السبت، 19 مايو 2018

آثار لذة الأعمال الصالحة وموانع حصولها


عن رفاعة الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم أحد بدعاء طويل، وفيه :
"اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين"

آثار لذة الأعمال الصالحة :

للذة التي يجدها العبد عن العمل الصالح آثار مباركة، ومن هذه الآثار :

١ - الإحساس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان :

قال ابن رجب : "إذا وجد القلب حلاوة الإيمان أحس بمرارة الكفر والفسوق والعصيان، ولهذا قال يوسف عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ

سئل ذو النون: متى أُحبُّ ربي؟ قال : إذا كان ما يكرهه أَمرَّ عندك من الصبر.

وقال بشر بن السري : ليس من أعلام المحبة أن تحب ما يبغضه حبيبك"

٢ - الثبات على دين الله :

قال ابن القيم - واصفاً حال الإنسان عند وصوله إلى مرتبة التلذذ بالأعمال الصالحة - : "ولا يزال السالك عرضة للآفات والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحالة، فحينئذ يصير نعيمه في سيره، ولذته في اجتهاده، وعذابه في فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته، ووقوفه عن سيره"
وقد سبق قول هرقل : وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

٣ - النشاط في أداء العبادة :

قال العلامة ابن القيم : "السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق، فصارت قرة عين له وقوة ولذة، فتصير الصلاة قرة عينه بعد أن كانت عملاً عليه، ويستريح بها بعد أن كان يطلب الراحة منها!"

٤ - طيب العيش في الحياة الدنيا :

قال تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قال الحافظ ابن كثير : "هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه - من ذكر أو أنثى من بني آدم، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.
والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت"

وفي المقابل :
قال الله تعالى : ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ

قال الحافظ ابن كثير : "أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه، وأخذ من غيره هداه، فإن له معيشة ضنكا" أي : في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم في ظاهره، ولبس ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة"

يقول ابن القيم : "والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضى به وعنه، وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة : ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري أنى رحت فهي معي، لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة : لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال : ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله.
وقال لي مرة : المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه، وقال : ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ 

وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد، والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الارض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.

فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، وكان بعض العارفين يقول : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره. أو نحو هذا.
وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر : إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فبمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته، هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات"

٥ - أن العمل الصالح يكون عند الإنسان أحب إليه من الدنيا وما فيها :

جاء في ترجمة عاصم بن أبي النجود أنه كان إذا صلى ينتصب كأنه عود، وكان يكون يوم الجمعة في المسجد إلى العصر، وكان عابداً خيراً يصلي أبداً، ربما أتى حاجة، فإذا رأى مسجداً قال : حل بنا، فإن حاجتنا لا تفوت، ثم يدخل فيصلي.
وعن موسى بن طريف قال : كانت الجارية تفرش لعلي بن بكار، فيلمسه ويقول : والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، وكان يصلي الفجر بوضوء العتمة.

موانع حصول اللذة بالأعمال الصالحة :

هناك أمور تحول بين العبد وبين التلذذ بالأعمال الصالحة، أذكر منها ما يلي :

١ - المعاصي والذنوب :

قال ابن الجوزي : "قال بعض أحبار بني إسرائيل : يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له : كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل : أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال : ولا من هَمَّ.
فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعم فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك"

٢ - كثرة مخالطة الناس :

قال ابن الجوزي : "كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلباً طيباً، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة.
فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة.
ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه، لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة.
ثم جاء التأويل، فانبسطت فيما يباح، فانعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة، وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب إلى أن عدم النور كله"

٣ - تحول العبادات إلى عادات :

قال الحافظ ابن رجب : "كثير من الناس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منهم لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر، ومن جهالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرر بالصوم، مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته، جرياً منه على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرم الله من الزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير حق، فهذا يجري على عوائده في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان، ومن عمل بمقتضى الإيمان صارت لذته في مصابرة نفسه عما تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكرهه الله منه، وينفر منه وإن كان ملائماً للنفوس، كما قيل :
إن كان رضاكم في سهري
فسلام الله على وسني"

٤ - النفاق :

لذة العبادة إنما يشعر بها المؤمن الصادق في إيمانه، كما جاء في حديث أبي أمام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن".

وأختم بكلمة نقلها العلامة ابن القيم عن ابن تيمية قال : "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - يقول : إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور.
يعني : أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

◽️◽️

سامي محمد جاد الله
📚 مجلة الجندي المسلم (١٢٢)

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق