت .

ها أنت قد انتقمت لنفسك..
تعالي وانظري ماذا فعلتِ.. أصبحت مجرد خيال ملقى على فراش ينتظر نهايته..
تعالي وانقذيني من التيه.. من الضياع.. لم يبق سوى أنتِ.. لم يبق سوى نجم واحد يلوح بعيداً في الأفق خافتاً.. أخشى أن يختفي هو الآخر..
أردتُ أن أكمل، لكن خانتني..
عيناي..
يدي..
قوتي..
فرميت بالقلم لأنوح على بقايا عمري..

📚 مجلة حياة العدد (٢٥) جمادى الأولى ١٤٢٣ هـ

________________

(٢)
قصة قصيرة
بقلم/ هديل الحضيف

وطن يبتعد


إلى روح عبد العزيز الكوهجي .. فتى سافر مع الشمس.. ليجلب حلماً للوطن.. لم يعد .. ولم يعد الحلم..
وعادت روحه، لتتحدث عن الغدر يطعن الأحلام البيضاء في ظهورها، فتطير الفراشات.. ترسم خطاً بلون الدم.. بين قبح الغدر، ونقاء البراءة..


من بين ثنايا الوداع ، ورائحة العيد . . انسابت دعوات تكلله بالحب ، قبّل رأسها ، وهمس لها : بأن تعطره بالأمنيات الجميلة كل ليلة ، حتى يعود مع خيوط شمس العام القادم إليهم .
حمل أمتعته نحو الباب البعيد ، طعم العيد الساكن في أعماقه ، ظل يلح عليه بالبقاء ، يثير داخله معنى (الوطن) ، وأهازيج عتيقة .


أحلام ليلة البارحة، ما زالت تتراقص أمامه كدمى صغيرة، تنشد أناشيد الطفولة الغابرة.
وأصبح خارج الباب، والرحيل يلتقطه بأصابع شرسة.. باتجاه السفر:
((كم كانت الأحلام غبية ساذجة.. ذات زمن مضى.. أهناك حلم أجمل من الوطن؟.. أهناك أمنية أجمل من الأهل؟..)).
ثم تعود أصوات البحارة تملأ نفسه المتعبة، والسيارة تلتهم الطريق الأسود الطويل.

×××

قبل أن يبتلعه الأنبوب المؤدي للطائرة، أتاه صوت حنون عبر الأثير:
- .. سأعود يا أبي.. انتظرني قريباً.. ستشير إلي في المجالس، وتقول: هذا ابني هذا تاج رأسي.. لا شيء غير دعواتك..
ثم انقطعت آخر الخيوط التي تربطه بالأرض.
لا يعلم لِمَ تراءى له (خرطوم) الطائرة، كأفعى بشعة، تلتهم كل الأشياء الرائعة فتدعها مجرد حطام مشوه.. بدت له هذه الأفعى بلا آخر، تسير به إلى نقطة حالكة في آخر الدرب..
عندما وصل إلى باب الطائرة، طالعه وجه مألوف، ابتسم له ابتسامة بلهاء، وأشار له إلى مقعد يقبع في نهاية الطائرة، ضحك بسخرية: ((النهايات مصيري دائماً..)) ثم جرّ نفسه للمكان النائي..
تهاوى إلى المقعد، مريحاً الهواجس التي ظلت تؤلمه منذ الصباح، ثم دفن وجهه في النافذة الصغيرة ليغترف أكبر كمية من الوطن قبل الرحيل. الصمت كان حديث المسافرين عدا بعض الثرثرات الخافتة، تحركت الطائرة ببطء.. مبتعدة عن المبنى الضخم.. وعن أحلام البارحة..
انحنى على حقيبته الراقدة بين قدميه، ليخرج دفتراً صغيراً توارى بين طيات الملابس، ثم أطلق سراح الطاولة المقيدة أمامه، متجاهلاً السأم الذي يشيعه المضيف وهو يقرأ التعليمات المملة.

×××

٧/ شوال
وأغادرك سيدتي الجميلة.. مع مطلع شمس لا أعلم.. أتغيب .. أم أسبقها للغياب.. وأذوب في الأفق البعيد.
سأحدثك يا أرضي بحكاية طويلة.. بدأت ذات ليلة، كحلم في طور التكوين.. أبيض .. دافئ.. جميل، بعينين مغمضتين.. تخبئ داخلها فراشات ملونة.. وعصافير صغيرة...
أجزم أنه كان رائعاً.. كنت أتعهده بالرعاية.. أرقبه وهو ينمو.. وأنتظر اللحظة التي أعلن فيها عنه:
ورقة ملفوفة بشريط شفاف ناعم.. معطف مخملي.. قبعة تخرج.. وبسمات تغمرني من كل اتجاه بوهج لا نهائي..
كانت أمنية تتلألأ في سمائي.. كنجمة متفردة. تكسوني برضا وأمان.. تهدهدني على أغنياتها الهامسة حتى أنام..
الحلم يكبر.. والمساءات لم تعد تسعه.. أصبح فتى ثائراً.. كثير التمرد.. مزق ملابس الوداعة السابقة.. وأعلن التحدي!!
حملت حلمي إلى والدي.. وأخبرته أنه أمسى يقلقني.. ولم يعد ذاك الطفل الوديع الموغل في الرقة..
قلت له:
أريد أن أدرس..
وبابتسامته أجابني:
وما الذي يمنعك؟
كدت أسحب حلمي.. أتقهقر به إلى الوراء.. لولا جموحه المجنون:
في الخارج يا والدي..
سكت..
قرار كهذا، كان من المؤكد أن أبي لن يصدر موافقته عليه مباشرة، فلبثت أياماً دون أن أحدثه بشأنه.
في يوم إجازته، استدعاني إلى مكتبه، غلفت حلمي بوجل، خوفاً من أن يتحطم أو يقتل.. جلست وفي قلبي ألف أمل ورجاء:
ستسافر إلى هناك..
وكان تحقيق الحلم..!
اليوم أسافر يا وطني إلى هناك للمرة الألف.. بحلم لم يعد ذاك الحلم الجميل.. أصبح مرعباً مخيفاً.. اليوم أغادر يا وطني.. وفي روحي آلاف الندوب.. والنافذة الصغيرة تقف كحاجب شرس على باب سلطان جائر.. فتمنعني عنك..
واليوم سأجثو عند قدميك يا وطني.. طالباً العفو عن أحلام أخذتني عنك بعيداً..
وطني..
وللجرح أوطان أحملها أينما اتجه بي السفر!!

×××

حطت الطائرة على الأرض الصلبة، الأجساد التي أنهكها طول الجلوس، أصبحت تتململ في أماكنها مستعدة للنزول، أزاح النوم عن عينيه بكسل، الثلج المتراكم خلف النافذة، سرّب إليه قشعريرة هزته بعنف..
حينما أعلن القائد الإذن بالنزول من الطائرة، متمنياً للجميع طيب الإقامة!!.. تخلَّت المقاعد عن قاطنيها بسرعة، وبقي هو آخر من غادر الطائرة..
السلم الهابط إلى أرض المدرج، أعطاه شعوراً بالسقوط..
والبرودة التي أنشبت أظفارها فيه، فجّرت ينابيع الحنين لوطن ولّى ولن يعود..
أنهى الإجراءات بطريقة آلية، لم تعد تجذبه الوجوه المتناثرة في جنبات المطار، والحضارات المجتمعة في المكان، غدت بالنسبة له لوحة بخطوط ناشزة متنافرة.
اتجه للباب الزجاجي، تلاشت الأصوات عدا وقع أقدامه وصرير عجلات حقيبته على الأرض الصلدة. المكان يتوحش، الزمن يكشر عن أنيابه، فيهرب للخارج، ليستقبله تيار هواء قارس، يغرز في جسمه دبابيس حادة مؤلمة.

×××

١٥ / شوال
وصلت إلى مكان كان ذات عمر.. أمنية خضراء.. فأصبح اليوم قاحلاً.. يثير الوحدة في داخلي..
دفء البحر.. ما زال يغريني بالعودة..
والشمس المشرقة.. تترنم في داخلي بترانيم الشوق..
وأنا هنا.. البرد يقتل ألوان أزهاري.. ويبعثر طعم الحياة فتصبح بلا معنى..
وطني..
أتذكر ذاك الحلم القديم الذي حدثتك عنه..؟
لقد تسرب من بين يديّ إلى الماضي..
لم يبق منه إلا طيفاً يؤلمني..
ويسلب فتات الفرح من ثغور أوقاتي..
غداً سأذهب للجامعة، وسأعود لممارسة عاداتي السيئة:
سأضحك مع من أكره.. وأماشي من أستثقل.. وأتناول وجبتي مع من أجهل..
كم غدت الأيام كئيبة يا وطني !!!
أريد أن أعود على جناح من ضوء..
أفتغفر لابن عاق..؟!!

×××

القبو الرطب.. يضيق.. والقيد يغوص في اللحم، يفتك بالعروق الذابلة، ويمر اليوم الثالث وهو في مكانه، معصوب العينين، متناهية إلى سمعه أصوات يألفها .. وتحمل لغة كلغته:
- وجدنا ألف..
- وغيرها..
- بطاقة البنك..
ثم تبتعد الأصوات الوعرة.. ويبقى وحيداً..
كل آماله تداعت، ولم يعد يرغب سوى بالعودة إلى الوطن.. كطائر مهاجر..
أن يغمس قدميه الحافيتين في رملها الدافئ..
ينسج من خيوط شمسها أصدقاء من ذهب..
ويصدح بأغنيات الطفولة على الساحل الطويل..
ثم يعود ليلتقط ما قذف المد من بقايا ألحانها.. على الشاطئ..
أراد أن يحطم القيد.. أن يصرخ.. لكن الصوت ارتد للداخل سكيناً تمزق ما تبقى من أمنيات..
عادت الأصوات المرعبة، هابطة الدرج الخشبي.. تقهقه بنتن مقزز.. وتعربد ببقايا الرجاءات..
أحس بحبل يلتف حول عنقه، ظنَّ أن وحشة المكان امتد تأثيرها إلى عقله..
الحبل يضيق..
الأنفاس تتباطأ.
تتثاقل..
صرخة مكتومة..
وحلم يموت..
ووطن هناك.. يبتعد .. يبتعد.. ليهوي في لجة سحيقة ، يصعد من أغوارها عويل أم..

📚 مجلة حياة العدد (٢٧) رجب ١٤٢٣ هـ

________________

(٣)
في أروقة الجامعة
بقلم/ هديل الحضيف

بانتظار شموس أخرى . . .


تغتالك المسافات . . . تمعن في الوحشة . . وتمعنين بالهروب . .
والباب يلفظك للمرة الأخيرة خارج المبنى . .
الأيام الفائتة ، ما زالت تموج في الذاكرة المتعبة . .
تقتات على بقايا الأحلام التي كنت تحملينها قبل أن تعبر بك الدوامة إلى الفيافي المجدبة . .
قبل أن تتبعثر الأرقام على وجوه الأوراق فتحيلها إلى أفواه بشعة تلتهم العصافير البيضاء .


في يوم أشرق قبل سنتين كانت تلك العصافير تسكب ألحانها في أسماع الورد ، فتشيعها مقاطع عطور لا تذبل ، وكنت تخطين خطواتك الأولى إلى ( العالم الكبير ) ، وبيدك نفس الملف الذي تحتوينه بآلامك اليوم، لكنه بدا هذه المرة باهتاً كالصور القديمة تنفض عنها ألوانها لتبقى أسيرة لونين فقط ..
أتذكرين ؟ .. حينما كانت عيناك تلهمان الأسماء .. ويداك تتوهان بين صفحات الجرائد بحثاً عن حروف اسمك؟ ، ولأن الحرف الأول من اسمك يحتل ذيل القائمة الأبجدية كنت تحتلين السطر الأخير من السطور المتراكمة في الوريقات القليلة ، وقبل أن تعلني عن خيبة أملك ، يطالعك اسمك بحروفه الأربعة ، يضحك لكِ ، فتكتفين بتنهيدة تطلق كل الأمنيات التي حبسها الصيف في الصدر الحرج ..
تتغرز كالأشواك الجافة في أذنيك أقاويلهم، وتتابعين المسير ، في هدأة الليل تقسمين للقمر أنك أكبر منهم ، فيرسل نجماته إليك لينتزعن الأشواك من خاصرة الأحلام ..
تمضين إلى القابعة خلف المنضدة الصماء ، تطالع أوراقك ، تردد النظر بينك وبين الأرقام المحشورة في المربعات الضيقة ، وبجرة قلم ، تعلن أنك قد دخلت ( أخيراً ) العالم الكبير ..
جذوة من الحماس تتقد بين جنبيك ، رغم الخواء الذي يستوطن المكان منذ أن ابتلعت الطرق رفيقات الماضي ، تسبلين جفنيك على ذكراهن ، وتواصلين انتعال الدرب الطويل ..
الآن تطوف بك الذكريات في الممرات ، حيث زرعتها ذات آمال ، بمذاكرة سريعة قبل المحاضرة .. أو بكتابة هوامش على حواف الأوراق المهترئة ..
تدخلك إلي القاعات ذات الإضاءة المحتضرة .. والجدران المنطفئة ..
تجلسك على الطاولة التي ألفت تناول إفطارك عليها مع الصديقات الجدد ..
تحاولين الانسحاب من الذكرى ، بينما السيارات تمرّ من أمامك ، وأنت بانتظار السيارة التي ستقلك ولا تأتي !!
تلح عليك الذكريات مرة أخرى .. تمارس سطوتها بجبروت أقوى ، تذكرك بالمنمنمات الصغيرة في التفاصيل الدقيقة للذاكرة..
ببقايا الكلمات التي ما زالت نكهتها حاضرة منذ اليوم الأخير للامتحانات ..
الذاكرة تقسو ...
تنهال على الروح بومضات لا ترحم ...
تمطر عيناك مطراً مالحاً على النفس القاحلة ... فتتشقق وجعاً ..

* * *

- هيه .. أنتِ واقفة هنا .. ماذا تريدين .. ؟
- أريد أن أسحب ملفي ..
- إملئي الاستمارة أمامك ...
الاسم : هاربة من الدروب الموحشة .
القسم : الإحباطات المتوالية .
الفرقة : الأخيرة .
ونفس القلم الذي مشى على أوراقك قبل عامين وسمح لك بالعبور .. هو الذي أصدر أمر النفي هذه المرة !!
ثمة أسئلة تشاكسك بالداخل .. تتمرد .. وتثور :
لم حكمت على نفسك بالهروب ؟ ..
ألم يكن بإمكانك ترويض الدرب ؟ ..
الانسحاب ليس حلاً ..
تقمعينها بدكتاتورية مزيفة .. وتنصبين الصمت حاكماً ...
الظهيرة تطبق على الزمن ..
بصرك معلق بالأفق البعيد ..
ويدك ما زالت تقبض على الملف ..
الهواء الساخن ينفذ إلى المسامات .. فيعود التمرد للداخل ..
ويعصف الجموح بالذاكرة مرة أخرى ..
المنبر الخشبي في القاعة يشمخ من بين الأنقاض ..
ترتقيه كل مرة إحداهن ..
أصواتهن يرددها الفضاء ..
تنصتين ببقايا السمع الذي اغتالته الحرارة اللافحة ..
ثم تتهاوى الأصوات .. على وقع السكون ..

* * *

- أنت يا بنت .. أدخلي ..
- أنتظر سيارتي ..
- سينادي عليك إن حضر ..
- ماتت النداءات يا عمي ..
ينظر إليكِ بدهشة ، عقد تعلو لسانه ، فيتركك للنداءات التي تموت ..

* * *

الملل يعبث برمادك ، وأصابعك تعبث بأزرار الهاتف الجوال ..
ويدك الأخرى ما زالت تقبض على الملف ..
رنين يسرّب الحياة لجهازك ..
صوت قادم عبر الأثير يعلن حضوره بعد دقائق ..
تتأهبين تشدين على الملف بقوة أكبر .. شك يكسو عيني الحارس ، فيكتفي داخلك بتجديد بناء الأمل المتداعي .
تمتطين السيارة القادمة من خلف مرامي البصر ..
ترمين الملف ..
تنثرين أوجاعك بين يديه :
أبي .. الظلمة تكتنف الطريق ..
صمت يمارس طقوس الهيبة والوقار ..
فسحائب تملأ الفراغ ..
يأتي الصوت .. مطراً .. خزامى .. وشذرات فضة .. ليقول :
وثمة شموس أخرى تتوارى خلف الأفق .. ما زالت تنتظر أن تكشفي عنها ..

📚 مجلة حياة العدد (٢٨) شعبان ١٤٢٣ هـ

________________

(٤)

مدارات
إعداد/ هديل الحضيف - رحمها الله تعالى

العالم يصرخ 
لا للحرب


في أواخر شهر فبراير الميلادي الماضي ، خرج العالم ليصرخ ملء حناجره ، أنه ضد الحرب ، وضد المقاصد الدنيئة التي تستهدفها . الجميع هتفوا بلغة واحدة : لا للحرب .!

مشاعر . . ونبض

أعد هذا التقرير في نهاية شهر ذي الحجة، الموافق لشهر فبراير الذي شهد ثورة العالم ضد العنجهية الأمريكية. في محاولة منا لرصد مشاعر البنات والشباب الذين ما زالت بقايا أزمة الخليج الثانية (1990) حاضرة في أذهانهم رغم صغر سنهم آنذاك، ما زالت ذاكرتهم تحمل النوافذ المغلقة بسفر الطعام، الهروب الجماعي باتجاه القرى والصحراء .. والكويتيون الذين وجدوا أنفسهم فجأة لاجئون بلا ديار..

ورغم الخوف الذي ينتاب الجميع من هذه الحرب المجهولة العواقب، إلا أن روح السخرية كانت واضحة، كما هي عادة العربي الذي يحاول تجاوز خيباته، بالتنكيت عليها..

في جولتنا السريعة والقصيرة على آراء الشباب والبنات، كان واضحاً معارضتهم لها جملة وتفصيلاً:

تقول كويتية: أنا معها فقط إذا ضمنت أن قطرة دم واحدة لبريء لن تسكب.

عراقي يقول: لا يمكن تصور غير الخراب والدمار الذي ستخلفه هذه الحرب .

أب سعودي كل خوفه أن لا يجد قناعاً ضد الغاز لابنته التي لم تتجاوز الثانية من عمرها.

إحداهن تقول: (الله يكفينا شرها بس !!)

شاب سعودي حجز رحلة إلى شرق آسيا قائلا: (أنا منحاش منحاش .. الله لا يعوقها بشر !!)

إماراتي محبط يقول: سأرحب بها لأدفن كرامة عربية استفحل المرض في أعضائها فوجب على القوي إطلاق رصاصة الرحمة على جسد ميت منذ زمن طويل. فأهلاً بالحرب وبدون كمامات!!


هذه ربما أبرز الآراء التي خرجنا بها، والتي لم يسعفنا الوقت لاستطلاع أوسع وأشمل.

كل أملنا أن يكون هذا التقرير بين أيديكم، والجميع بأتم الأمن والاطمئنان..

لكم حمائم بيضاء .. وغصن زيتون ..


دروع بشرية .. لمنح الحياة

وصل معارضون لشن حرب على العراق إلى بغداد بعد سفر بحافلات من طابقين مسافة ٣٠٠٠ ميل من لندن يقول: جو ليتس وقد وصف الرحلة من لندن إلى بغداد بأنها (رحلة ملحمية). فقد واجه المحتجون عواصف رملية وأراضي وعرة وبيروقراطية – وقال إن وصول المحتجين إلى بغداد كان بمثابة (معجزة). ولكنه يعرف أن ذلك هو بداية الرحلة فقط. وكان هدفهم من الرحلة هو الكشف عن معاناة الشعب العراقي والعمل على تشكيل درع بشري للحيلولة دون قصف العراق.
يكمل: (كانت رحلة عظيمة. لم يكن يبدو أنها ممكنة، وما كان يجب أن نقوم بها، إلا أننا قمنا بها ونجحنا).
يقول إن أسوأ نقطة في الرحلة كانت عندما اصطدمت حافلتان على الحدود العراقية. ولكن التشجيع الكبير الذي حصل عليه المحتجون على طول الطريق ودعاء الناس في بريطانيا هما الدافع وراء مواصلة الرحلة. (في كل بلد مررنا به كان الناس يهتفون وينشدون. لقد دهشنا لحماسة هؤلاء الناس ضد الحرب). (كان ترحيب العراقيين بنا فوق العادة. لقد أدهشتنا الطريقة التي استقبلنا بها). إن الحرب حقيقة بالنسبة للعراقيين. وهم يشعرون بضغوط نفسية شديدة). وأضاف: (إننا لا نسمع شيئا عن ذلك في بلادنا. إن حكوماتنا لا تقول لنا شيئا عن ذلك. ومهمتنا هي أن نعلم شعوبنا عما يحدث في العراق). ويضع المحتجون الذين وصلوا إلى العراق خططا لمهامهم في المستقبل. ويشمل ذلك الأماكن التي سيشكلون دروعا بشرية فيها مثل المدارس والمشافي، وكذلك المرافق العامة. يقول أحدهم: (إذا قصفت مدرسة مثلا فإن المتأثرين بذلك سيكونون عدة مئات. ولكن إذا قصف مصنع لتنقية المياه فإن ملايين من الناس سيعانون).
ومن جهة أخرى
أعلن محمد الناصر العتريش رئيس حزب المسلمين في فرنسا، أن وفدا من المتطوعين الفرنسيين اتجه إلى العراق في إطار عملية دروع بشرية، وقال: (إننا لا نذهب لنموت، بل لنمنع غيرنا من الموت).


ولنبلونكم . .

- الحرب ليست مجرد اعتداء طرف على آخر، بل هي اختبار إيماني عميق، ليبتلي الله الذين آمنوا، ويزدادوا إيماناً..
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين).. 

- الحرب فرصة للعمل الخيري والتطوعي، من إسعاف للمرضى والجرحى ومساعدة المحتاجين، وجمع التبرعات، ولنا في الصحابيات والتابعيات أسوة حسنة، حينما كن يخرجن مع الجيش لإسعاف المجاهدين الذي يسقطون في ساحة المعركة.

- الحرب في جانبها العسكري، ليست مقصورة على الرجال، فكم من النساء جاهدن وأبلين بلاء حسناً وما صفية بنت عبد المطلب في غزوة خيبر، وخولة بنت الأزور في معركة القادسية عنا ببعيد، ولا ننسى زهرات فلسطين اللواتي ضحين بأجمل أعمارهن من أجل تخليص الأقصى من دنس اليهود، وكن رمزاً لشجاعة نادرة حتى بين الرجال.

- ليكن زادك دوماً وأبداً يقينك بالله، وثقتك بأن النصر حليف المؤمنين بالنهاية، وأن الله لا يخذل من حارب لأجل رفعة اسمه، ونصرة دينه ما أخذ بأسباب القوة والتمكين.


يعارضون الحرب



فلاشات

(لن تخرج من موانيء المدينة الإيطالية أي سفينة تجارية محملة بأسلحة ومعدات حربية مخصصة للنزاع في العراق)
غيدو اباديسا (الأمين العام لدائرة النقل الإيطالية سي . جي . أي . أل) رداً على ايقاف قطارات في بيز (شمال إيطاليا) محملة بأسلحة أمريكية متجهة إلى الموانيء


(خرجت مظاهرة في الخرطوم أواخر السبعينات لاستنكار التدخل السوفيتي في أفغانستان، ولكن ما إن مرت المظاهرة حذاء سفارة الولايات المتحدة التي كانت تهلل لمثل تلك المظاهرات وتشجع حكومتنا على السماح بتسييرها، حتى انفجرت الحناجر: داون داون يو أس ايه!
الكاتب السوداني جعفر عباس

إن العراق واحدة من أضعف الدول في المنطقة، إذ لا يمثل انفاقه الاقتصادي والعسكري إلا جزءا بسيطا من الإنفاق الكويتي.
تقرير لمنظمة الصحة العالمية


إن كل ما تبقى للعراق بعد حرب الخليج من برنامجه النووي كان عبارة عن أنقاض ومذكرات تقارير بشأن ما قام به.
العالم النووي العراقي عماد خدوري


لا يرغب البريطانيون في خوض حروب لا تنتهي، قائدهم فيها جلاد تاكساس، الذي هرب من الخدمة في فيتنام، ويقوم حاليا ورفاقه من أصحاب شركات النفط بإرسال فقراء أمريكا لتدمير دولة إسلامية.
الكاتب البريطاني روبرت فيسك


(سنموت هنا ، سنموت في هذا البلد .. وسنصون شرفنا !!)
الرئيس العراقي صدام حسين


نساء كاليفونيا يتظاهرن عاريات احتجاجا على سياسة بوش في العراق !!


(على وزراء الدفاع أن يتكلموا أقل، أليس كذلك؟ فليتكلم باول أكثر وليتكلم راميسفيلد أقل. لن يكون الأمر سيئا تماما !!)
رئيس وزراء أسبانيا أزنار

(كل هؤلاء المتظاهرون لن يثنوننا عن محاربة (الإرهاب) !!)
كونزاليسا رايس مسؤولة مستشارة الأمن القومي في البيت الأبيض


في بيروت، خرج ستة آلاف طفل في مسيرة تضامنية مع قضيتي العراق وفلسطين.


اجتمع أكثر من ١٢٠ ألف مصري في استاد القاهرة الدولي احتجاجا على الحرب المزمعة ضد العراق


بلير يخفق في إقناع البابا بـ (أخلاقية) الحرب !!


(وفوق ذلك كله فهو الشخص الذي حاول قتل والدي !) بوش يبرر محاربته لصدام


ذاكرة
كان خميساً مخيفاً، ربما لم تكن مشاهد المدرعات والآليات وهي تلتهم شوارع الكويت بنهم، شيئاً مرعباً إلى ذلك الحد بالنسبة لي. كنت حينها في الثانية عشر من عمري، وأكثر شيء أثار فزعي، وأنا التي تربيت على أوهام الوحدة العربية، والأمجاد العربية، والتضامن العربي، وكل الخيالات العربية الموغلة بالشاعرية والجمال، هو أن يقاتل عربي مسلم أخاه، أن يستبيح أرضه من أجل سائل أسود (دنيئ) تكون من تراكم الموت، وتقادم الزمن.
ربما عمري صغير آنذاك، لم تسمح لي باستيعاب أفعال الكبار، خاصة حينما يعميهم المال، ولم أستطع أن أفهم كيف تتهاوى القيم .. من أجل حفنة دولارات..
كان السؤال..
يمه ليش العراقيين يحاربونا؟
وكانت الإجابة دموع تشيح بها عني..
غالباً ما تكون الأسئلة جسراً واهياً نحو الحقيقة.
بدأت الكويت تخوي، والطرقات التي كانت قبل شهرين نهراً لا يجف من السيارات، فجأة غدت ملاذاً للسراب الذي تصنعه الشمس على صفحاتها الخالية ..
العوائل أخذت تتسرب من بيوتها، ولم يبق سوى القليلين الذين لم يسعفهم الوقت، أو المال.. أو إغلاق الحدود..
وجد الكويتيون أنفسهم، ولأول مرة، لاجئين!!
السراديب التي كانت رمزاً للترف، بدأ دورها الفعلي، أصبحت ملاذاً للبقية القليلة، كلما اخترق السماء صاروخ سواء كان قادماً من الشمال، أم كانت محطة إطلاقه جنوباً، الأسلحة لم تكن تميز بين العدو والصديق..
كل شيء تلبسه الصمت (الميت)، إلا أصوات التكبير التي كانت تنطلق بين فينة وأخرى، حاقنة إيانا بجرعة إيمانية نظل نقتات عليها حتى رعب آخر..
شيئاً فشيئاً.. مخزوننا من الغذاء بدأ يتناقص، نحن الذين لم نحتط لحرب كهذه، وأصبحت عملية الحصول على التموين الغذائي، أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش..
الماء في (الصنابير) أخذ يشح، وهاجس الموت عطشاً سيطر علينا كثيراً، ودفعنا أحياناً لحافة الانهيار..
تسعة أشهر كان عمر هذه الحرب (الغبية)، التي ما زلت اعتبرها أتفه حرب قامت على مدى التاريخ، فـ(العراق) خسر فيها الكثير، ونحن الكويتيين، لم يكن انتصارنا فيها ساحقاً، لأنها على أخوة لنا يجمعنا بهم تاريخ ودين، ودم..
واليوم رغم مرور ١٣ سنة على انتهائها، ما زالت ذاكرتي مثقلة بها، والدخان الأسود الذي تصاعد آنذاك من آبار النفط المحروقة، ما زال يكتمني بين حين وآخر..
ويغطي فترة من عمري، أحتسبها دوماً، خارج نطاق الزمن..
سعاد العتيبي - الكويت


لا تذبحوا
حبيبنا العراق

للشاعر العراقي يحيى السماوي

نعرف أن طينه معاق..
وماءه معاق..
ونخله معاق..
لكننا نعشقه..
عشق ضرير للسنا..
نرضى به هراوة.. مشنقة..
جوعاً.. أسى..
طاحونة.. أو مرجل احتراق..
نرضى به سوطاً على ظهورنا...
أو شوكة تنام في الأحداق
لا تذبحوا العراق
نصرخ باسم طينه
باسم يتاماه.. مشرديه.. جائعيه..
باسم نخله
وعصرنا المثكل في مكارم الأخلاق
باسم عروبة غدت دون يد
وساق
لا تذبحوا حبيبنا العراق
فلتتركوا مصيره لأهله العشاق

📚 مجلة حياة العدد (٣٤) صفر ١٤٢٤ هـ

◽️◽️

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق