الأربعاء، 5 ديسمبر 2018

هل جربت الحياة يوما في مخيم؟


حين تدخلين إلى سريرك وتنعمين بالراحة والاسترخاء.. هل نظرت يوماً إلى سقف غرفتك وحمدت الله سبحانه وتعالى لأنك.. في غرفة.. وفوق رأسك سقف.. وفي مكان آمن.. آمنة على نفسك.. عرضك.. ودينك.. ؟

هل حمدت الله لأنك تستطيعين أن ترتاحي وتنامي بينما غيرك حرم هذه النعم؟

هل جربت أن تبيتي في مخيم لاجئين؟.. حيث الأطفال يتصارخون.. ويبكون.. والريح تعبث بأروقة الخيام..حيث لا تجدين وسادة تضعين عليها رأسك؟
حيث لا تجدين حماماً- أعزك الله- تغتسلين فيه أو تشمين فيه رائحة الصابون أو الشامبو؟

هل جربت أن تسمعي قذف الصواريخ والقنابل في الليل وأنت ترتجفين خوفاً وهلعاً ؟ هل شعرت بالخوف من جنود العدو يخطفون أطفالك أو يهددون عرضك؟

هل شعرت بالجوع يقرصك ويعصر الأطفال حولك فلا تجدين ما تطعميه إياه..

هل جربت شعورك بالعجز.. بالضياع.. بالضعف..

شعورك بالحاجة لجرعة ماء نظيفة..؟
حاجتك لفراش بسيط تستلقين عليه وترتاحين لساعات..؟

هل جربت مرارة فقد الأحبة واحتضارهم أمام عينيك وأنت عاجزة عن المساعدة بإسعاف بسيط؟

هل جربت ألم الضياع بكل بساطة؟
ضياع البيت والوطن والأحبة.. وفقدان غرفتك.. ودفاترك وأشيائك الجميلة..

أحياناً نتباكى بسبب مشكلة مع قريب.. ونتذمر بسبب صداع خفيف.. ونكتئب بسبب شجار تافه..
نقيم الدنيا ولا نقعدها حين تنقطع الكهرباء لدقائق بسيطة في حر الصيف اللاهب..
ونتناسى أولئك الذين يموتون تحت لهيب الشمس في المخيمات أو فوق صقيع الثلوج.. يمرضون فلا يجدون من يعالجهم.. يجوعون فلا يجدون من يطعمهم.. ويموتون فلا يجدون من يكفنهم..

ألا نتوقف لحظة ونحمد الله..

ألا نشكره بكل بساطة على ما لدينا بدلاً من التطلع لما ليس لدينا؟

أتمنى لو تعيش كل فتاة من فتياتنا تجربة العيش في مخيم فلسطيني.. أفغاني.. أو شيشاني.. ليوم واحد فقط..
لا أتمنى ذلك لشيء.. سوى لكي تعرف قيمة الحياة الرغدة التي تعيشها.. حياة الأميرات..

إذا كنت تريدين العيش في سعادة.. فاشعري بما لديك.. قبل أن تتطلعي لما ليس لديك..
قبل أن تقارني نفسك بالصديقة التي تسافر لجنيف أو فيينا.. أو تلك التي تشتري جوالاً حديثاً كل شهرين.. قارني نفسك بأختك اليتيمة في المخيم.. واحمدي الله على نعمه العظيمة..

قبل فترة قالت لي إحدى الأخوات :
أوصلني أخي إلى بيتي مع أطفالي آخر الليل بعد عودتي من مناسبة عائلية.. وحين دخلت بيتي (وذهب أخي).. وجدت الباب الداخلي مقفلاً.. وكان زوجي بعيداً ولن يأتي قبل ساعتين.. وكان جوالي مطفأ.. فاضطررت مع أطفالي للبقاء في الحوش الصغير لمدة ساعتين.. والله لا أستطيع أن أصف مرارة هاتبن الساعتين اللتين عشتهما في ضياع.. نعم ضياع .. أطفالي يبكون والحر شديد (رغم أن الوقت كان ليلاً).. وأنا خائفة من أن يقفز علينا أحد من السور لا سمح الله.. ولدي يبكي عطشان.. والبنت تبكي تريد الحمام.. وأنا متعبة جداً ولا أعرف كيف أساعدهم.. وانتهى الأمر بأطفالي المساكين بعد البكاء الطويل أن فرشت لهم عباءتي على الأرض فناموا عليها.. تمنيت لو أستطيع أن أتوضأ لأصلي على راحتي فلم أستطع.. تمنيت لو أستطيع النوم فلم أستطع لقساوة الأرض ولخوفي على أولادي.. وفي النهاية لا أعرف كيف أخذت أبكي من شدة الضيق والتعب والنعاس..
حين أتى زوجي ودخلنا البيت شعرت بفرحة عظيمة وحمدت الله أن ذلك الكابوس انتهى.. والله لقد شعرت بقيمة البيت.. والأمان.. والراحة.. شعرت بقيمة السرير.. والماء.. والسقف.. والتكييف.. حمدت الله كثيراً واستشعرت النعم التي لم أفكر يوماً بها.. وأخذت أتخيل حال إخواني المسلمين في الملاجئ.. كيف يعيشون هذه الحياة كل يوم.. سنوات طويلة؟


نوف الحزامي
📚 منتقى من احدى المجلات الاسلامية

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »


الاثنين، 3 ديسمبر 2018

فلا تطفئيه


كنت وأنا فتاة... (هكذا حدثتنا) أعيش بهواي.. أتفنن في زينتي ومكياجي.. وعطري يفوح لأمتار.. ليرى الناس كم أنا أنيقة وجميلة..

وذات يوم.. خرجت إلى السوق مع والدتي.. وبينما أنا أمشي إذ سمعت فجأة صوتاً من خلفي ينادي بصوت يقطر حباً وحناناً :
يا حبيبتي... يا حبيبتي..

فالتفت فإذا بسيدة تصافحني بحرارة .. فصافحتها بدهشة .. فشدت على يدي وقالت بصوت ملائكي حنون :
يا حبيبتي... إني أرى الله قد ألقى على وجهك نوراً.. فلا تطفئيه.. بظلمة المعصية...

فأخذتني العزة بالإثم ونترت يدي من يدها ومضيت غير أني أحسست كأنما كلماتها قد نقشت في قلبي...

فلما عدنا إلى البيت... صارت تأخذني رعدة شديدة كلما ذكرت كلماتها (إني أرى الله قد ألقى على وجهك نوراً ... ).

وساقتني كلماتها إلى المرآة .. ونظرت إلى وجهي.. كأنما أراه لأول مرة.. وخيل إليَّ في وجهي نوراً يضيء ثم يخبو ... عندئذٍ ... رنت في فؤادي كلماتها (فلا تطفئيه بظلمة المعصية ... )

صليت في هذه الليلة... صلاة العشاء، صلاة متدبرة لأول مرة في حياتي... ثم أويت إلى فراشي... غير أن النوم جفاني... وبدأت كلماتها ترنُ من حولي... فلا تطفئيه... فلا تطفئيه... فلا تطفئيه... وأخذت تتجاوب بها جنبات الليل... حتى خيل لي أني أسمع صوتاً يناديني يا فلانة ... إن الله قد ألقى على وجهك نوراً... فلا ... عندئذٍ لم أدع الصوت يكمل بل قمت مسرعةً إلى سجادتي... وقلبي يكاد ينخلع من شدة الخفقان... وخررتُ ساجدة وأنا أهتف
أعاهدك يا رب... ألا أطفئه أبداً...

وبدأت الدموع تنهمر مدراراً وأنا أقول:
يا رب... لقد أمهلتني طويلاً... ما أكثر نعمك... وما أقل حيائي... يا رب..

وترددت صيحة الحق ودوت في جنبات الكون من المسجد المجاور لبيتنا وأنا في بكائي ونشيجي .. ومن لحظتها وفيت بعهدي فلم أطفئه بمعصية أبداً...

حينئذٍ التفت إلى وجهي فإذا هو يتألق نوراً ...

◽️◽️

أسماء الباني
📚 مجلة حياة العدد (٣٠) شوال ١٤٢٣هـ

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

(كما تدين تدان) سر ابنة الخالة .. والفتى المسكي

(١)
ستر الله ثوبا جميلاً
من أصر على خرقه انفضح!

في أسرة هادئة سعيدة باجتماعها جلس الأب مع أولاده وأهله جلسة حب ومودة، غير أن ابنته ما استطاعت أن تشاركهم هذه الجلسة ومنعها من ذلك زيارة ابنة خالتها التي آثرت أن تكون في غرفة الابنة طوال النهار، غير أن البنت ذات الستة عشر ربيعا لم تضيع فرصة التقاء الأسرة فما تكاد تمر ساعة حتى تنزل إلى حيث تجتمع العائلة فتشاركهم دقائق ثم تعود إلى غرفتها حيث ابنة خالتها حتى حان موعد آذان المغرب والناس صائمون،

فاجتمعت الأسرة للإفطار إلا ابنة الخالة التي أصرت على البقاء في الغرفة، فسأل الأب عن السبب فأخبرته الابنة بأنها غير صائمة وآثرت النوم،

إلا أن الأب أصر أن تشاركهم الطعام، وإن لم تكن صائمة، وقام بنفسه إلى غرفة ابنته لإيقاظ ابنة الخالة، ففتح باب الغرفة ودنا من الجسد المغطى بحنان الأب وحاول كشف رأسها وهنا كانت المفاجأة.. إن النائم ليس ابنة الخالة كما زعمت البنت طوال النهار وليس رأساً لفتاة أصلاً وإنما هو رأس شاب..!

فزع الأب لهول ما رآه واستدعى الشرطة التي ألقت القبض عليه وحملته إلى التحقيق.. وهناك حاول الشاب أن يزعم بأن المسألة لم تتعد مجرد الحديث وعند تهديده بعرض الأمر على الطبيب الشرعي ضعف الشاب وانفرطت اعترافاته كحبات العقد، فاعترف بأنه عاشرها معاشرة الأزواج وبأنه... إلخ

وتابع الشاب بأن هذه ليست المرة الأولى له بل إنه فعل ذلك مع أربع فتيات أخريات وكانت هي الخامسة!!

وهكذا نجد أن الله ستره في الأولى وما انتهى
والثانية وما ارتدع
ثم أبى الله إلا أن يكشف ستره ويفضحه.. وعندما علم الأب سقط من توه.


هذه مواقف تدمع لها العين وينفطر لها القلب وتقلق لها النفس، وتبين لنا جزاء السيئة.. 

ولنختم حديثنا بقصة تبين لنا جزاء الحسنة والفعل الصالح


(٢)
جزاء الحسنة والفعل الصالح

كان هناك شاب يبيع القماش ويضعه على ظهره ويطوف بالبيوت، وكان هذا الشاب جميل الهيئة من رآه أحبه لما حباه الله من جمال، وفي يوم من الأيام وهو يمر بين البيوت أبصرته امرأة فنادته وأمرته بالدخول وقالت له إنني لم أدعك لأشتري منك، ودعته إلى نفسها

فذكرها بالله وأليم عقابه فما زادها إلا إصراراً.
وقالت له: إذا لم تفعل ما آمرك صحت في الناس وقلت لهم دخل داري ويريد أن ينال من عفتي..

فلما رأى إصرارها على الإثم والعدوان، سألها أن تسمح له بالدخول إلى الحمام أولاً، ففرحت لذلك فرحاً شديداً ودخل الحمام وجسده يرتعش من خوف الوقوع في المعصية

وفجأة خطرت له فكرة فقام ولطخ جسده بالقاذورات والأوساخ
وبكى ودعا الله قائلا: ربي وإلاهي وسيدي خوفك جعلني أعمل هذا العمل فاخلف علي بخير،

ثم خرج إليها

فلما رأته على هذه الحال صرخت في وجهه قائلة: اخرج من داري يا مجنون،

فخرج خائفاً يترقب الناس وماذا سيقولون عنه حتى وصل إلى بيته وهناك خلع ثيابه واغتسل غسلاً حسناً

..... ثم ماذا؟ .....

..... هل يترك الله عبده ووليه هكذا؟ .....


لا أيها الأحباب ..... فعندما خرج من الحمام
عوضه الله شيئاً عظيماً بقي في جسده حتى فارق الحياة، 

لقد أعطاه الله رائح عطرية تفوح منه لمسافات بعيدة ويشمها الناس حتى لقب ((بالمسكي))

وعندما مات كتب على قبره: هذا قبر المسكي.


(٣)
جزاء الخير خير مثله

في يوم عرفة حيث تتنزل الرحمات على الناس الذين توجهوا إلى الله بالدعوات.
قال لي صديق: التفت في هذا اليوم وإذا أنا برجل لم أسمع منه غير البكاء والتمتمات فحسدته على موقفه الخاشع ولم أشأ أن أقطع عليه خشوعه بكلام لا يفيد،

وانتهى موسم الحج وعدنا إلى الكويت

وبعد أيام فوجئت به في مكان عام ووجدت فرصة للتعرف عليه
فقال لي في ثنايا حديثه إنه متزوج وله أولاد وإنه عزم في يوم عرفة على أن يؤثر أباه وأمه بالدعاء وكان مما قاله: (اللهم حرم جسد والدي على النار اللهم أدخلهما الجنة)

قال: (وبعدما عدت إلى الكويت وجلست مع أبنائي
قالت لي الكبرى أظنك نسيتنا في الدعاء يا أبتاه غير أننا لم ننسك أبدا، فأنا قد دعيت لك يوم عرفة)

 فسألتها متلهفاً وبماذا دعيت لي؟
قالت كنت أقول: (اللهم حرم جسد والدي على النار اللهم أدخله الجنة)

وهنا ارتمت الصغرى في أحضاني قائلة:
أما أنا فكنت أقول اللهم لا تحرق والدي بالنار..

فسكت سكوت الخاشع
وأدركت أن الجزاء يكون من جنس العمل.

◽️◽️

د. جاسم بن مهلهل الياسين
📚 تم تحريره من مجلة تحت العشرين العدد (١١٣) شعبان ١٤٢٦ هـ

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ملف/ من داخل عيادتي (٢/٢)


من داخل العيادة النفسية
د. ليلى العويس
أخصائية اجتماعية وطبيبة نفسية


(٥)
لماذا هذه الفتاة خائفة؟!


وصلتني الرسالة التالية على بريدي الخاص:

د. ليلى أنا مشكلتي كبيرة، ومعقدة ومتراكمة، جذورها تعود إلى فترة الطفولة، وفروعها تمتد إلى ما بعد المراهقة وبداية الشباب وها أنا ذا أجني ثمارها الآن.. نعم هي ثمار شديدة المرارة ولا يكاد الحلق يبتلعها .. لكنها في الواقع ثمار حقيقية لما تراكم من أسباب ومشاكل للحالة التي أعيشها.
مشكلتي تتلخص في أنني أخاف ولا أستطيع مواجهة الآخرين وأرتجف وتضيع الحروف من لساني إذا حاولت التحدث أمام الغير، وأكبر مشكلة عندي أن أخاطب الناس، وإذا طلب مني ذلك أكون كمن حكم عليه بالإعدام. أما إذا أردت أن أعبّر عن أي شيء بالكلمات المكتوبة فليس لدي مشكلة في ذلك، بل ينطلق قلمي بكل حيوية ونشاط، وتنساب الكلمات والعبارات إلى ذهني بوفرة ودون عناء.
قيل لي من أخواتي الأكبر أنني كنت أتبول على الفراش حتى سن الخامسة، وأنني كنت إذا عوقبت لأي سبب من الأسباب ينزل البول مني دون إرادتي.. وكنت أبكي كثيراً وأتشنج من الغضب والانفعال، وأرفض الطعام أحياناً تعبيراً عن الغضب. هذا ليس كل المشكلة، بل جزء مهم منها؛ لكن الجزء الأكثر أهمية هو أنني أعرف الكثير من أعراضي وسبب مرضي وحالتي، وأعرف كذلك أنها لا حل لها إلا عن طريق طبيب نفسي؛ لكن جوهر المشكلة أني أريد حلاً دون أن أدخل عيادة الأمراض النفسية.. فهذه العبارة تنفّرني، وتنرفزني أيضاً، وربما تزيد حالتي سوءاً.. ومن خلال مطالعاتي لملحق بنات اليوم أعجبت كثيراً بطريقة تناولك لحل مشكلات الفتيات، ومنها يتضح مدى خبرتك وتجاربك في هذا المجال.. فأرجوك يا دكتورة أن تبحثي لي عن حل دون أن تطأ قدماي مبنى العيادة النفسية وهذا هو عنواني البريدي، وهذه أرقام هواتفي الثابت والجوال ولك مني كل الشكر والتقدير والدعاء لك بدوام التوفيق والسداد.

ابنتك ر.ع.ع (انتهت الرسالة).

طبعاً هذه ليست الرسالة الأولى التي تصلني من حالات مشابهة، فقط الاختلاف هو أن هذه الفتاة – رغم خوفها – وحالتها النفسية – تتميز بالشفافية العالية، والواقعية في بعض الأحوال، والجرأة في تناول حالتها، وكذلك تشخيصها.. وهذا ما دعاني للاهتمام بالموضوع أكثر وأن أتواصل معها عبر عناوينها التي أرفقتها بالرسالة....

تواصلت معها حتى قابلتها شخصياً، بعد أن أكدت لها احترامي لرغبتها بعدم طلبها في العيادة النفسية، فجلست معها عدة مرات خارج العيادة، ووجدتها فتاة لطيفة وديعة ودودة وجميلة ورقيقة ولمحت في عينيها كل الأعراض التي اشتكت منها، وسألتها عن أشياء كثيرة في البيت والمدرسة والطفولة، ولم أتحرج من سؤالها عن بعض الخصوصيات المتعلقة بها كفتاة سواء في مرحلة المراهقة أو قبلها أو بعدها، فوجدتها عاقلة وذكية وواقعية في تقبل الأسئلة والإجابة عليها بشفافية عالية وصراحة شديدة؛ وكذلك استفسرت والدتها.. عن بعض الأشياء فأجابتني بوضوح.

وعندما أمسكت بخيوط الحالة، وعثرت على رأس الخيط – كما يقولون – واستخلصت كل ما أود الحصول عليه من معلومات، أخبرتها بأنها كانت في العياة النفسية.. وشرحت لها أن العيادة النفسية لا تعني المبنى والمكتب واللافتة التي يكتب عليها اسم الطبيب وتخصصه، ولا هي حتى السماعة والأجهزة. فقط العيادة النفسية تعني الحوار الذي يدور بين الطبيب والمريض، قبل التدخل العلاجي.

واضح جداً أن الفتاة (ر.ع.ع) تعاني من رهاب نفسي ورهاب اجتماعي، ومن خلال تطابق إفادات الفتاة مع ما جاء على لسان أمها، تأكد لي أنها تعرّضت للضرب والإهانة أكثر من مرة في طفولتها، وتعرضت للاضطهاد والزجر كثيراً وهي مراهقة، وهذا اوجد لديها شعوراً بالخوف على نفسها من الآخرين، وأوجد لديها في ذات الوقت رهبة من تحدثها أمام الغير، وأضعف شخصيتها، وأفقدها الثقة في نفسها.. هي غير مرتبة الدواخل؛ رغم أنها تبدو متوازنة (ظاهرياً).

بعد أن أزلت من نفسها الخوف تجاه (العيادة النفسية) وجعلتها تأتي بقدميها إلى عيادتي، وتطرق بابها وتدخل مطمئنة بل مبتسمة.
حتى وصلت إلى المرحلة التي قالت لي فيها إنها صارت ترتاح نفسياً عندما تحضر إلى العيادة.. رغم أنني كنت على استعداد أن أكمل معها العلاج في منزلها، في حالة رفضها المجيئ إلى العيادة؛ لكنني أيضاً كنت على ثقة أن أحد الأمرين سيكون سبباً في علاج الآخر، إما مجيئها إلى العيادة سيكمل علاجها، أو البدء في العلاج سيجعلها تزور العيادة، وقد حدث هذا الأخير.. وهذا أفضل من ناحية العلاج النفسي، فحينما يعرف المريض أنه داخل عيادة نفسية سيكسر حاجز الخوف ويقطع نصف المسافة باتجاه العلاج.

واصلت معها العلاج عبر عدة جلسات، وكانت تستجيب للعلاج بصورة جيدة، وروحها المعنوية ظلت ترتفع بوتيرة متصاعدة.

ولم يستمر العلاج سوى بضعة أسابيع وخرجت الفتاة في آخر مقابلة من العيادة وهي أكثر ثقة بنفسها وأكثر حباً لمن حولها وأكثر قدرة على مواجهة المواقف وليس فقط مواجهة الناس، وقبل كل ذلك أكثر ثقة واطمئناناً للعيادات النفسية.

**
مجلة بنات اليوم العدد (٢١)


______________


(٦)
أفراح
تصرخ من عمق الأحزان..!!



قبل أن تحضر أفراح إلى عيادتي النفسية، اتصلت بي والدتها وأخبرتني بأن ابنتها بحاجة إلى علاج نفساني، وليس من السهولة إقناعها بمقابلة اخصائية نفسية، فقد يؤدي الأمر إلى تفاقم حالتها.. ولدى استفساري عن الحالة التي تمر بها عرفت أنها تعاني من نوع من الرهاب الذي أتى بمضاعفات نفسية أخرى فاقمت من حالتها، وعلمت أنها تتصرف بما يدل على كرهها لوالديها ولكل من حولها، وهي تدرس بالمرحلة المتوسطة، السنة النهائية، وعندما تعود من المدرسة تأتي إلى المنزل مكرهة، بينما تغادر الصباح وهي مرتفعة المعنويات..

ترتمي في فراشها لدى عودتها من المدرسة، دون أن تسلم على أي من والديها، لا تأكل معهما، اعتادت أن تتناول الطعام مع إخوتها الصغار أو منفردة.. هذا الأمر كان يزعج والديها ويقلقهما بشدة، أخذ الوالد يمارس عليها بعض الضغوط.. لكنها زادت نفوراً، بل صارت تصرح لأخواتها أنها لا تطيق رؤية والدها.. أما والدتها.. فهي تكلمها وقت الحاجة فقط.. وما عدا ذلك.. فلا مؤانسة.. ولا صراحة، ولا علاقة خاصة.. استطاعت الأم أن تقنعها بمصاحبتها عندما حضرت إلى عيادتي.. باعتبار أن أمها التي ترغب في مقابلتي.. لكنني عند رؤية (أفراح) بصحبة أمها.. تظاهرت بأنني أعجبت بها ورغبت في التعرف إليها.. وبالفعل فهي فتاة جميلة، هادئة فارعة، عيناها تحكيان الكثير، توحي لمن يراها بأنها عاقلة وواعية وذكية.

عبرت لها عن إعجابي بشخصيتها وجمالها وذكائها، واستطعت أن أكسب ثقتها ووجدت لديها رغبة في التحدث إلي والتعرف بي أكثر.. فتحت معها خطاً مباشراً، وصرت أتسلل من خلاله إلى أدق خصوصياتها.. ولم أتردد في أن أقول لها (يبدو أنك تعيشين مشكلة ما، وأنا مستعدة أن أعينك على حلها.. وبهدوء دون أن يعلم بذلك أحد.. بعدها فتحت لي قلبها وأخذت تروي جانباً من معاناتها، فقالت: (منذ طفولتي شعرت بأن تناقضاً ونفاقاً يمارس في بيتنا.. فوالدي يضربنا على أبسط الأشياء ويرتكب أكبرها.. والبنت في قاموس أهلي.. إنسان ناقص.. وربما أرفع درجة من الحيوان قليلاً.. كنت أُضرب لكي أنام، وأُضرب لكي أصحو من النوم ولأذهب إلى المدرسة، وإذا دخلت غرفة لأنام أُطرد منها، وإذا دخلت غرفة أحد اخواني يذودوني عنها، أخواتي الكبريات معقدات نفسياً.. أصبح وجود أبي في البيت يعني البعبع المخيف.. وغيابه يترك فسحة من الراحة النفسية لدينا جميعاً.
صرت أخاف من المستقبل، وأرى الزواج حكماً بالإعدام ينتظرني، أرى مقصلته كلما أغمضت عيني، وأسمع صليل سيفه كلما سمعت وقع خطوات أبي وهو يسير نحوي ليأمر وينهى، ويضرب ويبطش.. وقتها أتذكر.. كيف تزوجت أختاي الكبريان.. حيث عقدت الصفقة بليل، ولم تُعلما عن زوجيهما شيئاً إلا بعد الانتقال إلى عشي الزوجية (حظيرتي الزوجية) اللتين رأتا فيهما صنوف الأذى والعذاب.. وكلما اشتكت إحداهما من سوء المعاملة، ضربها والدي وأعادها إلى زوجها.. لهذا فأنا خائفة من المصير المجهول.. من القادم القاتم)..

من خلال حديثها، عرفت أن أفراح غارقة في بحر من الأحزان، حتى أن والدتها تقول عنها: إنها تطلق على نفسها (أحزان) بدل أفراح.. فهي عانت في طفولتها.. وواجهت قمعاً شديداً من أهلها أفرز عندها خوفاً وكرهاً.. وأصبحت نفسيتها مرتبكة.. وثقتها في أهلها مهزوزة.. بل في كل الرجال.. وكثير ممن حولها..

أفراح تحتاج تغيير معاملة أهلها تغييراً شاملاً.. وتحتاج إلى وقفة أمها، ثم أبيها.. حتى تعود إلى طبيعتها..

صحيح يستطيع الطب النفسي أن يعيد لها بعضاً من ذاتها.. لكن وعدتني والدتها أن تضع يدها بيدي، لكي نقود أفراح سوياً إلى شواطئ السلامة والمعافاة.. وقد بدأنا المشوار بالفعل بعد أن حصلنا على ثقتها واستعدادها النفسي، وقطعنا شوطاً بعيداً.. ساعدنا على السير فيه التحول في معاملة أبيها لها، وهي الآن تقترب من العودة إلى الحالة السوية..

**
مجلة بنات اليوم العدد (١٣)


______________


(٧)
تراكمات نفسية


حينما يسود مستوى معين من الثقافة والوعي الصحي، يسهل على الطبيب الكثير في سبيل الوصول إلى التشخيص ومن ثم العلاج.. كما أن الوعي بالصحة النفسية بصفة خاصة لم يكن متوفراً بالقدر الذي يجب أن يكون عليه الناس؛ لكن ثقافة الصحة النفسية بدأت في الانتشار مؤخراً، حيث صار البعض يذهبون إلى العيادات النفسية بأقدامهم وباختيارهم عكس ما كان في الماضي؛ إذ كان المريض يؤخذ إليها إما عنوة أو خداعاً.

(أشواق) فتاة جميلة، هادئة رزينة، ذات عينين زرقاوين، وقامة طويلة، وبشرة بيضاء، وذكاء عالٍ؛ لكنها كانت تعاني من بعض الاضطرابات النفسية التي انعكست على سلوكها وتصرفاتها، وأثّرت بالتالي على صحتها، وعلى أسرتها التي كانت منزعجة جداً مما تعانيه (أشواق) المحبوبة جداً من إخوتها وأهلها وأقاربها.

حضرت (أشواق) إلى عيادتي بصحبة والدتها وهي تعاني من حالة نفسية تركت بصماتها على صحتها الجسدية، وذكرت والدتها أنها تعيش ظروفاً نفسية غير طبيعية من خلال تصرفاتها مع والديها، وانزوائها بعيداً عن بقية أفراد الأسرة، وكذلك القلق والخوف.. والشرود الذهني الذي يسيطر عليها في كثير من الأحيان.. وتدني مستواها الدراسي.. هذا فضلاً عن ارتدائها بعض الملابس الرجالية (الخاصة بإخوانها)؛ حيث وصل بها الأمر إلى ارتكاب أخطاء سلوكية..

كانت الفتاة في وضع شبه طبيعي، يوحي بأنها تستوعب كل ما تقوله والدتها، وما بدر مني من استفسارات عن حالتها، ونصائح علاجية تحدثت إليها مباشرة وسألتها عن تفكيرها في المستقبل ومخاوفها، وعن هواياتها وتطلعاتها.. وعن البيئة المحيطة بها.. وعن صديقاتها وزميلاتها وعلاقتها بهن.. فكان هذا مربط الفرس.. ورأس الخيط الذي قاد إلى تشخيص حالة (أشواق) وبعد الاستماع إلى خلاصة عرض والدتها لحالتها النفسية وتصرفاتها وسلوكها.. تبين أن الفتاة تعيش تراكمات نفسية ربما تكون قد ترعرعت معها منذ الصغر، وامتزجت هذه التراكمات بمنهجية الأسرة في تربية الأبناء، يضاف إليها العادات والتقاليد التي تسيطر على المجتمع الذي يغلب عليه الطابع الذكوري.

نشأت (أشواق) واشتد عودها في كنف أسرة تتكون من أب وأم وبنت (هي أشواق) وخمسة أولاد.. فمنذ أن تفتحت عيناها على الدنيا وجدت نفسها فتاة وحيدة وسط خمسة من الأولاد.. فكان هذا الشيء يحز في نفسها.. ويرسخ فيها شيئاً من النقص.. ويكرس فيها عقدة النقص والضعف..

لم يبخل عليها والدها بشيء.. كان يغمرها بفيض الحنان، ويوفر لها الألعاب والملابس والمقتنيات منذ نعومة أظافرها.. ولا يحوجها إلى شيء حتى وهي تلميذة في المدرسة.

الشيء الذي لم يستطع والدها أن يوفره لها هو وجود أخت معها في المنزل تلاعبها وتضاحكها وتقاسمها لحظات الهناءة والترويح والترفيه.. كان وجود (أشواق) وسط عدد من الأولاد تختلف ميولهم واهتماماتهم وهواياتهم عنها مؤثراً جداً على تكوينها النفسي.. كبرت الفتاة وكبر معها ذلك الشعور.. حينما تأخذ قسطاً من الراحة بعد حضورها من المدرسة يتفرق إخوتها حسب اهتماماتهم وأنشطتهم وبرامج أصدقائهم وغير ذلك من الارتباطات والالتزامات.. لكن (فتاتنا) كانت تظل قابعة في (قعر بيتها) تلازم غرفتها (الموحشة) و(سريرها الممل).. وبمرور الأيام أخذ هذا الشعور يتنامى ويتسع مداه وتتمدد مساحته.. وأخذت آثار مخالبه تنغرس في جوف (أشواق) وأحشائها.. وظلت هذه الرواسب تتراكم يوماً بعد يوم حتى.. توقفت قدرتها على امتصاص تلك المشاعر والأحاسيس، لتنفجر في يوم من الأيام في شكل تصرفات وسلوكيات جعلت أهلها يعرضونها على العيادة النفسية.

لم يكن التعاطي مع مشكلة هذه الفتاة صعباً، بل كان من السهولة بمكان، خاصة بعد صراحة أمها وعرضها الحقائق كاملة، و(قبل كل شيء) إرادة الله تعالى، ثم تجاوب (أشواق) وتفاعلها مع الطبيبة والتزامها بجلسات العلاج.. ومعرفتها أنها تعاني من حالة تستدعي العلاج.. كل هذا سهل المهمة في التعامل مع هذه الحالة وأسهم في اقتيادها إلى (بر الأمان) بكل يسر وسهولة.. فلم تمكث في العيادة إلا قليلاً، ولم تتردد عليها كثيراً.. وحظيت برعاية واهتمام كبيرين ووفقنا الله في علاجها.. ومتابعة حالتها بعد العلاج.. وتأكد أنها تسير على ما يرام؛ حيث تم زواجها بعد ذلك بقليل.. والآن ربما هي أم لأكثر من طفل.

**
مجلة بنات اليوم العدد (٢٢)


______________


(٨)
حدث في ذاكرة الطفولة

زارتني في عيادتي النفسية في الصيف الماضي شابة في السابعة عشرة من عمرها، ولكن هيئتها تنبئك وكأنها في العشرينات، وكانت بصحبتها والدتها التي تولت مبادرة الحديث، وكانت البنت تستمع باهتمام – مثلما أفعل أنا – وكأنها تسمع الكلام للمرة الأولى، رغم أن حديث والدتها كان عنها هي شخصياً ولم يكن عن أي شخص آخر.
في حضورها ركزت أمها على الأعراض الاعتيادية، بأنها مرهقة ذهنياً، وقليلة النوم، وكثيرة الخوف والانفعالات حتى مع أخواتها وإخوانها، وعصبية بعض الشيء لدى نقاشها مع أمها.

وبعد أن تحدثت مع (سامية) بترحاب ونوع من المجاملة والداعبة، استأذنتها ودخلت مع أمها في حجرة مجاورة في ذات العيادة، وطلبت منها أن تعطيني نبذة مختصرة عن حياتها منذ أن كانت طفلة، وأبرز محطات حياتها، وما هو أعظم حدث تعرضت له، وعرفت أنها قبل أكثر من ثماني سنوات تعرضت لمحاولة اختطاف من أحد المراهقين لدى عودتها من المدرسة القريبة من بيتها، ولكن المارة استطاعوا تخليصها من ذلك الذئب البشري وإبلاغ الجهات الأمنية التي سيطرت على الموقف وتم القبض على الجاني.. أي أنه لم يصبها شيء من جراء تلك الحادثة، ولكنها كانت نقطة تحول سلبية في حياتها.. حيث طار قلبها في تلك اللحظات.. وهي طفلة يافعة.. وظنت أنها خطفت، وحدثت لها صدمة نفسية.. وتخيلت أن كل الناس عرفوا عنها ذلك الموقف.. رغم أن الحادثة لم يشهدها إلا بضعة أشخاص أوصلوها إلى باب منزلها.. ولكن لهول الحدث ومفاجأته أصيبت بصدمة بقيت آثارها طيلة هذه المدة .. وفي ذات اليوم جلست تبكي لساعات طويلة ورفضت الأكل والشرب وبقيت بملابس المدرسة حتى المساء .. كل هذه التراكمات أثرت في نفسيتها، وجعلتها تنهض من نومها مذعورة منتصف الليل وشبح (الخاطف) يسيطر على خيالها.. مما زاد الطين بلة أنها في اليوم التالي للحادثة ذهبت إلى المدرسة وهي منكسرة نفسياً .. ولديها إحساس داخلي بأن من حولها يعلمون ما جرى.. وربما يؤولونه إلى أكثر مما جرى. خصوصاً وأن إحدى زميلاتها وجارتها تسلل إليها النبأ .. وسألتها عن التفاصيل ولكن (سامية) لم تستطع أن تجيب عن أسئلتها.. وصارت تكره هذه البنت التي علمت عن أمرها.. ومنذ ذلك الحين وسامية في دوامة من الانتكاسات النفسية والصحية، وهذا سبب لها توتراً وقلقاً دائمين وتعودت على قلة النوم، والانطواء، وعدم الاختلاط مع بنات الأهل حتى في المناسبات، وإذا حضرت تكون على طرف منزوٍ بعيد عن بقية الفتيات.. وبالقرب منهن بجسدها فقط، ولكن عقلها يكون شارداً خارج إطار المكان والزمان، ولا تشارك برأيها ولا تحسن الاستماع ولا تتفاعل مع الأجواء مهما كانت مرحة .. هذه هي صورة (سامية) التي أتت إلي في عيادتي.. وبعدما استخلصت كل المعلومات الأساسية والضرورية المهمة من والدتها وجلست معها بعض الوقت لأعطيها دفعات معنوية، وأطمئنها وأعزز ثقتها بنفسها طلبت منها أن تحضر في اليوم التالي مؤكدة لها أنها ذكية وجميلة وواعية، وشيء من الإطراء الذي جعلها تنظر إلي نظرة إعجاب واحترام وتقدير. حتى أكون مصدر ثقة لها واطمئنان بحيث أن كل ما يصدر مني لابد أن يجد لديها التقدير والتنفيذ الصارم.. وهذه أهم نقطة في مشوار العلاج النفسي ..

في اليوم التالي بدأت معها طرف الحديث وتركتها تتحدث بمنتهى الصراحة .. فقالت: أشعر بالضيق من نفسي، والذين من حولي وأتضايق من نظراتهم وأكاد أفسرها ضدي .. وأقل كلمة من والدي أو إخواني تبكيني وأشعر أنني مستهدفة ولكن صدقيني منذ أن تعرفت عليك بالأمس أحسست أنني أرى بصيص أمل لكي أثق بالناس وشعرت بأن الدنيا فيها من يفهمني ويهتم بي، ولكن كل الذين يعرفوني كانوا يعاملوني بقسوة، ولوم ويصفوني بالتخلف ويتهموني بالتقصير حتى أقرب الناس إلي.

واستمعت إليها حتى أكملت حديثها وأصغيت إليها باهتمام شديد حتى شعرت هي بالراحة النفسية وأشعرتها بأنها طبيعية وتصرفاتها سليمة، وأنها عاقلة وذكية، وأكدت لها أنها أفضل من غيرها من البنات، فقط تحتاج إلى إعادة الثقة بنفسها، وبمن حولها .. ووعدتني أن تنفذ نصائحي بدقة متناهية، وأهمها أن تتعامل مع الغير مثلما تتعامل معي بابتسامة وسعة صدر وثقة، وألا تفسر أي تصرف إلا في حدود الظروف التي حدثت فيها، وقصصت عليها قصصاً جيدة استوعبتها، وطلبت منها أن تطبق بعض الخطوات ونفذتها، وواصلت معي جلسات يومية ثم نصف أسبوعية وأخيراً أسبوعية وصرت بعدها أزورها في البيت وكانت تستقبلني بتركيز شديد ووعي وأحس أهلها أنها عادت إلى طبيعتها، حتى بنيتها تحسنت كثيراً، لأنها صارت تأكل بشكل طبيعي وتنام وقتاً كافياً.

(سامية) زارتني للمرة الأولى وهي أقرب إلى الشبح وصامتة، وفي آخر زيارة كانت فتاة رائعة الجمال والابتسامة ومدهشة وخفيفة الظل وتداعب وتحكي (النكتة) وتشارك في النقاش والحوار.

◽️◽️

📚 مجلة بنات اليوم العدد (٧)

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

◽️◽️

الموضوع في صفحة أخرى صيد الفوائد:
ملف/ من داخل عيادتي (١)


ملف/ من داخل عيادتي (١/٢)


من داخل العيادة النفسية
د. ليلى العويس
أخصائية اجتماعية وطبيبة نفسية


(١)
تكسرت النصال على
جسدها النحيل!


زارتني في عيادتي ذات مساء شابة في مقتبل العمر، سيطر عليها الشحوب وأعارها الدهر عصارة همومه وشروده الذهني، وكأن نصال الدنيا قد تكسرت بين ضلوعها.. يعلو جبينها الحزن الكئيب، وقد تمكن الانهيار من نفسها حتى جعلها جثة حية تمشي بين الناس، جاءت إليّ بعد أن غارت أسنان البلايا والمصائب في جسدها الرطب واخترقته حتى لامست النخاع.. في بداياتها استسلمت للواقع النفسي، وتعاملت معه كقدر محتوم.. لكنها لم تستطع أن تمتص طعنات الوجع، بعد أن تملكها الوهن، وصار ينخر في العظم وخزاً وإيلاماً.

اشتكت من أعراض الفتور والآلام وعدم النوم والصداع وغير ذلك، لكنها كانت تدرك أن البداية انطلقت من الأثر النفسي والتراكمات والتبعات التي ترتبت على واقعها الذي لازمها أكثر من عشر سنوات.. من خلال حديثها وطريقة سردها أدركت تماماً أنها ضحية لظروف نفسية لم تجد خلالها مَنْ يقف بجانبها أو يشد أزرها، فسألتها بإلحاح شديد وطمأنتها على أن حالتها مقدور عليها وأن العلاج في متناول اليد فلا داعي إذاً للقلق واليأس فماذا قالت؟

في الوقت الذي بدأ يزهر فيه عودي، وتبدو نضارتي ويتكون نضجي وأقبل على مرحلة الشباب، حدث خلاف بين والديّ فتم الطلاق بينهما، وتزوج أبي من فتاة في مثل سني، وتركاني في مفترق الطرق.. إما أن أعيش مع زوجة أبي التي جاءت على أنقاض أمي أو أعيش مع جدتي وجدي وكلاهما أمرُّ من الآخر، فاخترت جحيم زوجة الأب التي لم تطقني لحظة واحدة، بل كانت تفتعل المشكلات وتُظهر دموع التماسيح أمام أبي حتى حالت بيني وبينه وجعلته يضطهدني ويصدقها، ففقدت أبي بعدما فقدت حنان أمي التي تزوجت هي الأخرى وعاشت حياتها الخاصة، فعدت للسكن مع جدي محرومة من حنان الأبوين ومن عطفهما ومن الدعم المالي والمعنوي، تعثرت في دراستي حتى تركتها وصُدمت في حياتي العاطفية، حيث كنت أحلم بفتى الأحلام الذي يحملني إلى مرافئ الدفء والحنان، ويعوضني جفاف السنين، لكنني لاحظت أن أكثر من يقتربون مني هم من الذئاب البشرية، يحركهم الطمع في فريسة يعتقدون أنها سهلة، وأن افتقادها لوجود الأبوين سيسهل النيل منها.. فكانت محاولاتهم لا للزواج ولكن للاستدراج.. كتمت جراحي، وصمدت أمام محاولات النهش والنظرات الدونية والدنيئة، حتى وجدت نفسي أقرب للشبح مني إلى فتاة في سني، وزاد فوق كل ذلك الآلام التي لا تبارحني فضلاً عن الأرق والقلق والاكتئاب.. فهل يا تُرى بعد هذا يمكن أن أعود إنسانة ككل الفتيات بعد كل هذه المعاناة والحرمان؟

لحظتها وجدت نفسي أمام مهمة صعبة، عليّ أن أقيّم حياة فتاة تركت الأيام بصماتها ليس على جسدها وحسب، بل على نفسها وعظمها ومن تسبب في ذلك ليس عدواً يمكن أن يُنسى بل هما الأبوان.
فهل يمكن أن تنسى صنيعهما؟ لهذا كانت المهمة شاقة وصعبة.

**
مجلة بنات اليوم العدد (٤)


______________


(٢)
وعادت « إيمان »..؟!



* في صالة الانتظار أمام عيادتي، كانت تجلس (إيمان) منكمشة، وهي صغيرة الحجم، كانت شاردة
بذهنها بعيداً، تدور بعينيها على كل من حولها، وبجوارها جلست أمها، وهي تحيطها بكلتا يديّها
تحاول تغطية جسدها النحيل، وهي ترتجف وكأنها تقاوم زمهرير الشتاء القارص، جلست تبحلق بعيّنيها
الغائرتين في سقف المكان بعد أن قامت أمها بتسجيل اسمها في كشف المرضى المنتظرين، تركز نظراتها على
كل غاد ورائح في الصالة، وكأنها تبحث عن شخص اختفى عنها وسط الزحام.


كان الارتباك يسيطر على إيمان، وكانت أمها تشفق عليها أيمت إشفاق، وعندما جاء دورها، دلفت إلى حجرة الطبيبة، بخطوات هادئة وعينين شاخصتين، ووجه شاحب، كأنها تغالب البكاء، ركزت نظراتها في وجهي، والخوف يسيطر عليها.


* حييتها، وسألتها عن اسمها، فردت بصوت خافت: إيمان، وتحدثت إليها، مادحة إياها، متلمسة مشكلتها، ومستنطقة إياها من خلال الخوض في بعض الموضوعات التي تخصها.

* أمها كانت تتدخل للإجابة عن بعض الأسئلة التي تسكت إيمان ولا تجيب عنها، وهذا أيضاً كاد أن يكشف لي (كاستشارية نفسية) بعض جوانب معاناة الفتاة الصغيرة، وهي في أساسها معاناة نفسية لكنّها أثّرت على صحتها البدنية.

بدأت حالة (إيمان) منذ فترة طويلة، وتطوّرت حتى وصلت ذروتها، وهي صغيرة، لكنّها كبرت معها وتفاقمت وتزايد تأثيرها مع نمو إيمان وتطورها العمري.

كانت الفتاة صريحة رغم خوفها وصغر سنها، وكذلك الأم لم تكن تخفي شيئاً رغم محاولتها التعتيم على بعض الجوانب، خوفاً من أن تكون سبباً فيما ما أصاب ابنتها.

كانت إيمان ضحية، تناقض داخل البيت، فالأب قاسٍ وعنيف، وله سلوكيات مرفوضة دينياً واجتماعياً وخلقياً، والأم كانت على العكس من ذلك، لكنها كانت تداري مساوئ زوجها حفاظا على ترابط الأسرة وتماسكها.

رأت (إيمان) وهي صغيرة، منظراً ما كان ينبغي أن تراه، ولم تكن ترد الإفصاح عنه بأي شيء من التفاصيل، وقد أثّر هذا المشهد في حياتها بقوة، بل استوطن نفسياتها.

حاولت أن تتناسى الأمر، لكن ظل محفوراً بالذاكرة كالوشم الغائر في صفحة الوجه، وكثيراً ما كانت تشاهد أمها وهي تُضرب من أبيها لأبسط الأشياء، وتشفق على حالها وهي ترى السياط تنهال على جسدها، أو العقال يشوه وجهها، أحياناً كانت تعرف أن السبب لا يستحق، ولكن ليس بمقدورها التأثير على مجريات الأمور، وأحياناً أخرى، كان يداخلها الشك في ما يمكن أن تكون قد ارتكبته أمها من أخطاء، ونتيجة هذا التزاحم والتداخل والتناقض، تشبعت الصغيرة بروح الانفصام، وفقدت الثقة بمن حولها، وكان هذا الأمر واضحاً منذ الوهلة الأولى، أن تلك الصبية تحمل بقايا إنسان، لكن هذا الجسد النحيل كان يحترق، كثيراً لرؤية مثل تلك المشاهد.

الخوف كان البداية الحقيقية للحالة النفسية التي عاشتها الصبية (الضحية) لم تكن تنج من ذلك الأسلوب، بل كانت تضرب لسبب بسيط، حيث انعدم أسلوب الحوار والتوجيه، وتبادل الآراء داخل الأسرة، وحل محل ذلك، العنف والضرب والإرهاب النفسي حتى وصلت (إيمان) إلى ما هي عليه.

بعد تشخيص الحالة، ومعرفة الأسباب، لم تكن مسألة العلاج من الصعوبة بمكان، فقد باشرنا معها مراحل العلاج بشكل يبعث الطمأنينة في النفس، وبالفعل كانت الخطوات اللاحقة تسير على ذات الوتيرة، ولا أخفيكم فقد ساعدتنا والدتها كثيراً في الوصول إلى النتائج المطمئنة التي توصلنا إليها – بحمد الله – حتى تماثلت (إيمان) للشفاء التام الآن، وعادت كما كانت في بادئ الأمر فتاة صحيحة معافاة، من الناحية النفسية والبدنية.

هكذا تدفع البراعم البريئة ثمن أخطاء الكبار من صحتها ومن عمرها ومن عقلها وبدنها، نتيجة سيادة أسلوب عقيم لإدارة شؤون الأسرة، ونتيجة غياب المفهوم الإنساني والإسلامي لصون العلاقات الأسرية، وانعدام التفاهم السليم بين أفراد الأسرة، وما حالة (إيمان) إلا صورة صغيرة لما يحدث لدى الكثيرات من أمثالها لذات الظروف وتحت ضغط نفس الأسباب.

**
مجلة بنات اليوم العدد (١٥)


______________


(٣)
حينما يأتي العنف من أحضان الأمان..



أن تدخل عيادتي طفلة أو مراهقة أو أكبر من ذلك ليس شيئاً غريباً، ولكن استقبال فتاة في سن السادسة من عمرها لم يكن شيئاً معتاداً بالنسبة لي، وإن حدث ذلك في عيادتي أو في أي عيادة أخرى فإنه أمر غير مألوف، لكني أكبرت في تلك الأسرة اهتمامها بهذه الطفلة الصغيرة وعرضها على عيادة نفسية تخصصية، وهذا كان أمراً ضرورياً ومهماً للغاية.

ذات مساء حضرت إلى عيادتي امرأة ومعها فتاتان وطفلة صغيرة، وجميعهن يلف وجوههن وجوم واندهاش وتخوف من مسمى (عيادة نفسية)، وتم تسجيل الطفلة بينما كانت أمها وأختاها مرافقات لها، بل يبدو لي أن اصطحاب أختيها كان من قبيل تطمينها وإزالة الخوف عن ذهنها وعقلها الصغير.

وتحدثت أمها في البداية قائلة: أحلام ليست طبيعية يا دكتورة، فهي منذ مدة لا تأكل كما كانت في السابق، ولا تضحك مع أخواتها كما كانت تفعل من قبل، بل تصحو من نومها منزعجة في كثير من الأحيان، حتى إذا نامت تداهمها الكوابيس بشكل كثيف ومخيف، وركزت الأم في حديثها عن أعراض أحلام، دون أن تتطرق إلى الأسباب أو الأجواء التي تحيط بهذه البنت الصغيرة التي لا تعرف من أمور الحياة إلا ما تأخذه من أهلها وأخواتها الأكبر.

بالفعل كانت حالة أحلام تستدعي عرضها على أخصائي نفسي، حيث تعرضت لصدمة نفسية عنيفة، أثرت على سلوكها، بل حدث لها نوع من الرهبة والخوف المستمر من كل ما حولها، وهذه الحالة من الخطورة بحيث يمكن أن تقود إلى مضاعفات لا يحمد عقباها؛ لأنها كانت في وضع سيئ بل وصلت إلى مرحلة متدهورة.

بعد أن استمعت إلى حديث الأم المرير الذي يفيض حسرة وإشفاقاً على صغيرتها (أحلام) التفت إليها بحنان وضممتها إلي وحاولت أن أبني معها جسوراً من المودة والحب وقدمت لها بعض الهدايا، وطمأنتها بأنها بخير وليس بها ما يقلق، على أمل أن تزورني في اليوم التالي، وبالفعل أتت هذه المرة مع أمها فقط، حيث لم تكن بحاجة مرافقة أختيها كالمرة السابقة، وهذا أعطاني أملاً مشرعاً لإمكانية الوصول معها إلي نتيجة مبشرة، فمازحتها وآنستها بما يناسبها من الحوار والأمور التي تستهوي الأطفال، حتى اكتسبت صداقتها.

تدريجياً دخلت معها في لب الموضوع، بماذا تفكر ومما تخاف؟ وماذا جرى لها قبل أن تحدث لها هذه الحالة؟ وكانت الحصيلة أن أحلام شاهدت ذات ليلة، وهي مستيقظة من النوم مفزوعة، أباها يضرب أمها ضرباً مبرحاً والأم تصرخ، ولم تصدق ناظريها واعتقدت أنها في منام، لكنها تأكدت من أنها لا تحلم، بل أمام حقيقة واقعية، الصدمة التي تعرضت لها (أحلام) تتمثل في أنها رأت من تحتمي به، في البيت الحاضن للأمان والحنان والرقة والرحمة والأبوة الحانية، مشهداً يتناقض تماماً مع تلك القيم ويتقاطع معها تماماً، فوجئت بأبيها حامي حمى الدار ينهال ضرباً على أمها منبع الحنان والعطف التي رضعت من ثدييها كل القيم والعواطف والمشاعر الطيبة التي تبني الأسرة وتقوي وشائج أفرادها.

هكذا كانت الصدمة عنيفة، والنتائج أشد عنفاً، حيث تحولت الصغيرة بعد ذلك المشهد إلى طفلة عنيدة ومعقدة وعدوانية وخائفة طوال الوقت، فكيف لا تخاف وهي ترى العنف ينطلق من مأمنه من مصدر الأمان والسلام والحماية؟!!.

تواصلت (أحلام) معنا في العيادة، لفترة ليست طويلة، تلقت فيها جرعات تصاعدية في اتجاه محاولة إعادة توازنها النفسي، وكانت مستجيبة لكل الجلسات، بل متفاعلة بعد أن اطمأنت وعرفت الكثير من الحقائق عن البشر الذين من طبعهم الخطأ، وأن الإنسان معرض لهذه الأشياء، وأنه يتوب إلى الله فيجد المغفرة والعفو، كما أن علاقة والديها بها اتسمت بشيء من الحب والتسامح والمعاملة الطيبة، وقد استفادت الأسرة بكاملها من هذه الحادثة واستطاعت أن تتعامل بمثالية عالية، خصوصاً الأبوين اللذين كانا يشعران بالذنب تجاه ما حدث، وبعد فترة قليلة عادت (أحلام) إلى طبيعتها، وكنت أسأل عنها بين الحين والآخر حتى اطمأننت عليها تماماً وصارت سليمة كما كانت من قبل.

**
مجلة بنات اليوم العدد (١٢)


______________


(٤)
سامية ضحية
التخمينات !!



لم تكن (سامية) مريضة نفسياً كما كان يعتقد أفراد أسرتها للوهلة الأولى، لكنها بسبب سوء التشخيص وكثرة الأدوية والمضادات التي تناولتها واستفحال الحمى عليها تأثر المخ بذلك، وأدى الأمر إلى نتائج سلبية جعلتها خائفة ومضطربة نفسياً، وفي وضع تم تصنيفها بموجبه، كحالة مرضية نفسياً، هكذا قالت والدة الطفلة سامية ذات الثلاثة عشر ربيعاً، والوجه الوضاء المتلألئ كأنه انتزع من جبين القمر، وذات الطرف الذابل، والعينين الغائرتين، والفم المتلعثم، دخلت إلي عيادتي هزيلة الجسد مكسورة النفس، خائرة الأطراف، غرس المرض أنيابه في جسمها الناعم النحيف، فغدت أشبه بشبح إنسان.

بعد أن فت المرض والتدهور النفسي في عضد الطفلة البريئة (سامية) تم تحويلها إلى قسم الأمراض النفسية في المستشفى، فباشرت حالتها بنفسي، ووجدت جسداً نحيلاً وقوى خائرة وأسناناً تكاد تبرز من بين الفكين، من قلة تناول الطعام، ووجدتني أمام فتاة صغيرة تمتلئ براءة وحلماً وأملاً، ورجاءً.. لكن الخوف تملكها خلال المرحلة السابقة، وقد خطف منها ابتسامة البراءة ونور العينين، وجمال الطفولة، فعلمت من خلال سرد أمها لقصتها أنها تعرضت إلى حمى تم إهمالها، حيث عولجت بمسكنات ومهدئات، قبل أن يتم تشخيصها بشكل سليم، وعندما تأثر المخ والأعصاب بتلك الحمى التي كانت تسري في جميع أجزاء جسدها النحيل، وأنواع العلاج المختلفة وربما المتضاربة، عرضت على طبيب شرعي باعتبارها مريضة نفسياً، وخضعت لجلسات من العلاج بالقرآن، حيث تعرضت للضرب، ورُقِيَ لها في محاولة لإخراج الجن المزعوم منها دون أن تكون هناك نتائج مباشرة.. ونقلت من مستشفى إلى آخر، وتناولت كميات كبيرة من العلاج تراكم مفعولها وتداخل أثرها، وكل هذا ونفس سامية تضيق بالألم وجسدها يضيق بالأدوية المتضادة والتفاعلات المختلفة، والآثار الجانبية التي لا يشعر بها أحد غيرها.

جُلَّ الذين من حولها من الأهل والأقارب وبعض من باشروا علاجها كانوا يعتقدون أنها تعرضت إلى مس أو شيء من هذا القبيل، خصوصاً عند اشتداد الحمى عليها، وفي لحظة كانت ترقد بمفردها سمعت مواء قط فنهضت تركض باكية تبحث عن أمها بصورة هستيرية مخيفة.

كانت تعيش كابوساً مرعباً بسبب ارتفاع حرارة جسمها، ولكن حركة العينين والبكاء المتواصل وتوهم أن القط يطاردها تخيله أهلها نوعاً من المس أو الجنون، وكان ذلك سبب التخبط في أساليب العلاج، وتأخر تشخيص حالتها بطريقة علمية صحية كما ينبغي.

صحيح أن المرحلة التي وصلت إليها (سامية) عند زيارتها لعيادتي كانت حالة نفسية.. لكنها لم تكن الأساس في المرض، ولم تكن الحالة التي ظهرت عليها منذ اللحظات الأولى، بل أصابها الخلل النفسي من جراء التعامل الغريب معها من قِبل الأهل ومن بعض الأطباء وشيوخ التداوي بالقرآن الذين لم يشخصوا حالتها جيداً، تفهمت حالتها جيداً بعد أن عرفت خلفيتها المرضية وظلت تتلقى العلاج البدني إلى جانب جلسات لعلاج الحالة النفسية، ولم أخف على (سامية) ما تعرضت له من مرض وضغوط وخطأ في التشخيص، وضرب وأثر ذلك على صحتها إنما قصصت عليها كل المراحل التي مرت بها وأقنعتها بأنها تتمتع بصحة جيدة، واستمرت تتابع العلاج معنا في عيادتنا بالمستشفى، واستجابت للعلاج بشكل جيد، وظلت حالتها تتحسن باستمرار، وخلال أيام قليلة استعادت (سامية) طبيعتها وغادرت المستشفى وهي في تمام الصحة والعافية.

هذه الحالة لم تكن الوحيدة التي ترد إلى عيادتي ثم تتماثل إلى الشفاء في وقت وجيز، ولكنها من الحالات النادرة التي لم تكن في بدايتها نفسية، بل تحولت إلى ذلك بفعل عوامل اشتركت فيها عدة جهات؛ فاستجابت حالتها إلى هذا التحول مما جعلها تحل ضيفة لدينا طيلة فترة العلاج، لكن ما أعجبني في الصغيرة (سامية) أنها كانت واقعية، فبعد أن أدركت ملابسات ما جرى لها بوعي تام، لم تتأثر نفسياً بما مضى، بل صارت تعيش يومها دون أن تنشغل بما حدث لها، كما أنها استوعبت نصائحي وتقريري حولها جيداً، وهذا –بالطبع- ساعدها على تجاوز تلك المرحلة وجعلها تعيش حياتها الطبيعية بكل حيوية ومعنويات عالية، كأن شيئاً لم يحدث.

◽️◽️

📚 مجلة بنات اليوم العدد (١١)

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

◽️◽️


الموضوع في صفحة أخرى صيد الفوائد:
ملف/ من داخل عيادتي (١)