الجمعة، 30 مارس 2018

قصة أدبية ( لحن الرحيل )

أسندت يدها المثقلة بطبق الحساء على ركبتها المثنية ، وعاودت طرق الباب وشعور الإحباط يوسع سلطانه في مملكة فكرها .
إلا أن باب الملحق فتح ليطل منه وجه أخيها الذي لا تعرفه بغير الاسم ( منسي ) ...

كانت بشرته سمراء ، لسمرتها صمت حزين ... وفي عينيه النجلاوين ، عسليتي اللون ، أعماق تنبض بقصص لا يعيها العقل ، إلا أن التنهدات تنطلق على إثرها حارة مشفقة .. أما شعره فاحم السواد ، المنتثر بإهمال على جبينه ، فكان وكأنه يناشد الخلاص من سياط الوحدة .. والمعاناة !
ببعض التردد وابتسامة واجفة تطل من شفتيها رفعت طبق الحساء وهزَّت كتفيها مازحة ..
- حساء طازج من القدر إلى مسكنك في دقيقتين !!

تسللت ابتسامة إلى ركن فمه ، أخفاها ، وابتعد عن المدخل قليلاً ، فدخلت واحتوتها برودة مسكنه .. أزاح عنها الطبق وأشار لها بالجلوس على المقعد الوحيد في حجرته ، بينما جلس قبالتها على حافة فراشه .
كل ما أعدته من مواضيع ، وخططت قوله ، تسرَّب تحت تأثير برودة الموقف . مواجهة أخ لها لم تحادثه مطلقا ، ولا تعرف له اسما سوى ( منسي ) ، الغريب الذي يعيش في معزل عنها وعن والدتها في هذا الملحق الصغير ، بينما تمنعها والدتها من الخروج إلى الحديقة أثناء تواجده فيها ...
قطع منسي الصمت ..
- ما شاء الله يا هنوف ، في أي مرحلة أصبحت الآن ؟!
تطلَّعت إليه بدهشة ، فأدرك أنها لم تخله يعرف اسمها . اشتعلت في داخله رغبة إطلاعها على الأعوام الماضية التي قضاها يسترق النظر إليها خلال نافذة الملحق الصغيرة ، يرقبها منذ أن كانت طفلة بضفيرتين مجدولتين تسرع راكضة إلى الحافلة المدرسية وابتسامة تشع خلال وداعها لأمها وسلامها لها حين عودتها ، حتى أصبحت فتاة ناضجة تخرج بعباءتها ، وجمال يشرق بإصرار خلال السواد الذي تكتسي به ... يراها كل يوم ، ويشيَّعها بدعاء الله أن يحفظها ويوفقها ...

تغلَّبت هنوف على دهشتها لتجيبه بمرح ..
- أصبحت في التوجيهية ... ( عنق الزجاجة ) كما يقولون !
فابتسم ، وعاد الصمت يخيّم عليهما من جديد ..
- ألا ترتشف حساءك يا " منسـ-
وبترت عبارتها وقد انتبهت لزلّة لسانها ، لكنه قرّب الحساء إليه وبدأ في ارتشافه بتمتع واضح ..
- لا عليك ... ذاك هو اسمي بالفعل ... أستحقه يا هنوف أكثر مما تتصورين !
وبدت عيناه وكأنهما تتطلعان إلى ماضٍ سحيق لم تعشه هنوف ولم تسمع عنه حتى ... حينما نطقت عيناها بصادق التعاطف والشفقة ، بدأ عليه الانفعال والضيق وبادرها مدافعاً ..
- اسمعي يا هنوف .. قد عشت وحدي طوال عشرة أيام ، لم أحتج خلالها إلى معونة أحد ... ولن أحتاج في يوم ما إلى شفقة مخلوق أياً كان !

وقبل أن يسترسل في دفاعه المجروح أجابته ..
- أدرك هذا جيداً يا أخي
- وانسابت كلمة أخي إلى قلبه فشعر بالدفء يسري في أوصاله ..
- الجو بارد ، والحساء يفوق حاجتي أنا وأمي ،
وزفرت زفرة طويلة قبل أن تواصل ..
ـ وفي الحقيقة ، إنني لم أعد أطيق جو الغموض الذي يحيطني ، وأحببت أن أنهيه بالقدوم إليك .
في البداية ، كنت أظنك ضيفاً غريباً . ثم مرّت الأيام واستنتجت معها أنك أخي ، وأن أمي غاضبة عليك ولم تعد حبك .
ولكن ، قبل يومين تنبهت من نومي على صوت شهقات أمي المتقطعة . سارعت إليها ، فوجدتها ترقب الملحق المضاء – حيث أنت – وتبلل خشب النافذة بدموعها المنسابة بغزارة . كانت تكرر نداءها لك بابني ... تصرّح بحبها لك ... تعاتبك ... تدعو الله أن يحفظك ... ثم تعود لبكائها من جديد ...

تحت الضوء التمعت عينا منسي بتأثر ، وبدت تقاطيع وجهه الناضج محفورة بعدد سنينه السبع والعشرين .
تنحنح في جلسته ، أسند جبينه إلى يديه مستغرقاً في تفكير عميق ، وأخيراً رفع عينيه إليها سارداً قصة ماضيه بتفاصيلها الدقيقة .
قصته منذ أن كان في مثل عمرها ، يفيض طاقة وحيوية وحيرة ..
و .. توقاً إلى أن يكون مثل سالم .. شاب يغاير الطلبة ، سواء بقامته الفارعة ، أو قوته التي لا ينافسه فيها أحد منهم .. أو استقلاليته ، حيث كان يعيش مع جدته – التي لا تدرك من محيطها شيئاً – في معزل عن أهله – الذين لم تتوصل الإشاعات إلى تحديد أصلهم أو محل إقامتهم ... كانت له مواجهات عدة مع رجال الأمن ، خرج منها خروج الشعرة الناعمة من العجين .. كان من ذلك النوع الذي لا يشق له غبار ، ولا يقف في طريقه أحد إلا سحقته إطارات أحد سياراته المتجددة في طرازها ولونها ...

وأتى يوم أرعد فيه مدير مدرستهم بصفهم الدراسي ، وفي عينيه رصاصتا اتهام مصوبتان تجاه سالم ... صرخ فيه ، يتوعده بالفصل إن صح ما سمعه عن تدخينه ( السجائر ) داخل الصف وقت ( الفسحة ) ... وأخذ يسأل الطلبة واحداً واحداً عن صحة الخبر ، وهم يجيبونه بصمت يثقله الخوف – الخوف من سالم ... فانطلق منسي بعد تفكير – لم يدم طويلاً – ينفي بثقة مبالغة – يخفي بها اضطرابه – إقدام سالم على ذلك ... وكانت كلمة واحدة منه – وهو الذي عرف باستقامة خلقه وصدقه – كفيلة بمسح أي أثر للشك من فكر المدير .. و الذي رحل محبطاً – لسبب ما – وهو ينذر من تسوّل له نفسه الإخلال بالنظام بعقاب لا يعرف الرحمة ... وفتحت السماء مصراعيها لمنسي ، إذ التفت إليه سالم ، وابتسامة عريضة تقتحم فكه العضلي ، ودعاه لمشاركته العشاء في أحد المطاعم التي عُرف بارتيادها ...

ومنذ ذلك الحين ، وحياته تسير في خط مواز لسالم ... فقد فتح له الآخر آفاقاً جديدة من القوة ... دلّه على طرق مكنته من دفع أهله إلى إمداده بسيارته التي يتمناها ، ومنحه مساحة من الحرية توائم رجولته ... وصار يصحبه إلى صالة الأثقال حتى صار يباريه قوة ... وسمح له بالتجول معه في خارطة حياته ... إلا مكاناً واحداً، لم يصحبه إليه ... وهو الشباب ... الشباب الذين كان يتحدث عنهم بفخر ، ويرفض اصطحاب منسي إليهم .. قائلاً بأن الوقت لم يحن بعد .. بأن منسي لم ينضج بما فيه الكفاية ، ولم يستقل ذهنياً ، بالصورة التي تؤهله لولوج عالمهم ... وكان في كل مرة يقولها ، يطعن منسياً ، طعناً يؤلمه ... وصبر الآخر طويلاً ، واحتمل الطعنات مراراً ، حتى تفجّر صبره هائجاً ، فأمسك بتلابيب سالم يحذره من الاسترسال في الاستهانة به ، وأن يأخذه إلى أولئك الشباب وإلا – فما كان من سالم إلا أن دفعه بابتسامة غامضة تشابه تلك التي منحه إياها في الصف حين دافع عنه ، وأخبره بأنه سيصحبه ليلتها إلى الشباب ... فقضى منسي يومه ينتظر حلول الموعد ودقات قلبه تسابق بعضها ... فقد كان متيقناً من أنه لم يكن ينتظر .. سوى الخطر !

.... فقضى منسي يومه ينتظر حلول الموعد ودقات قلبه تسابق بعضها ... فقد كان متيقناً من أنه لم يكن ينتظر .. سوى الخطر !
غابت عيناه عن أخته ، وهو يرسم تفاصيل لحظاته الأولى مع الشلة ، وكيف كان يجلس بينهم وهو يشعر بالضآلة ... والاختناق من عالم حياته الصغير الممل ، الخالي من الإثارة .. والتحدي .. والمتعة ... ولم تمر عليه ساعة من الجلوس بينهم ، حتى كان قد اتخذ قراره بأن يكسر القوقعة التي تطوّقه ... وأن يجيب بـ ( نعم ) حريته الفردية .. واستقلاليته ... وأن لا يسمح لوالديه أو مجتمعه بتقييده و التدخل في قراراته الشخصية !

أخذ يسرد على أخته – التي انتقلت التماعة الحزن إلى عينيها هي الأخرى – أحداث الليلة التي عاد فيها بعد سهرة مع سالم و( شلته ) ، تصاعدت فيها سحب دخان ( الماريجوانا ) المخدر ، إلى المنزل وهو يقود سيارته بسرعة جنونية فاصطدم بوالده الذي قضى الليل قلقاً عليه ينتظر وصوله أمام المنزل ... فسقط مغشياً عليه إثر كسور شتى أصابت عظامه ، ودخل في غيبوبة إثر نزيف داخلي ... ولم تمر أيام حتى فارق الحياة !

بحرقة أفضى إليها مشاعراً بدا مع كل حرف فيها يفسح للهواء مجالاً أكبر للنفاذ إلى صدره المكتوم ...
حكى لها كبف مرت أيام المحاكم والقضاء طويلة غائمة – لا يذكر بم ابتدت ، ولا إلى شيء آلت ... وكبف جرفه تأنيب الضمير إلى الغرق في بحر المخدر ، وكأن للغرق أعماقاً سحيقة يلوذ بها من صورة والده التي تلاحقه ... والده الذي جنى عليه بأفعاله الرعناء ، فيهرب من ذكراه إلى الشباب .. إلى عالم ( الرّواقة ) حيث تحتضنه دوامة النسيان ... نسيان الليلة التي حلفت عليه أمه ألا تطأ قدماه عتبة البيت ، والجمود يجعل من حنانها معنى أجنبياً ليس له أيّ أثر في قسماتها أو نظرات عينيها . فاستنجد بالشباب ليدخن ( الكراك ) ، مودعاً في سبيل دخانه سيارته التي كانت آخر مصدر للنقود ... و سار على إثره في الشوارع يترنح ويضحك والعالم في ناظريه مائج ، يتراقص خلال شلال دموعه ، لتصطدم به سيارة مسرعة .

تم نقله إلى المستشفى لمعاينة كسوره ، ثم أحيل إلى مركز " الأمل " لمساعدته في القضاء على الإدمان .
وبالفعل أطل الأمل . وبعد أسبوعين من العناية المركزة ، نسق المركز مع والدته عودته إلى المنزل ، فأجازت له العيش في الملحق .. ومنذ احتواء الملحق له وهو يعيش حجيماً من الذكريات تشن عليه الحرب على مدار اليوم والليلة ...

حاول مراراً أن يحادث والدته ، أن يستعطفها بدموعه وبكل ما أوتي من عبارات ، لكن الجرح غار وتعمق . وما كان له سوى النظر إلى العالم الخانق عبر نافذته ووحدة حجرته الصامتة .

حانت منه التفاتة إلى باقة ورد مهترء غلافها ، جافة أوراقها ، واختنقت حروفه ... لكنه أكمل رغم حشرجة صوته ..
- وعشت بعيداً عنكم يحيي مركز الأمل في نفسي الأمل . كانت صورة اللقاء بكم شعلة تجدّد في داخلي الإصرار على المقاومة والشفاء ... فسبقت زملائي في تجاوز المراحل المختلفة حتى تمكنت من طرد السم من دمي كليّة . واحتفى بي المركز ، وكرّمني في حفلة بسيطة ، تمنيت لو حضرتها أمي لتشهد أنني بالفعل قد تغيرت تغيراً جذرياً . لتشهد أني أصبحت رجلاً عشرينياً له طموح وأهداف يسير على طريقها ..
وصمت برهة ، قبل أن يكمل ..
ـ وعدت إلى المنزل وقد استدنت من أحد المسؤولين بالمركز ريالات لشراء باقة ورد لأمي قضيت ساعتين أصوغ ما خط على البطاقة المرفقة بها من مشاعر .

حاولت الدخول إلى المنزل ، فإذا به مقفل من الداخل ، ومزقني حينها شعور اللصوصية .
طرقت الباب مراراً ، حتى سمعت خطواتك الناعمة تسرع إليه وأنت تهتفين لوالدتك بأن الطارق هو الرجل الغريب . فأمرتك بألا تفتحيه ، بألا تدعي منسيّاً يدخل ... ورأيتك عبر الباب الزجاجي ترمقينني بعينيك الواسعتين وألف سؤال يرتسم خلالهما .
لكنك استدرت مولية وناثرة شعرك الأسود الطويل خلفك . وعدت أدراجي أجر أذيال الهزيمة تجاه غرفتي . وكما تلك الزهور ، أخذت مشاعري وأحلامي تنضب وتجف توشك أن تتحطم . وما عاد يربطني بعالم الأحياء سوى وظيفة ذات دخل جيد ، حصلت عليها في مركز الأمل ، أحيي خلالهما الأمل في نفوس يكاد يقتلها اليأس ...

شعرت هنوف برغبته في الاختلاء بنفسه ، فسحبت خطاها خارجة من الملحق مودعة إياه بقبلة أودعتها جبينه الحار ... أسرعت إلى حجرة والدتها تتفجر في داخلها الرغبة في ترميم بناء الماضي .
وجدتها تطل عبر النافذة في غياب وعي تام ... وما أن دنت منها ، واحتضنتها بحنان ، حتى قالت لها والظلام يخفي معالمها ...
- في الماضي جراح خير لنا ألا ننكأها ..
لكن هنوف تجاهلت مقصد أمها وانطلقت تسرد عليها ما فاتها من الأحداث في قصة منسي ، والتي ختمتها الأم بصرامة ..
- بإمكاني أن أعفو عنه وقد استحق ذلك . ولكن ليس بمقدوري أن أعيش معه تحت سقف واحد ، أجدد بمرآه عذاباً أليماً من الذكريات ..
وكشف ضوء القمر عن دمعة وحيدة ترقرقت على خدها وسط الظلام ...

تلون المستقبل أمام هنوف بالسواد . صارت تسامر أخاها بين الفنية والأخرى ، لا تجرؤ على إطلاعه على ما كان من والدتها . لكن أجراس الخطر بدأت تدق حواليها حين صارت تلحظ غيبته المتكررة ، وحين كانت تمر عليه في بعض الأمسيات فلا تجده .
ووصل به الأمر إلى المبيت خارج الملحق عدة ليالي . فأدركت أن الانتكاسة أقبلت ، وأن اليأس قد عاد بمنسي إلى الوراء .
أصبح شديد الهزال ، تجد الخطوط السوداء تحت عينيه مرتعاً خصباً لها . وفي محاولة منها على الإلمام بأبعاد ما يجري أخذت تحادثه ذات ليلة عن الطموح والمستقبل وتحقيق الذات ، لتفاجأ بطرده لها دون أن يقوى للنهوض على قدميه . صرخ فيها بصوت أبح واهن أنه ليس بحاجة إلى أخت صغيرة تنصحه وتلقنه معانٍ هي أكبر بكثير من استيعابها .

بحزن عميق تركته حتى تخفَّ حدة مزاجه ... عادت إليه بعد الأسبوع فلم تجده ، مرت عليه في اليوم التالي فلم تجده أيضاً ... وفي اليوم الثالث اقتحمت مسكنه وأخذت تفتش بين أرففه وأدراجه عن شيء يثبت صحة مخاوفها .

بحزن عميق تركته حتى تخفَّ حدة مزاجه ... عادت إليه بعد الأسبوع فلم تجده ، مرت عليه في اليوم التالي فلم تجده أيضاً ... وفي اليوم الثالث اقتحمت مسكنه وأخذت تفتش بين أرففه وأدراجه عن شيء يثبت صحة مخاوفها .

عثرت على إشعارات بنكية بمبالغ كبيرة مسحوبة بانتظام ... وجدت قصاصات جرائد قلبتها فخفق قلبها لرؤية اسمه الحقيقي ولأول مرة ، وفوجئت بموهبته الكتابية التي لم يطلعها عليها من قبل . في كل خاطرة وقصة كتبها جسَّد مرحلة مر بها في حياته .
حتى هي ، كتب فيها قصيدة بعنوان ( وطرقت أناملها بابيَ ... ) . وآخر ما نشر كان خاطرة تنطق بصريح اليأس وتحمل أثراً لدموع ، تحت عنوان ( لحن الرحيل )
" وحدي لا أجد غير الظلام أنيساً ، والبرد ملجأً . تطالعني الوحدة وشماتة ترافق ظلها ... ليت الدموع تجف لكثرة ماانسابت تصنع بحوراً من الندم ... بحوراً ليتها تحملني إلى الماضي ، إلى الليلة التي ضعفت فيها وقلت " نعم " ... ليتها ترد لي أياً يحمل في كبريائه صمود الجبال وفي حديثه صوت الحياة ... ليتها تحملني إلى أمي لترى أي فعل صنعه البعد بقلبي قبل جسدي العليل ، فتمسح بيدها على شعري وقد غدا أشعث أغبر يتوق إلى الحنان ... ليتها تصنع بي ولو شيئاً من هذا إذ صمدت ، وقلت " لا " ، فأصبح في داخلي قلب يحس وينبض بالنقاء ... وصارت لي أذن تسمع الحقيقة ، وعينان تريان الجمال ، تتجاوزان الظاهر الخادع إلى الأعماق حيث يكمن الصدق والإحساس ... ولكن أنَّى لـ " ليت " بأن تحقق شيئاً ، وهي رفيقة دربي المثقل بالأماني والحسرات .
أنّى لها أن تعيد لي الماضي ، وهي تمنّ عليَّ بالحاضر ... ضعيف أنا بضعف الكلمة التي يرددها قلبي ، وتهمس بها شفتاي ، وتصرخ بها عيناي ( آسف آسف آسف ) ...

معذرة لست وحدي ، ففي داخلي سم يرافقني ويتغلغل الأعماق ، وألم يمزق الجسد كما الإحساس .
شمس المغيب تعزف اليوم لحناً حزيناً ... و ( آسف ) تتردد في مسكني ، تطل على بيت الأم الحنون تستأخر المصير ، وتطلب الرضى ، لا شيء غيره ... تطلب العفو ، به تقرّ العين ، وتطمئن إلى الرحيل ... ولكن ، تتلاحق النبضات ، وعلى أرض الفراق تنبعث السيمفونية صادقة : أن قد فات الأوان ، فلترفع الأكف ضارعة إلى الرب الرحيم – هيثم "

فسارعت بعدها تقلَّب أدراج مكتبه بحماس أكثر ، فإذ بها تعثر على أوراق مواعيد ووصفات علاج كلها تحمل ختم ( قسم علاج السرطان ) ، وتعثر أخيراً على أوراق تشير إلى عملية مزمعة فأسقط في يدها !
سارعت إلى والدتها تطلعها على الأمر لتسرع الاثنتان معاً إلى المستشفى ، وتصلان بعد بحث طويل إلى حجرة مسجلة باسمه .
عند الباب قابلتهما ممرضة مكتنزة الجسم ، آسيوية الملامح . سألتاها عن منسي ، فهزت رأسها بحركة روتينية متقنة ..
- لم نعلم أن له أهل ، وإلا لاستدعيناكما البارحة حين كان يعاني الآلام المبرحة ... لكن ها قد أراحه الله ... آسفة جداً !

في أعماق هنوف استيقظ ما رد الصمود يحبس دموعها ويردد هازئاً أنها لم تعرفه من الأساس فما لها تصر على التشبث به وقد رحل بلا رجعة ... لكن الألم في داخلها كان سيد الموقف .
عادت أدراجها برفقة والدتها التي ناء جسدها بأعوامه الخمسين فاتكأت بوهن شديد عليها . وقبل أن تصلا إلى نهاية الممر سمعتا نداء شاب يسرع إليهما . اتجه بحديثه إلى والدة هنوف ..
- سلام الله عليك يا خالة ... اسمي عبد الله ، أتيت أحمل صادق التعازي باسمي واسم شباب الملجأ الملحق بمركز الأمل-
نظرت الأم إلى الوجهة التي يشير إليها عبد الله لتجد مجموعة من الشباب يعانق بعضهم بعضاً ووجوم يطلّل كل فرد منهم ..
- باقتراح إنشاء ملجأ يختص باحتضان هذه الفئة العمرية من الشباب ، والاستمرار في متابعتهم ودعمهم معنوياً وفكرياً ، أنقذ منسي العشرات من الطاقات من براثن التخبط ووجهها إلى الكثير من الأعمال البناءة في المجتمع ... سنفتقده كثيراً كأخ غالٍ علينا ، وسيفتقد الشباب أبوته ... لقد عانى في مرضه كثيراً ... عسى الله أن يتغمده في فسيح جناته ، وأن يؤجركم في مصيبتكم ..
وانطلق مبتعداً يواري دموعه .

مدفوعة بإحساس ملحاح ومبهم ، أوعزت هنوف للسائق ، في الصباح التالي ، أن يبتاع الصحيفة الأسبوعية التي كان يكتب بها هيثم .
لم تجد اسمه ، لكنها وجدت زاوية صغيرة بلا اسم .. أو أنها لاسم قد سقط سهوا !

" تعصف الرياح ، وتقتلع بهبوبها منازل كانت يوماً من الأيام وهجاً من الحياة تنبض وتفيض بالسعادة ... وعلى ضفتي الواقع يقيم رجلان ... يتجاذبهما مد وجزر وتعتصرهما دوامة ذكرى الماضي ، ورثاء الأيام ... أحدهما تغلفه الدوامة وينظر إلى الأسفل فيخيفه العمق ، والآخر يرفع عينيه بدعاء خالص إلى الله فيبصر سترة نجاة يتشبث بها لتعينه على اجتياز الخطر ... يرى رفيقه يغرق ، فيزداد إصرارً على النجاة ، يقاوم التيار ويظل يحاول حتى يصل ... والذي مات ، لموته بقية ، جثة تطفو تعلن عن قصة كان ينقصها إيمان بالله ، وبعد نظر ! "

◽️◽️

📚 من كتاب صراع مع الموج
عائشة توفيق القصير

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق