كان أمله منذ الصغر أن يصبح ضابطاً في الجيش..
وكثيراً ما كان يصرح بهذه الأمنية إذا سئل عن الوظيفة التي سيشغلها في المستقبل.. بل كان يطلب من والده إذا ما أخذه إلى السوق ليشتري له ثياباً أن يشتري له بزةً عسكرية.
ويكبر محمد ويشب والهدف ماثل أمام عينيه.
قال له الأستاذ ذات يوم إذا أردت أن تكون ضابطاً فعليك بالجد والاجتهاد.
واستطاع محمد في نهاية المطاف أن يحقق الهدف ويجعل الأمنية واقعاً.
فها هو ينهي دراسته الثانوية وينتسب للكلية الحربية العسكرية.
ويتخرج منها برتبة ملازم.
ثم أخذ يترقى حتى أصبح برتبة نقيب.
لكن هذا كله لم ينسه حبه للصحراء التي عاش فيها مع والده ردحاً من الزمن.
فقد كان والده يُثمِّر أمواله في تربية الماشية.
وكان يرافقها في حلها وترحالها،
وكان محمد يصحبه في رحلاته تلك أيام العطل،
وذات يوم حصل محمد على إجازة طويلة،
يممَّ وجهه فيها إلى عرعر، حيث مسقط رأسه وموطن آبائه وأجداده،
وما هي إلا ساعات حتى كان بين أخوته وأخواته، وأقربائه تقله مع أسرته سيارته الفاخرة، احتفى به الجميع، تناولوا معه طعام العشاء، واحتسى الجميع كؤوس الشاهي، وشربوا القهوة العربية التي ازدان بأباريقها وفناجيلها المجلس.
دام السهر إلى وقت متأخر، فقد كان الوقت فصل شتاء،
سأل أمه عن والده، قالت: هو كما تعلم على الأغلب يكون مع الغنم،
كان مشتاقاً لوالده كثيراً.
وضع في نفسه أن يكون معه في اليوم التالي، قال لها: سأكون عنده غداً بمشيئة الله.
ركب السيارة بمفرده قبيل العصر، انطلق بها والشوق يحدوه إلى رؤيه والده، دخل في الطريق الصحراوية المؤدية إلى ذلك المكان.. كانت صورة الوالد تتراءى له من بعيد حيناً، وتختفي أحياناً.
فجأة وجد نفسه أنه قد ضل الطريق، فقد مرَّ الوقت المحدد للوصول، لكنه لم يصل،
مضى في طريق آخر لكنه لم يعثر على المكان الذي فيه والده،
حاول العودة لكن الليل داهمه هذه المرة
لكنه لم ييأس،
لكنه لم ييأس،
إنه ما زال يسير في طريق يعتقد أنه الطريق المؤدية إلى عرعر،
كان ينظر حوله فلا يرى أحداً، أخذت الرياح تصفر من حوله والجو يكفهر، قال في نفسه: لا شك أن الجو يحمل معه تباشير المطر،
بدأ الجوع والعطش يدب في أوصاله، إذ لم يكن معه طعام ولا شراب وها هو يسير ولكن حتى الآن لم تظهر له أضواء عرعر المتلألأة كما كانت تظهر له من قبل رغم المسافة الطويلة التي قطعها..
سمع صوتاً قوياً لا شك أنه صوت رعد قاصف، تبعه وميض برق خاطف.. ما هي إلا لحظات حتى أخذت قطع الثلج الأبيض تضرب زجاج السيارة الأمامي.. وهاهي تغطي وجه الأرض شيئاً فشيئاً..
نزل من السيارة وقف على سقفها.. نظر يمنة ويسرة، لم يجد شيئاً يدل على أنه سلك المسار الصحيح،
أخذ البرد يلسعه بسياطه، ركب السيارة مرة أخرى وانطلق بها، لكن الثلج لم يبق أثراً يدل على الطريق..
توقف مكانه، أخذ يدعو ويحوقل، إنه الهلاك لا محالة، الثلج لا يزال يهطل بشدة والطريق غير معروفة، والجوع والعطش أخذ منه كل مأخذ..
خطرت له فكرة.. سيترك السيارة وينطلق لوحده هذه المرة قاصداً رؤوس الجبال عساه يرى أثراً لإنسان..
بدأ بالتضرع والدعاء لرب الأرض والسماء..
مضى هائماً على وجهه لا يدري أين يتجه، لسانه وجوارحه جميعها تردد يارب.. يارب
أخذت صور أولاده تلوح أمام ناظريه.. قال في نفسه:
مساكين سيبقون من غير أب لكن: لهم الله.. يا رب إني قد استودعتهم عندك..
تابع سيره تذكر قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)
أخذ يرفع يديه إلى السماء ويلهج بالدعاء: يارب سلِّم.. يارب سلِّم،
الثلج لا يزال يهطل بكثافة، ثيابه كاد الثلج أن يغطيها، لكنه كل فترة يحاول إبعاد ما علق به،
السيارة أصبحت بعيدة عنه..
الخوف من الموت أخذ يتسلل إلى قلبه والرجفة أخذت تنتشر في جميع أعضائه من شدة البرد،
اللسان فقط هو العضو السليم الذي لا يزال يتحرك دونما وجل ويردد يارب.. يارب،
دموعُ حرَّى كانت تتساقط من عينيه بين الفينة والأخرى،
إنه لا يزال يمشي لأن في وقوفه موت محقق،
قفز إلى ذهنه قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)..
أخذ لسانه يتمتم بالدعاء أكثر،
وفجأة سمع صوت سيارة قادمة من بعيد
أرهف سمعه إليها، الحياة بدت تدب في أوصاله مرة أخرى، ها هو الصوت يقترب منه شيئاً فشيئاً،
أرهف سمعه إليها، الحياة بدت تدب في أوصاله مرة أخرى، ها هو الصوت يقترب منه شيئاً فشيئاً،
أخذ يركض باتجاه الصوت ويقول: يارب.. يارب.
ظهر نور السيارة من بعيد
اتجه نحوه وهو يعدو بأقصى سرعته، أخذ يرفع صوته بأعلى طاقته..
رآه سائق السيارة.. سمعه وهو يصرخ.. لا شك أنه قاطع طريق، أو جني من جن هذا المكان، فكر بعدم الوقوف، استشار من معه، أشاروا عليه بالوقوف،
توقفت السيارة ومحمد لا يزال يركض نحوها، إنه لا يكاد يصدق ما يحدث، أخيراً وصل، لسانه لا يفتأ بتكرار الحمد لله .. الحمد لله.
أنزل سائق السيارة زجاج النافذة المجاورة له، سأله أنت إنس أم جان؟ ماذا تريد؟
أجاب: أنا إنسان مسلم من أهل هذه المنطقة انقطعت بي السبل، ولم أعد أعرف الطريق وسيارتي بعيدة هناك،
قال السائق: هيا اركب معنا، ركب محمد معهم وهو يرتجف من شدة البرد وقد أعياه التعب، وهدَّه الجوع والعطش،
وفي السيارة تعرَّف الجميع على محمد وقدَّموا له الطعام والشراب، واستمعوا منه إلى قصته العجيبة التي أنقذه الله من هلاك محقق فيها.
◽️◽️
علي محمد السيد
📚 مجلة الدفاع
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق