لا أروي حكايتي مع شقيقي الوحيد طلباً للحل الذي قد يكون متأخراً الآن ، إنما أردت أن يعتبر بها من يقعون في الخطأ الذي وقع فيه والداي ؛ عسى ولعل أن يستفيد الآباء والأمهات ممن لا يزالون يفرقون بين أبنائهم على أساس الجنس ، ودون تطويل إليكم القصة :
ترتيبي الثالثة بين أخواتي وعمري الآن خمسة وثلاثون عاماً ، كنت أعيش مع أخواتي ووالدي عيشة هانئة ينقصها لهفة الوالدين لإنجاب ولد " ذكر " يحمل اسم والدي – كما كان يردد على مسامعنا – ونحن خمس بنات ، ولا زلت أذكره وهو يقول : الولد لأهله والبنت لزوجها .
أخيراً من الله على والدي بالولد الذكر ، وكانت فرحتهما به لا توصف ، فقد تحول كل الاهتمام وكل الرعاية إليه ، أما أنا وأخواتي الأربع فيبدو أن نصيبنا من الاهتمام والرعاية قد اكتمل وانتهى بإنجاب خالد الذي أعترف لكم الآن أني لا أحبه ولا أكرهه ، فقد لا يكون اللوم الأساسي عليه .. ما زلت أذكر أن والدي نحر خمس خراف لمقدم خالد بينما عقيقة المولود الذكر شاتين كما أعلم .
نشأ خالد مدللاً ، طلباته مجابة ، ولسان حال – بل ومقال – والديّ معه " شبيك لبيك " ، فيكفي أن يؤشر ليجاب طلبه فوراً ، فهو ولد ونحن بنات ، وهذا يكفي لتفضيله علينا بنظر أمي وأبي سامحهم الله ـ عندما كنا نتشاجر معه ـ كما يحصل بين جميع الإخوة يرفع أمرنا فوراً للوالدة أو الوالد فيقفان إلى صفه وينصرانه علينا دون أن يكلفا نفسيهما عناء سؤالنا عما حدث ، فالمسألة منتهية ، هو أخونا الأصغر والوحيد ، وعلينا مراعاته في كل الأحوال ، حتى في المصروف اليومي عندما كنا في المدرسة كان يعطي عشرة ريالات يومياً ، بينما مصروفنا اليومي خمسة ريالات لكل منا : خالد ولد ؛ ويحتاج إلى المال أكثر منكن ، هكذا قال والدي ذات مرة عندما اعترضنا على أن مصروفنا اليومي أقل من أخينا .
وعندما نجح خالد بصعوبة في الثانوية العامة بمساعدة ثلاثة مدرسين خصوصين أهداه والدي سيارة أمريكية جديدة تماماً تليق بمقامه الرفيع . للأسف نشأ خالد اتكالياً ، كسولاً ، سريع الغضب ، لا يتصور أحداً يعارض رأيه ، أو يقف في وجه طلباته ، وهو لا يزال في الجامعة منذ سبع سنين يحاول التخرج من كلية الإدارة دون جدوى ، فوقته مضيع مع " شلة " الأنس في ذهاب وخروج لا ينتهي ، والله أعلم إلى أين يذهب وماذا يصنع ؟ فهو فوق المساءلة لا لشيء إلا لكونه ذكر ، المال يغدق عليه دون حساب ، في الصيف يسافر مع أصحابه لتعلم اللغة الإنكليزية ، كما يزعم ، ونحن نبقى في البيت ننتظر طارق الزواج الذي يخلصنا مما نحن فيه من التفرقة ، والحمد لله فقد تزوجت مؤخراً وأنا الآن سعيدة مع زوجي ، وأم لطفلة ملأت عليّ حياتي وأنستني شيئاً من معاناتي السابقة .
حضرة المستشار :
ربما كان الحل في مثل حالتي متأخراً ، كما ذكرت في بداية رسالتي ، ولكن هل من كلمة توجهها لأمثال والديّ عسى ولعل .. !!
**
الجواب :
يسعدني أولاً أن أقدم لكِ تحية اعتزاز وفخر بالغين ، وذلك لما تتمتعين به من روح طيبة ، وحب للآخرين واهتمام بهم ، فالمسلم أخو المسلم ، ويسعى جاهداً لإصلاحه وتقويمه ونصحه وتوجيهه ، وقد لمست حرصك الشديد لإبداء النصح والتوجيه لغيركِ ، على الرغم من أن الموضوع حسب ما ذكرتِ لا يهمك شخصياً ولكنه يهم الآباء والأمهات والمربين .
لقد جذب انتباهي ، واستقطب اهتمامي ما قرأت في رسالتك حول تعرضك لأسلوب خاطئ في التربية ، كانت نتيجته إلحاق الضرر بك وبأخيك . ومما لا شك فيه أن الأساليب الخاطئة التي ينتهجها بعض الآباء والأمهات – والتي ذكرت منها :
التفرقة في معاملة الأبناء على أساس الجنس – لها آثار نفسية سلبية على الفرد والمجتمع . فالجنس الذكر مفضل في عالمنا العربي على الأنثى في نظر كثير من الناس ، وهذا مخالف للفطرة السليمة وللشرائع السماوية .
فالأسرة تعتبر أحد الأركان الأساسية التي يتفاعل معها الفرد منذ اللحظات الأولى لحياته ، وذلك لأن علاقة الفرد بها علاقة مباشرة ، ولذا فإن بعض العلماء يعتبر الأسرة ، بما فيها من عادات وقيم وتقاليد وثقافة ، لا تقل في تأثيرها على الفرد من تأثير العوامل الوراثية والفسيولوجية ، فالأسرة الواعية تساعد الطفل على تحقيق نموه ونضجه المتكاملين ، كما أنها تمده بالعطف والحنان والرعاية الصحية والإشراف التربوي .
بينما الأسرة غير الواعية ربما تكون عقبة أمام إشباع حاجات الطفل الأساسية ، النفسية والجسمية والاجتماعية ، وعامل مثبط لهمته وعزيمته وخاصة إذا كان يسودها الحرمان والقسوة وسوء المعاملة والجهل والتفرقة في المعاملة والتسلط .
إن جهل بعض الآباء وضعف مستواهم الثقافي والمعرفي ، وجهلهم كذلك بخصائص النمو لدى أبنائهم والأساليب المناسبة في التربية وحاجات أبنائهم النفسية والاجتماعية يمثل عائقاً نحو تحقيق صحة نفسية جيدة لأطفالهم .
ومما يؤسف له أن بعض الآباء والأمهات يركزون اهتمامهم على الحاجات الأولية من تأمين الطعام والشراب والملابس ، ويهملون ركناً أساسياً في حياة الطفل ؛ ألا وهو الحاجات النفسية ( الوجدانية ) والتي منها : الحاجة إلى الحب ، وإلى تقدير واحترام الذات ، واحترام القيم والمثل .
إن التفرقة في معاملة الأطفال هو اتجاه الوالدين وميلهم العاطفي بدرجة شديدة نحو أحد الأبناء وتفضيله على إخوانه والإغداق عليه ، وتلبية متطلباته وحاجاته النفسية والاجتماعية والفسيولوجية ، فيرتكب الآباء بذلك خطأً فادحاً يتجرع مرارته الأبناء جميعهم ومن ضمنهم الابن المفضل ، فالابن المفضل والذي يحظى باهتمام بالغ ، ليس بأحسن حظ من إخوته الآخرين ، فهو ينشأ مدللاً ، اتكالياً على غيره ، ليس لديه القدرة على مجابهة ما يواجهه من مشكلات ، فقد اعتاد الاعتماد على والديه في تلبية طلباته وحاجاته ، وبالتالي تسبب الوالدان في إعاقة ابنهما المدلل ، وأخرجا للمجتمع فرداً يعتمد على الآخرين ، وليس لديه القدرة على الإنتاج ، ولا يفيد المجتمع بأي حال من الأحوال وكذلك بالنسبة للبنت غير المدللة والتي أهملت ولم تحظ بنصيب من الاهتمام ، فهي تنظر إلى والديها وإلى أخيها المدلل نظرة مليئة بالحقد والكراهية لأنهما فضلاه عليها ، فتنشأ البنت غير متكيفة مع أوضاع الأسرة وبالتالي قد تصاب ببعض الأمراض النفسية .
إن الأسلوب الخاطئ في التنشئة له آثار سلبية على جميع الأبناء ، وقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم قصة يوسف عليه السلام ، حيث حذرنا الله سبحانه وتعالى من تفضيل بعض الأبناء على الآخرين ، كما فعل النبي يعقوب عليه السلام عندما فضل يوسف وأخيه على باقي إخوته ، فقد كان يحبهما حباً شديداً ، مما جعل إخوة يوسف عليه السلام يحكمون على أبيهم أنه في ضلال مبين .. يقول الله تعالى " لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين ، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ، ونحن عصبة ، إن آبانا لفي ضلال مبين " ، حتى أن حقدهم وكراهيتهم ليوسف قادتهم إلى التخلص منه وذلك بنية قتله ، يقول الله تعالى " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم ، وتكونوا من بعده قوماً صالحين " .
وهكذا يجب أن يدرك الوالدان أن الأطفال يدركون ويحسون ويتألمون وينتقمون ، كما يحس ويدرك ويتألم وينتقم الكبار .
فالله سبحانه وتعالى قد حملنا أمانة كبيرة سوف نسأل عنها يوم القيامة ، هل حفظناها أم ضيعناها .. ؟
المستشار
◽️◽️
📚 مجلة حياة العدد الثاني جمادى الآخرة ١٤٢١ هـ
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق