يمنحون الحبَّ.. على طريق الحياة
كان يوماً حاراً اشتدت به ريح السموم..
واكتست به السماء بحمرة الغبار..
- أعوذ بالله من غضب الله..
أغلقت أمي النافذة.. وهي تسعل من أثر الغبار الذي دخل علينا.. وخرجت من غرفة الجلوس..
لم أكن أعرف ماذا أفعل..
صعدت إلى غرفتي.. استلقيت على السرير..
لم يكن هناك من مكان نذهب إليه في هذا الجو.. ولا شيء نفعله..
فتحت النت..
كانت أمولة على المسنجر..
- أهليين شأخبارك؟
- أخباري.. طفش.. غبار وضيقة صدر..
- يا بنت الحلال هونيها.. يكفي أمولة العسل معك على الخط.. يا الله فكيها عاد.. (وجه مبتسم)
سكت..
إنها لا تعلم شيئاً.. لا تعلم أي شيء..
- سوسة.. وينك؟
- هنا..
- ليش ما تردين.؟ (وجه عابس)
- ..
- يوه.. شكلك سرحانة على الأخير..
(وجه ممتعض)
- تعرفين يا أمولة أحد يشتري الهموم؟ والله لو أعرف من يشتريها لأبيعها بفلوس الدنيا كلها..
- يوء يوء يوء.. وش ذا؟ صايرة شاعرة وأنا مدري عنك؟ أي هموم يا حلوة.. هموم وعندك صديقتك أمل؟ ما يصير!
أخذت تفكر طويلاً.. هل تسرعت؟ هل تخبرها؟ الأمر جلل..
- لا خلاص ولا شي..
- يا شيخة على مين حركات البزارين هذي؟ وش ولا شي؟ وش عندك؟
- ...
- أقول بتقولين وإلا أعصب (وجه أحمر غاضب)
- ههه أمزح معك.. فعلاً ما فيه شي..
- إيه أكيد كنت تفكرين بلمى.. يا أختي بالطقاق فيها.. بدالها ألف..
حصة في سرها (أي لمى أي بطيخ!)..
- إيه صح.. هذا هو همي.. شلون تتركني كذا؟.. يعني ذا الطالبة الجديدة بتنفعها.. وإلا علشانها جاية من المدرسة الفلانية وتركب عدسات صارت شي.. من زينها كنها طالعة من قبر جدي بذا العيون البيض..
- لووووول
- ..
- خخخخخ.. رهيبة يا حصوص.. جبتيها.. إي والله عدساتها ذا السماوية كنهن بيض.. عيونها تروع!
- وأنا صادقة.. وإلا شعرها اللي كنه شيب مصبوغ بكركم.. أعوذ بالله.. مسكينة .. وشايفة نفسها بهالشعرتين مغير تلفح فيهم يمين ويسار.. ياي على المياعة.. لا تتكسر..
- صادقة.. أنا ما عجبني لون شعرها بايخ.. أي أحمر (بورغاندي) على قولتها؟ والله إن لونه برتقالي كنه صرصور..
- طيب.. المهم. بروح ذا الحين.. شكل أمي تناديني.. مع السلامة..
- باي حصوصة..
أقفلت حصوص المسنجر..
كانت تكذب.. لم يكن هناك من يناديها..
وضعت رأسها على يديها على المكتب.. وأخذت تبكي..
شيء ما كان يحتبس في صدرها لا تعرف لمن تقوله؟
* * *
في المدرسة.. لم يلاحظ أحد التغير والسكون الذي طغى على حصة.. ولم يلمح أحد نظراتها الحزينة.. الكل كان ينظر إليها كطالبة مشاغبة.. ولا وقت لأن يفكر أن حصة يمكن أن تكون حزينة..
فقط كانت هي.. من لاحظ ذلك.. أثناء الدرس.. كانت تنظر إليها.. فتجدها سارحة في عالم آخر..
تمازحها تداعبها.. فترد بابتسامة صفراء..
شيء ما كان متغيراً..
بعد انتهاء الدرس..
اقتربت منها.. همست بهدوء وهي تشير إلى الباب وهي تبتسم ابتسامتها الدافئة..
- تعالي.. أريدك..
خرجت مرتبكة..
- هلا أستاذة!.. عسى ما شر؟
- ولا شر ولا يحزنون.. ممكن أكلمك في الفسحة.. ودي أسولف معك شوي..
نظرت إليها باستغراب..
- خلاص؟ أنتظرك!
وابتسمت كعادتها وربتت على كتف حصة وأسرعت إلى فصلها التالي..
* * *
في الفسحة أتت..
خرجت لها أبلة مها رغم تعبها الظاهر..
- أستاذة.. معليش افطري..
- لا.. ما يحتاج.. أنتي أهم..
وابتسمت بدفء..
وقفتا في مكان هادئ..
- حصة.. أنا أثق بكلامك.. هل عدت إلى محادثة الشاب؟
- ماذا؟!
- أنا أسأل فقط..
- المشكلة ليست هنا..
مطت المعلمة شفتيها..
- مشكلة في البيت.. أليس كذلك؟
بدأت دموع حصة تنساب.. وهي تبتلع رعشات حلقها..
- مشكلة؟.. (بلوة)!
وضحكت وهي تخنق عبراتها..
سكتت أبلة مها في انتظار الحديث..
- أبي.. تصوري أستاذة مها.. أبي اكتشفت به شيئاً..
ومسحت أنفها بالمنديل..
- أبي اكتشفت أنه يكلم امرأة!!
وقفت أبلة مها بهدوء ولم تغير ملامح وجهها الهادئة وكأنها كانت تتوقع أي شيء..
- تصوري!.. وجدت رسائل غرامية في جواله بالصدفة.. امرأة بنفسها قد كتبت له.. تصوري.. والله يا أستاذة إني لا أكذب..
- لحظة.. هل أنت متأكدة؟
- متأكدة ولدي الدليل.. وجدته قد أرسل إليها في الرسائل المرسلة أيضاً..
وأخذت تبكي أكثر..
- أنا.. لا أعرف ماذا أفعل؟
بكت ثم أكملت..
- هل تعرفين يا أستاذة مها.. لقد.. قررت الانتقام منه.. لقد عدت إلى محادثة الشاب الذي كنت أكلمه قبل سنة..
- الذي تبت من علاقتك به؟
- نعم.. أريد أن أحرق قلبه كما حرق قلبي.. وقلب أمي المسكينة التي لا تعلم..
مسحت المعلمة على رأسها..
وقالت بهدوء..
- حبيبتي.. إذا كان والدك يأخذ سماً قاتلاً.. هل تنتقمين منه بأخذ نفس السم؟ إنك بذلك تقتلين نفسك أنت.. وليس نفسه!
انظري إلي.. واسمعي جيداً..
لا أنكر أن صدمتك مؤلمة.. من المؤلم أن يصدم الإنسان بمن يثق بهم..
لكن.. يجب أن تكوني أقوى من كل هذه الآلام..
ماذا سوف تجنين من هذه العلاقة؟
غضب الله.. الخوف.. القلق.. السمعة السيئة.. ألم أمك المسكينة التي خنت ثقتها..
أما والدك.. فلن يؤثر عليه هذا الأمر..
كان الأجدر أن تحاولي نصحه وتوجيهه بطرق غير مباشرة.. ثم بطرق مباشرة.. أن تدخلي طرفاً ثالثاً قادراً على الحوار بينكما.. أن تبلغي أمك مثلاً..
لكن أسلوبك هذا.. مع احترامي.. أسلوب غبي..!
- لكن أستاذة مها.. أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً..
- كلا تستطيعين..
هل جربت الدعاء له؟ هل جربت قيام الليل؟ هل صليت في الثلث الأخير ودعوت من كل قلبك؟ أم أسرعت فقط بإغواء الشيطان نحو جهازك لتحادثي ذلك الشاب؟ هل هذا الحل في نظرك؟
- لا أعرف.. والله لا أعرف!
وأخذت تبكي..
- المشكلة أنه لم يكن لدي من أكلمه.. من أبثه ألمي..
- هذا ليس عذراً يا حصة.. كان بإمكانك أن تأتي إلى محادثتي.. أن تفرشي سجادتك وتبثي همك إلى الله.. أن تحادثي والدتك أو أي شخص تثقين به.. لكن بالله عليك ما الذي سيفيدك حديثك مع الشاب؟
بكت بينما أستاذة مها تمسح على كتفها..
- لا أنا.. ولا أمك ولا كل من في هذا العالم يستطيعون أن يعيدوا أباك.. واحد فقط من يقدر.. ربك.. الجئي إليه يا غاليتي.. وسترين.
* * *
وذات مساء..
بعد أربع سنوات وسبعة أشهر من ذلك اليوم..
في صندوق بريد المعلمة مها الإلكتروني.. كانت هناك رسالة خاصة..
من حصة:
(الحبيبة الغالية أبلة مها..
كيف حالك؟
..
ألا زلت تذكرين ذلك اليوم؟
لم أعد أحادثه مذ حينها.. قطعت علاقتي السخيفة به.. وانتهيت..
الحمد لله..
أما قصة أبي..
فسأقول لك ما حصل..
أخبرت والدتي.. حدثت مشكلات كثيرة حينها بين أمي وأبي..
و.. تطلقا..
مررت بأيام عصيبة ومؤلمة أنا وإخوتي..
لكني تماسكت.. اتبعت نصيحتك.. واظبت على قيام الليل والدعاء لهما..
أربع سنوات.. لم أتوقف يوماً..
قبل ستة أشهر فقط عاد والديَّ إلى بعضهما.. الحمد لله حياتنا الآن رائعة..
والدي تغير كثيراً.. وكذلك أمي.. وهي حامل الآن.. ههههه شيء طريف أن أحصل على أخ في هذا العمر.. أليس كذلك؟
طبعاً نسيت أن أخبرك أني أدرس الآن في الجامعة السنة الثالثة..
حين أتذكر شريط حياتي.. تمر أمامي أحداث سوداء عاصفة كثيرة.. ثم.. فجأة.. تظهر صورتك كنجمة بيضاء ساطعة تنير دربي..
أحمد الله أن كنت معي ذلك اليوم وإلا لكان لحياتي مسار آخر – بمشيئة الله..
معلمتي وأمي الغالية أبلة مها.. أحبك من كل قلبي..
ولا أعرف كيف أشكرك..
فالأشخاص الذين يمنحون الحب مثلك على طريق الحياة نادرون.. نادرون جداً..)
* * *
على لوحة المفاتيح..
كانت قطرات دافئة تتساقط..
📚 مجلة حياة العدد (٧٧) رمضان ١٤٢٧ هـ
قوة عينيها
كانت نادية بطلة شعبية في المدرسة..
فقد كانت من النوع الذي لا يؤخذ حقه ولا تسكت عن أي تجاوز ضدها أو ضد غيرها.. لذا كنا نراها النموذج القوي الذي نحب ونحلم أن نصبح مثله..
لم تكن من النوع الذي يتشاجر دون سبب.. كلا.. لم تكن كذلك أبداً..
على العكس..
كانت لا تتشاجر إلا لأسباب وجيهة.. وفي الوقت الذي يخشى فيه الجميع من الحديث أو الاعتراض..
لقد كانت تمتلك قوة غريبة لا تملكها أي فتاة رأيتها في حياتي..
ذات يوم كان هناك مجموعة من الفتيات أو المخلوقات التي تشبه الفتيات يجلسن كحلقة قرب المقصف.. كان موقع جلوسهن سيئاً ومزعجاً للجميع فقد أغلقن الطريق أمام كل من تريد الشراء من نافذة المقصف الكبيرة..
كان من الواضح أنهن تعمدن ذلك لكي يعلم الجميع مدى قوتهن.. ولا أعرف ما الذي يفرحهن في هذا؟؟
لم يستطع أحد أن يواجههن بشكل قوي..
فقد كانت الجازي رئيسة المجموعة وهي فتاة مخيفة بكل ما تعنيه الكلمة بدءاً من جسمها الطويل القوي وتصرفاتها الحادة وهيئتها المسترجلة..
تأففت الكثير من الفتيات.. وأبدين تذمرهن وانزعاجهن لكن دون جدوى..
حتى أبلة منى مراقبة الساحة حادثتهن عدة مرات دون جدوى..
وفي النهاية رأتهن نادية..
فتحمست لعمل شيء..
- نادية.. أرجوك.. أرجوك.. لا تتهوري.. لا تقتربي من هؤلاء المجانين..
- قلت سأذهب يعني سأذهب..
- نادية أرجوك لا تجازفي بنفسك..
- ولماذا أجازف ماذا سيفعلن؟
- أنظري للسلسلة اللامعة التي تتدلى من جيبها.. قد تلسعك بها بكل سهولة..!
- أتحدى.. إنها أجبن من أن تفعل ذلك.. لا شيء يجعلها تتجرأ و(تنفخ) نفسها سوى خوفكن وجبنكن فقط!
وانطلقت بكل ثقة لتشتري من المقصف..
- لو سمحتوا شوي!
ولم يعرها أحد اهتماماً.. كانت كل فتيات الشلة ينظرن لبعضهن ثم ينظرن لها بازدراء ويتابعن ضحكاتهن..
رفعت صوتها..
- هذا يعني.. أنكن لا تردن التحرك.. حسناً سأتحرك أنا إذاً..
وانطلقت بشكل خاطف وجنوني.. تدوس عليهن بكل قوة..!!
كان منظراً غريباً.. مضحكاً.. مخيفاً.. رهيباً.. لا أعرف..
انطلقت صرخاتهن المتألمة العالية.. وهي تدوس بكل قوتها بحذائها الرياضي على أرجلهن وتتعمد ذلك.. وتقفز من حضن واحدة لأخرى غير آبهة بصرخاتهن وتوجعاتهن.. لتعبر نحو نافذة المقصف..
اجتمعت كل فتيات المدرسة على الموقف الرهيب..
وقفت الجازي بكل قوتها.. وصرخت بصوت أجش..
- هييييييييييه!! خير!! خير؟! ماذا تريدين؟
وبكل برود ردت نادية..
- لاشيء.. أريد فقط أن أشتري من المقصف..!
وذهبت لتشتري..
انطلقت الجازي خلفها وسحبتها من كتفها.. وصرخت كأسد هائج..
- تعالي كلميني..
كانت نادية متماسكة تماماً.. فقط التفتت نحو الطالبات وقالت..
- اشهدن جميعاً.. إنها تتعدى علي بيدها!! هل شهدتن؟
انتفخت أوداج الجازي وأصبح وجهها أحمر..
- انظروا.. انظروا لها.. إنها تنفخ أمامي بقوة.. لنر ماذا تستطيع أن تفعل؟
شعرت بالخوف الشديد على نادية.. فرغم قوة شخصيتها وعنادها الشديد وشجاعتها الغريبة.. إلا أنها ذات جسم نحيل ضعيف.. وقد بدت أمام الجازي كقطة صغيرة أمام أسد هائج..
- طيب.. طيب يا الـ.. (..)
بكل غرابة.. ولا أعرف لماذا أعطت الجازي نادية ظهرها وهي تسير شبه منهزمة.. وتردد (سأريك.. سأريك!)
صرخت فيها نادية لكل جرأة وقوة وحماس.. بصوت عال..
- هيا.. هيا..! اذهبي.. ولا تعودي للجلوس مرة أخرى مع قطيعك في هذا المكان مرة أخرى.. وإلا فإنني سأرتدي كعباً حاداً المرة القادمة..!
كان موقفاً غريباً.. لا أعرف كيف انسحبت الجازي أمام نادية.. رغم أنه بضربة واحدة من كفها الغليظ كان بإمكانها أن تسقط نادية صريعة..!
أيقنت أنها قوة شخصيتها.. قوة الحق في عينيها الحادتين.. والتي حولت ضعفها لقوة مخيفة..
ولهذا أصبحت كل الفتيات المشاكسات يخشين نادية ويتجنبن مواجهتها..
وأصبحت كل فتيات المدرسة يحببنها ويقفن في صفها..
ذات يوم.. حصل لي موقف لن أنساه.. كنت أسير مع صديقتي في ساحة المدرسة..
حين جاءت إحدى الفتيات المتهورات وهي تجري مسرعة واصطدمت بي بقوة فأوقعتني أرضاً وأكملت ركضها دون حتى أن تلتفت إلي أو تعتذر..
كانت سقطتي مؤلمة وقوية.. فقد ارتطم رأسي بجدار قريب..
وحين استطعت الوقوف وترتيب شعري، اقتربت مني نادية وهي غاضبة.. وقالت..
- نوال!.. لماذا تسكتين؟ اذهبي وحادثيها.. لقد تعودن على قلة الذوق والاحترام.. وهن بحاجة لمن يوقفهن عند حدهن..
شعرت بالخجل من نفسي.. بالفعل كنت أحتاج لأن أواجه من ظلمني وآخذ حقي منه.. لكن.. نظراً لضعفي الشديد.. لم أستطع يوماً أن أفعل ذلك.. كنت أتظاهر دوماً بأني أسامح الناس.. لكن الحقيقة هي أني أخاف من مواجهة الآخرين حتى لو كانوا مخطئين..
- تعالي.. قومي.. هيا..
أمسكت يدي.. وسحبتني..
- اسمعي.. أنا لن أتدخل.. فقط سأمسكها لك.. وأنت تصرفي.. مفهوم؟
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أجري معها بارتباك..
وحين وجدت الفتاة تضحك مع زميلاتها رمقتها بنظرة قوية ونادتها بحدة..
- تعالي.. تعالي لو سمحت..
نظرت الفتاة إلينا بجمود يشوبه خوف واستغراب..
- نعم.. ماذا؟
- تعالي.. وواجهي هذه الفتاة التي أسقطتها بجريك الأهوج قبل قليل..
اقتربت ونظرت إلي نظرة غبية.. فلم أعرف ماذا أقول..
نظرت لنادية والعرق يتفصد من جبيني..
- آآآه.. آآ.. أنا.. ممم.. لماذا أسقطتني؟
- لا أدري.. لم أرك أصلاً.. أنت كنت تقفين في مكان خطأ!!
كانت نادية تراقبني بهدوء دون تدخل.. فتلعثمت مرة أخرى.. وقلت بصوت مرتعش..
- كلا.. لم يكن مكاني خطأ.. آآآ.. أنت كنت مسرعة..
ضحكت الفتاة باستهتار مقيت.. وأعطتني ظهرها لتكمل حديثها مع زميلاتها..
فصرخت نادية عليها..
- لو سمحت!!! الحديث لم ينته..!
يا الله! اجتمع بعض البنات حولنا.. شعرت بأني في ورطة.. ماذا أفعل؟ أريد أن أنسحب..
- ليس من حقك أن تجري بجنون كالأطفال وتضربي الناس ثم تقولي.. لم أرهم!!
شعرت الفتاة بالخوف فقالت..
- طيب.. والمطلوب..؟
- أن تعتذري لها..
نظرت إلي وهي تمط شفتيها ثم قالت..
- آسفة..
- انتبهي مرة أخرى حين تجرين.. فالناس ليسوا لعباً..
حمدت الله أن الموقف انتهى.. وسرت بعيداً وأنا أشعر باعتزاز لم أشعر مثله من قبل..
قالت لي نادية..
- نوال.. اسمعيني جيداً.. التسامح لا يعني أن تتركي حقك يضيع.. وأن تتركي الآخرين يتجاوزون حدودهم معك.. بتسامحك مع أمثال هؤلاء فأنت تتركين الطريق يتسع أكثر فأكثر لهم ولتجاوزاتهم.. إذا أردت أن تسامحي الآخرين فسامحيهم.. لكن وأنت قوية.. وليس.. وأنت ضعيفة.. هل تفهميني؟
بعد مرور عشرات السنين على ذلك الموقف لازلت أتذكر كلماتها بكل دقة..
حتى الآن.. لا أعرف إن كان كلام نادية صحيحاً تماماً أم لا..
ولا أستطيع أن أحكم ما إذا كان أسلوبها صحيحاً أم لا..
أعرف أننا كنا مراهقات.. لم ينضجن على نار الحياة بعد..
وما عرفته حقاً من خلال خبرتي في الحياة..
إن الإنسان إذا فقد قوته في الحق.. وسكت عن الظلم ضعفاً..
فإنه يفقد أول معالم إنسانيته..
📚 مجلة حياة العدد (٧٨) شوال ١٤٢٧ هـ
الاعتراف الأخير..
هذه المرة..
هي اعترافاتي أنا..
أسردها لكم بكل صدق..
تحملوا طولها.. فهي الأخيرة..
قبل سبع سنوات..
كنت لا أزال طالبة تتعثر خطواتها في حرم الجامعة الفسيح.. تحمل ملازمها وكتبها الثقيلة من قاعة لأخرى..
لا تعرف كيف تقسم ساعات يومها بين الاهتمام ببيتها وطفلتها الصغيرة.. ودراسة اختباراتها التي لا تكاد تتوقف.. ولا تعرف كيف ومتى تجد الوقت لتجلس على جهازها وتعمل على المشاريع المعقدة..
كنت أواجه التعب والإرهاق في كل دقيقة من يومي..
في خضم تلك الزوبعة لمعت نجمة غريبة في سمائي..
كانت (حياة) تطل علي بخجل..
كانت لا تزال جنيناً في رحم الغيب..
فكرة مشروع جميل تحملها أمواج الخيال نحو شاطئ الواقع..
أسرتني بحبها منذ أن تحدثوا عنها.. قبل أن أراها.. أو تراها أي فتاة أخرى..
كانت لا تزال (مشروع) حلم.. لم تكتب له الحياة بعد..
وكان الخيار..
(أكون مسؤولة تحرير؟؟) هه.. هكذا..؟! لا أصدق.. كيف..
أنا.. أنا مجرد طالبة..!!!
دعونا نعود للماضي قليلاً..
لأحكي لكم ما حدث.. قبل ثلاث سنوات من هذا العرض..
كنت لا أزال أحاول التكيف مع عالمي الجديد.. مع الجامعة.. العالم الكبير الرائع..
لا أزال في سنتي الأولى (المبهرة) بعد الخروج من قمقم المدرسة..
ورقة بيضاء.. معلقة بإهمال على جدار في ممر المبنى الإداري..
(مسابقة القصة القصيرة)..
شدتني قليلاً.. أحب كل ما له علاقة بالقصة.. يبدو مثيراً..
لكني.. لم أكتب قصة من قبل..
(لعلي أحاول..) خاطبت نفسي..
كان اطلاعي على موعد المسابقة متأخراً للأسف.. ليس أمامي الآن سوى أسبوع واحد.. فقط..
لكن سأحاول..
آخر محاولة أدبية لي كانت موضوع تعبير أعجب معلمتي في الثانوية.. أعجبها إلى حد أن أهدتني طوقاً من الفل.. ودرجة كاملة في الاختبار النهائي للتعبير (يوم كنا نختبر في مادة التعبير!)..
ممم.. ماذا غيرها.. نعم.. قصة حاولت نشرها.. وأرسلتها لأكثر من مجلة.. دون جدوى.. بل دون حتى رد صغير..!
هذا كل ما لدي!
لكن.. سأحاول..
أشركت إحدى صديقاتي بسري..
(سأشارك في مسابقة القصة بإذن الله)..
(ماذا؟؟!!..) شهقت وهي تنظر لي.. (خبلة!!) قالتها هكذا!!
(والاختبارات والبرامج اللي علينا تسليمها..؟؟!)
شعرت بالصدمة.. ابتلعت ريقي.. وندمت أني أخبرتها..
(ما أدري.. يمكن.. لست متأكدة)..
انشغلت خلال الأيام المقبلة.. وحين لم يبق سوى ثلاثة أيام على انتهاء المسابقة.. بدأت أكتب قصتي.. الأولى..
جلست طويلاً في غرفتي.. وانعزلت عن أهلي لساعات طويلة..
وفي النهاية اكتملت..
سلمتها يوم الأربعاء.. الساعة 12 ظهراً.. الموعد الأخير للتسليم تماماً..
وبقيت أنتظر بصمت.. قررت ألا أخبر أحداً أني شاركت (بعد إحباط صديقتي)..
كنت أعلم أني شاركت كمجرد محاولة لصقل نفسي..
كنت أعرف أنه من الصعب أن أفوز بأي مركز..
لا زلت مستجدة.. في السنة الأولى من دراستي..
والمسابقة على مستوى جامعة الملك سعود بأكملها.. وهي إحدى أكبر جامعات العالم.. بين عشرات الألوف من الطلبة.. شباباً وفتيات..
احتمال فوزي أقل من ضئيل كنت أعرف هذا جيداً..
سألتني تلك الصديقة عن قصتي التي شاركت بها.. وطلبت مني أن تقرأها..
أحضرتها لها.. وأخذتها معها لتقرأها في البيت..
وفي الغد قالت لي.. (بصراحة نوف.. القصة مدري.. ركيييييكة مرررة!!)
شعرت بالصدمة..
فأكملت حديثها وهي تحركها باستخفاف في يدها: (حتى أني عرضتها على أخي.. وهو معيد في قسم اللغة العربية.. وكان كلامه مطابقاً لما قالته.. القصة فيها عبارات ركيكة جداً.. و.. بصرااااحة: كيف شاركت بها بالمسابقة؟؟
مستواها ضعييييف!!)
ابتلعت ريقي.. وأنا أكاد أذوب من شدة الخجل..
كنت لا أزال مشوشة وفاقدة للثقة بنفسي تماماً..
كدت أموت خجلاً من قصتي البائسة.. شعرت بأنها مخجلة ولا تستحق المشاركة فعلاً..
وفي البيت شعرت بالكآبة والحزن والخجل.. ولمت نفسي كثيراً لأني شاركت..
ثم.. أخذت أفكر.. وخاطبت نفسي فجأة..
توقفي لحظة! ما الذي يمكن أن يحدث يا ذكية؟!
أسوأ ما يمكن أن قصتك لن تفوز.. ثم ماذا؟.. لن يعرف أحد.. لا أحد يعرف أني شاركت بالمسابقة أصلاً.. هه بعد أشهر..
نزل إعلان في رسالة الجامعة.. كان يحوي أسماء الطلاب العشرة الفائزين بمسابقة القصة القصيرة على مستوى الجامعة.. ولكن دون ترتيب المراكز..
شعرت بالشغف لأقرأها.. كنت متأكدة أني لن أفوز..
ولكن أردت أن أعرف من الذين فازوا بها..
لم أصدق..
قرأت الإعلان عشرين مرة.. لأتأكد.. يا الله..
اسمي كان هناك!..
صغير.. لكنه موجود..
شيء عظيييييييييم..
الحمد لله.. أنا موجودة.. ضمن العشرة.. هذا شيء رااااائع.. يا الله لا أصدق..
كنت متأكدة أن مركزي هو العاشر.. أو التاسع..
لم يكن الاسم واضحاً بحيث يقرأه أحد..
في الأسبوع التالي.. نزل الإعلان... بترتيب المراكز..
كنت أنتظره على أحر من الجمر..
هل أنا في المركز العاشر أم التاسع..
وقرأت العنوان العريض..
و.. كنت هناك..
المركز الأول..
قصتي (لن أنساك أبداً) كانت الفائزة..
الجميع أخذ يهنئني.. الطالبات.. الأقارب..
وحين نشرت القصة بعد أسابيع في رسالة الجامعة..
بدأت ردود الأفعال تأتي من كل مكان..
الطالبات.. الأساتذة.. الدكاترة.. حتى الطلاب.. البعض كتب تعليقه عنها في الصحيفة والبعض وضح كم تأثر بها..
وكتب رئيس قسم اللغة العربية على ما أعتقد تعليقاً رائعاً عنها..
كان ذلك كثيراً بالنسبة لطالبة في سنتها الأولى.. تشعر بالخجل من مشاركتها الأولى..
وأخبرتها زميلة أن قصتها (ركييييكة جداً)!!
أصبح الأساتذة يسألون عني في القاعات الدراسية بعد أن كنت طالبة عادية..
وحتى سنتي الأخيرة في الدراسة حين كان يدرسني أستاذ جديد كان يسأل عن اسمي.. هل أنت التي كتبت قصة (لن أنساك أبداً) يا ابنتي؟..
في السنة التي تليها.. اخترت العمل التدريبي كمحررة في رسالة الجامعة.. كنت أكتب بعض الأخبار البسيطة.. وأجري اللقاءات..
استمتعت كثيراً بالعمل الصحافي.. وتعلمت أساسياته.. رغم كثرة ضغوطي الدراسية..
هناك كانت بدايتي..
ومنها... بعد زمن.. كانت مشاركتي الأولى في حياة.. كعضوة مع فريقها الذي كان قد أعد العدد رقم (صفر).. قبل نزوله للأسواق.. وقبل ظهور الفسح الإعلامي..
حين رأيت العدد الأول.. كان لا يزال.. طرياً.. بسيطاً.. لكنه مميز جداً.. جذبني بتميزه.. مجلة خاصة بالفتيات! أمر رااائع..
وأنا.. مطلوبة للعمل فيها؟؟!!
وكمسؤولة تحرير؟؟؟
ياااه.. يبدو أن أمي قد دعت لي..
هكذا فكرت..!
لكن بعد فترة.. عرفت أن العمل ليس تجربة بسيطة.. ولا مجرد نزهة ممتعة..
بدأنا العمل الحقيقي.. وكنت لا أزال طالبة..
وكنا بحاجة إلى أن نثبت وجود المجلة.. وأن نضع كل طاقاتنا وإمكاناتنا
لنجعلها تظهر في أجمل وأبهى صورة..
كنا نكافح.. ونجمع المعلومات..
ونكتب.. وننسق.. ونتابع الإخراج..
وكنا نعمل من منزل مديرة التحرير التي كانت لنا بمثابة الأخت والأم والصديقة..
وبعدها بأكثر من سنة..
انتقلنا إلى مكتب صغير متواضع..
وكان العمل يصبح أكثر ضغطاً يوماً بعد آخر بسبب كثرة رسائل القارئات والحاجة الماسة إلى المتابعة.. نرد على الاتصالات.. ننسق.. نرد على الشكاوي.. نستقبل الاقتراحات..
نصحح.. نراجع.. نقوم بعمل كل شيء تقريباً.. وعددنا لا يجاوز أصابع اليد الواحدة مع مديرتنا والسكرتيرة!..
في خضم العمل.. مررت بسنتي النهائية.. وبمشروع التخرج.. كنت أعمل مع زميلاتي صباحاً على مشروع تخرجنا.. ومساء على المجلة.. كنت أوزع أعداد مجلتي الصغيرة في الجامعة.. وعلى الأستاذات.. لأعرفهم بطفلتي التي أفخر بها (حياة)..
واجهت ضغوطاً كثيرة في تلك الفترة.. لكنها كانت مسألة تحدٍ.. وأنا قبلته..
بعد فترة.. لم أستطع أن ألتزم بما تتطلبه مني المهمة.. طلبت أن أكتفي بالتحرير فقط.. وكان لي ذلك..
كان بابي الأول..
أروقة الجامعة.. وأحببته وكنت أنقل فيه القصص والحكايا التي عايشتها وعايشتها زميلاتي ومن أعرفهن في الجامعة..
هذا سوى أبواب أخرى..
ثم.. بعد سنوات.. كان هذا الباب..
اعترافات فتاة..
استقيته من قصص صديقاتي وطالباتي.. ومن التقيتهن في بحر الحياة..
كان –ولا يزال- لدي الكثير من القصص التي أود أن أكتب عن أبطالها.. عن كل وخزة ألم عاشوها ولم يشعر بها الآخرون..
عن فتيات رائعات استطعن تحقيق نجاحات رائعة رغم ظروفهن المؤلمة..
عن فتيات يواجهن مشاكل وضغوط ورغم هذا لا زلن يعشن بيننا..
كنت أتمنى دائماً من خلال هذا الباب..
أن.. نشعر بما خلف الوجوه المبتسمة..
بما في تلك القطعة الحمراء التي تنبض بالحياة.. القلب.. من مشاعر وآلام وهموم..
ليتنا نتخيل ما يمكن أن يحتويه قلب كل إنسان قبل.. أن نحكم عليه..
لذا كانت (اعترافات).. لأنها حديث حول ما لا نراه.. حول ما يدور داخل حجرة القلب.. ويخرج اعترافاً.. بين السطور..
بطلات اعترافات فتيات درستهن بنفسي.. أو دربتهن.. أو صادقتهن.. أو راسلتهن..
هي قصص حقيقية تماماً.. وبطلاتها قد يكن حولكن.. في المدرسة..
الجامعة.. وربما البيت..
أحببت اعترافات.. لأني أحببت بطلاتها الرائعات فعلاً..
لكنها مشيئة الله.. أن كل شيء.. لا بد أن ينتهي..
سنة بعد سنة.. تزداد المهام..
وعملي في التدريب والتدريس يأخذ من وقتي وجهدي الكثير..
فقدت صديقات رائعات.. تركن أجمل الآثار على جدار ذكريات المجلة..
كانت عائشة الرائعة هنا.. ثم أرسلت (الفاكس الأخير) على صفحات المجلة..
هديل الندية.. مرّرت كموجة بحر هادئة.. دون ضوضاء..
فداء المثابرة كم أوحت لي بالصدق والجد.. لكنها غابت دون ضجيج أيضاً..
وجاء دوري اليوم..
لأضع أمامكم (الاعتراف الأخير) وأنسحب..
أعتذر.. لأني وصلت لمرحلة.. لا أعرف كيف أصفها..
لكني..
لم أعد قادرة على العطاء أكثر..
حالياً..
الظروف لا تساعدني في كل الجهات..
أجدني مضطرة للتوقف.. ووضع القلم..
والوداع..
أردت أن أعترف..
أني أحببتكم كثيراً..
أحببت كل من أرسل إلي.. وكل من دعمني في يوم من الأيام بكلمة أو عبارة..
وأعتذر من كل من لم أرد عليه دون قصد (لأني أحاول أن أرد على كل بريد يصلني قدر الإمكان)..
أشكرك أستاذة إيمان لصبرك.. وطيبتك.. ودعمك لي حين كنت على حافة الانهيار طوال السنوات الماضية.. تحملتني كثيراً.. أشكرك من كل قلبي..
أشكرك سارة.. كنت دائماً مصدر إلهام رائع.. روحك الساكنة تبعث في نفسي الطمأنينة دائماً..
أشكرك هند.. مرحك وحكمتك مزيج مميز جداً.. لك أثر في نفسي أكبر من أن تمحوه الأيام..
أشكرك نوير.. ليت القارئات يعلمن أن سواليفك في الحقيقة أروع من كتاباتك الرائعة بكثييييير.. أشكرك للوقت الرائع الذي قضيته معك.. أتمنى أن تكوني أقوى مني في الأشهر القادمة..!
أشكر كل من راسلني..
أحبكن كثيراً قارئاتي.. كنتن مصدر إلهام ودعم رائع لي..
📚 مجلة حياة العدد (٩٣) محرم ١٤٢٩ هـ
حتى لا تجف البئر
منذ أيام.. لم تعد جدتي تتحدث كثيراً كعادتها..
لا أعرف ما الذي حصل..
كل شيء طبيعي..
أعمامي يأتون لزيارتها بالتناوب..
وفي العصر نخرجها لتجلس معنا في الحوش.. نحتسي القهوة ونأكل بعض التمر أو الرطب..
لا مشاكل..
لا شي يكدر صفو حياتها..
لكنها فجأة.. دخلت في حالة سكون غريبة..
لم تعد تتحدث وتعيد قصصها القديمة كل يوم..
أصبحت تجلس صامتة معظم الوقت.. تقلب عينيها في فنجانها.. أو في الفراغ..
وتأخذ نفساً عميقاً وهي تذكر الله..
كنت دائماً مشغولة عنها..
بواجباتي.. اختباراتي.. مكالماتي مع صديقاتي.. النت.. ملابسي.. تماريني الرياضية..
كنت أشعر أن يومي مزدحم جداً.. ولا وقت لدي لكي أجلس معها وأسمع اسطواناتها القديمة المكررة..
كنت أكتفي بالسلام عليها كل صباح وهي تقلب مذياعها القديم الذي ثبت عمي مؤشره على إذاعة القرآن الكريم (حتى لا (تضيع) عنها وتنادينا عشرين مرة في اليوم لنعيده).. أمر لأقبل رأسها وأودعها وأنا ذاهبة للمدرسة..
أحياناً قليلة..
حين لا أكون نائمة عصراً.. أجلس معهم في الحوش.. أشرب بعض القهوة على عجل..
ثم أعود لغرفتي..
أحاديث جدتي كانت تشعرني بالدوار..
كلها محدودة لا تخرج عن أربع قصص: قصة ولادة بقرتهم المتعسرة.. وقصة مرضها الدائم في طفولتها وذهاب أهلها بها للمقبرة لطرد الشؤم عنها.. وقصة زواجها بجدي وهي صغيرة تلعب بالطين.. وهناك أيضاً قصة تعرض والدها لهجمة الذئاب في مزرعته..
حفظت هذه القصص الأربع بكل تفاصيلها الدقيقة.. حتى مللت..
وأصبحت أشعر بالغثيان كلما بدأت تسردها من جديد...
ياااااااا الله..!!
من يستطيع أن يجلس مع جدتي ويتحمل إعادة قصصها كل مرة؟! لا أتخيل!
حتى أعمامي حين يأتون لزيارتها.. يحاولون ألا يعيدوها إلى الماضي.. يشغلونها بسرعة في أحاديث الحاضر..
فلان قام بكذا.. فلان يريد كذا.. وفلانة أصبحت كذا..
وهكذا..
أصبحوا يعرفونها جيداً..
أي فرصة تتاح لها سوف تستغلها بسرعة وتعود بنا لقصصها القديمة..
كانت تحاول جاهدة أن تفتح سيرة الماضي.. وتتحدث..
لكن الجميع كان يحاول بسرعة أن يقطع الحديث ويغير مجراه حفاظاً على رؤوس الجميع من الصداع..!
بالنسبة لجدتي..
كنت أشعر في كل مرة.. أنها تعتقد أنها تروي القصة للمرة الأولى..
لم تكن تشعر ولا بجزء بسيييط من ذاكرتها.. أنها تقولها للمرة المائة وعشرين بعد الألف..!!
كانت تسعى للعودة لماضي.. تريد أن تحرك دوامة تفكيرها قليلاً..
لكننا لم نكن نسمح لها بذلك..
فبدأت تذبل شيئاً فشيئاً.. دون أن نشعر..
لا أعرف كيف اكتشفت ذلك..
حين جلست معها في غرفتها ذات يوم..
لم تكن تشعر بوجودي جيداً.. كانت مستلقية على سريرها.. وقد تدلت جدائلها الحمراء على الوسادة..
وكانت تنظر للسقف.. أو شيء لا أعرفه..
أحسست أنها تعاني من فراغ كبير لا نشعر به..
كانت صامتة على غير عادتها..
اقتربت منها.. وبدأت أمسد ساقها النحيلة.. وهي ساكتة تماماً..
تنهدت..
ثم سألتني..
- ما عندك اختبار؟
- لا..
- بتطلعين السوق الحين؟
- لا..
سكتت..
شعرت أنها لا تعرف ماذا تقول..
رحمتها كثيراً..
فالحديث مع جيل آخر صعب بالنسبة لها..
إنها مثل السمكة التي لا تجيد العيش إلا في الماء.. هي لا تستطيع الحديث إلا وتعود للماضي..
ونحن حرمناها من ذلك..
كانت تتنفس من خلال حديث الماضي..
تتذكر أحبابها.. عالمها.. روائحها.. الزمن الذي كانت فيه قوية.. محبوبة.. تتحرك بهمة.. تفكر.. ذلك هو عالمها الحقيقي..
أما الآن..
فماذا لديها؟
غرفة صغيرة.. أحفاد يتذمرون من الجلوس معها.. أو .. يتصنعون ويجاملون ذلك..
أبناء سئموا من أحاديثها المكررة.. مهما حاول الجميع برها.. والإحسان إليها..
في تلك اللحظة..
عرفت أنها تشعر أن الجميع (يتصنع) أن يسعدها..
هي كانت تريد ذلك الزمن البعييييد..
ونحن حرمناها منه.. بكل أنانية.. لا أحد يريد أن يسمعها.. لا أحد يترك لها الفرصة لذلك..
كانت بحاجة لمن يغرف من منهل خبراتها القديمة.. ومن يسمع قصصها.. ممن لم يعش ذلك الزمن..
كانت مثل البئر..
إذا لم يشرب منه أحد.. فإنه ينضب..
لكننا رفضنا أن نشرب منه.. وتركنا مياهه تأسن.. وتجف..
- (يمه.. سولفي لي عن بيتكم أول..)
نظرت إلي بشيء من الاستغراب.. والحماس..
شعرت بعينيها تضيئان..
وبدأت تحكي وتحكي.. حتى وصلت لقصة البقرة.. التي سمعتها ألف مرة قبل ذلك..
حاولت أن أبدو كمستمعة جيدة.. وأن أهمهم بتأثر بالغ وأبتسم عند الحاجة..
وهي فرحة.. وتصف التفاصيل بحماس.. حتى النهاية..
حين خرجت من غرفتها.. كانت نظراتها مختلفة.. ووجها الشاحب قد عادت له ألوان الحياة..
نظرت إلى ساعتي..
نصف ساعة فقط!
ما يضرني لو أني قضيت كل يوم نصف ساعة.. أستمع لقصصها القديمة..
حتى لا تجف البئر؟
📚 مجلة حياة العدد (٧٩) ذو القعدة ١٤٢٧ هـ
هنا فقط.. ذاب الجليد
- ياربييييي.. متى يجي العيد ونحصل لنا كم عيدية.. ودي أشتري أشياء لغرفتي.. أزينها..
- ليش يعني أهلك ما يشترون لك؟
- أقول بس.. وش يشترون لي؟ كثر الله خيرهم.. أبوي ما قصر وغير أثاث غرفتي يا عمري وحط لها موكيت.. لازم أنا أجمع لي شوية فلوس وأزين غرفتي..
- مني فاهمة؟! إذا كانوا شروا لك.. ليش ما يكملون معروفهم..
- صعبة يا بدور أقول لأبوي اشتر لي تحفة أو شموع أو مزهرية أو خرابيط.. ودي أنا أشتري على راحتي.. أبوي على قد حاله الحمد لله لكن صعب أكلف عليه..
مططت شفتي على مضض..
لم أكن أفهم طريقة تفكير صديقتي.. ولا أسلوب حياتها..
الحقيقة أني لم أفهم أسلوب حياة الكثيرات ممن حولي..
لا أعرف إن كنت أنا الغريبة أو هن؟
* * *
منذ أن بلغت التاسعة ووالدي يسيّر لي نفقة شهرية..
كنت أستلم شهرياً ألف ريال كمصروف جيب لي وحدي.. وأنا طفلة..
كما أن أمي تعمل كمديرة مدرسة.. وهي فوق ذلك تمنحني كل ما أريد وأطلب.. بل إنها منحتني نسخة من بطاقة الصراف الخاصة بها منذ أن وصلت المرحلة المتوسطة..
كان لي دوماً مالي الخاص..
وحساب توفيري الخاص أيضاً منذ صغري..
كل ما أريده كنت أستطيع الحصول عليه تقريباً..
لكن..
كان هناك شيء ما أفتقده..
* * *
- بدوووور.. عطينا حلويات.. بس شوي.. الله يخلييييييييييييك..
كان أبناء أقاربي يركضون خلفي وأنا ألتفت.. ثم أنثر بعضها في الهواء في ساحة منزلنا الفخم.. ليلتقطوها كالدجاج من على الأرض..
كنت قائدة الأطفال بحلوياتي.. وكنت أستخدمها لإهانة البعض – بعدم إعطائي إياهم.. أو لتطويع البعض للانقياد لي..
وكنت أكافئ بعض الصديقات المطيعات جداً.. بدعوتهن إلى بيتنا.. الغريييب بالنسبة لهن..
أريهن عرائسي و(دباديبي) المصففة بترتيب على رف قرب سريري..
وأخرج لهن علب مكياج الأطفال الخاصة بي..
وأفتح لهن أدراجي المليئة باللعب المنوعة..
وأطلعهن على قصصي الملونة الجميلة في رفوف مكتبتي..
كما كنا نلعب في كمبيوتر الأطفال الخاص بي..
كانت غرفتي عالماً سحرياً جميلاً لهن..
لكن..
حين كنت أسمع صوت والديّ وهما يتشاجران يعلو في البيت.. كنت أرتعش خوفاً وحرجاً من صديقاتي.. فأسرع بإخراجهن إلى (الحوش) مع إعطائهن شيئاً من الحلوى كي لا يخبرن أحداً بما سمعن..
كبرت ولي شخصيتي المستقلة.. ودخلي الخاص..
ولكن حدثت نقطة التحول في حياتي.. حين أصبحت في الصف الثاني الثانوي.. فقد شاء الله أن يتوفى والدي..
لم تكن علاقتي به قوية.. لكني افتقدته..
افتقدت.. شيئاً لا أعرف كنهه.. شيء يشبه القوة التي تسندك..
ربما.. آلمني شعور اليتم دون أن أعرف..
ولم أكن أعرف ماذا ينتظرني بعد ذلك..
* * *
تمر أوراق كثيرة في حياتي.. تتطاير..
سمر بنت خالتي خطبت.. فرح بها الجميع.. كانت صغيرة.. لا تزال في الثانوية..
خطبها قريب لنا..
لا أعرف لم اختارها هي بالذات؟
فتاة عادية في كل شيء.. لا ذكاء مبهر.. ولا جمال ملفت..
ربما شيء من هدوء وما يسمونه (ثقل).. أففف هل يعتبرون هذه ميزة..؟!
مرت الورقة. وطارت بعيداً مع رياح الخريف..
* * *
دخلت الجامعة..
وذات صباح.. استيقظت وقد أكملت ثمانية عشر عاماً..
كان شيئاً غريباً.. يمكن أن يمر على أي فتاة بشكل عادي.. لكن بالنسبة لي كان الأمر مختلفاً..
كان يعني انتقال التصرف في إرثي إلي شخصياً..
لم يكن هناك الكثير ممن ينازعني بالإرث.. زوجة أبي لم تنجب.. ووالدي ليس له سوى أخت واحدة مسنة..
تنازلت عن نصيبها.. ولم ترغب سوى بشقة من العمارة التي في مكة..
كل شيء.. آل لي..
اجراءات كثيرة ومعقدة.. دخلت المحكمة عدة مرات.. والبنك مرات عديدة..
آثرت بيع الشركة.. بمشورة خالي وأمي.. على أن أحتفظ فقط بنسبة من أسهمها تدر علينا ربحاً سنوياً..
بقيت أيضاً مجموعة من العمائر في مكة وجدة.. أيضاً آثرت إيجار العمائر بأكملها.. ليصلني ريعها سنوياً..
* * *
لم أكن أريد أن أكون مهمة..
لكن الأهمية هي من طاردتني..
حين أجلس مع صديقاتي.. يرن جوالي فجأة..
- مدام بدور.. ممكن رقم الحساب بسرعة..
- مدام بدور.. العمارة معروضة للشراء بسعر مرتفع جداً.. هل ترغبين؟
- مدام بدور.. هل تريدين إجراء الحوالة للبنك الفلاني أم الفلاني؟
كنت أشعر بالحرج أمام صديقاتي..
أتمنى.. أتمنى.. أن أكون بسيطة بينهن.. لكني عبثاً لم أستطع..
أسمعهن يتحدثن عن مواسم التخفيضات.. أفضل الأسعار.. يتحرين وقت نزول المكافآت..
وأنا.. لم أكن أجد رابطاً.. لأتكلم معهن في هذه المواضيع التي لا تهمني أبداً!
كنت أتمنى أن أتصنع ذلك.. لكني لا أعرف كيف أكذب!
كنت أسمع البعض يتهامسن..
- ما شاء الله تصدقين أن شركة العقار المعروفة كانت لوالدها وقد ورثتها عنه؟
- معقولة؟
- يوووه وأكثر! هذي اللي تشوفينها بدور بنت (..).. كل أملاك أبوها صارت لها.. عندها عماير وشركات!!
- يا مامااا!.. لو كنت مكانها وشوله أجي الجامعة.. كان أنام في بيتي أصرف لي وأمشي لي راتب وبس..! ..
- هههههه
* * *
حتى حين ألبس ساعة فخمة.. كنت أشعر بالألم من نظرات صديقاتي.. المنبهرة بصمت.. أو المنكسرة بصمتٍ أيضاً..
- شفتي ساعتها! روليكس بميتين ألف!!!
حقاً لا أعرف ماذا أفعل.. إن لبست.. لم أرض الناس..
وإن لم ألبس.. لم أرضهم أيضاً..
تباً لهم.. مهما فعلت.. لن يحبوني..
شعور بالوحدة يكتنفني أينما أذهب..
حولي زميلات.. لا أستطيع تسميتهن صديقات..
لا أحبهن... لكني لا أجد غيرهن..
يتملقن كثيراً.. يمدحن ويثنين..
يردن أن يوصفن بأنهن (يماشين) بدور بنت المليونير.. أو المليونيرة..
أعرف ذلك جيداً.. ولا أحبهن..
لكني لا أجد غيرهن..
أجدني مجبرة على ارتداء النظارة السوداء هرباً من كل شيء..
منذ سنتين لم أعد أستطيع الاستغناء عنها.. تشعرني بشيء من الراحة حين أجلس وحدي..
أصبحت أحب الوحدة.. الغربة.. بعيداً عن الأعين المتطفلة.. أو الحاقدة..
أعيش في قالب من جليد..
كم يضايقني هذا المال.. يخنقني.. يعصرني في بوتقة خانقة..
يضع حواجز سميكة من جليد بيني وبين الآخرين..
حتى المحبين الطيبين.. يتجنبوني.. وكأني ملطخة بالإثم..
ربما يستحون مني.. ربما يعتقدون أني أشتري الناس؟
* * *
تخرجت من الجامعة..
وتطايرت كثير من الأوراق..
جلست بملل في البيت.. أرد على الاتصالات هنا وهناك..
مللت كثيراً.. وضاقت بي الدنيا..
حاولت أن أجد عملاً.. ولو في مدرسة أهلية..
الكل صعق!
ماذا تريد هذه؟!!
المال لديها..
لكن.. أنا لا أريد المال.. أريد.. لا أعرف..
شجعتني أمي لما رأته من حالتي النفسية.. ووحدتي..
عملت..
لم أتحمل التعب والأوامر الكثيرة في بداية الأمر.. تنقلت من مدرسة لأخرى.. تعبت..
شخصيتي لا تتناسب مع هذه الأعمال.. لكن ماذا أفعل..
* * *
تزوجت إلهام ابنة خالي التي تصغرني بسنوات..
وكذلك ابنة عمتي الصغرى..
تزوجا في صيف واحد..
ورأيت أمي تنظر إلي في الزواج بألم..
لم يكن أحد يتقدم لخطبتي أصلاً.. الكل كان يخشى الاقتراب منا..
بدور بنت فلان؟.. كم ستطلب مهراً؟
لم يكونوا يعرفون أني لست بحاجة لمهر ولا لذهب.. ولا أي شيء.. كل شيء كان لدي..
كنت أريد فقط.. شيئاً.. لا أعرفه..
* * *
ذات عام.. أو نهار – لا أعرف متى وصلت إليه..
كنت في الساحة حيث كانت نوبة المراقبة الخاصة بي.. الطالبات يتمشين هنا وهناك ويتناولن فطورهن.. وألمح بعض بنات الثانوي يشرن إلى بلوزتي الغريبة اللي اشتريتها من رحلتي الأخيرة لأوربا..
تعودت على تهامسهن وإشاراتهن لتفاصيل مظهري..
كنت أسير بضجر..
حين وجدتني أقترب من مصلى المدرسة.. تلك الغرفة الصغيرة في الساحة..
ماذا قد يوجد هناك..؟
أعمل هنا منذ سنة.. ولم أعرف يوماً ماذا يحدث هناك؟
اقتربت.. كان هناك صوت رقيق جميل..
معقول؟ طالبة تلقي كلمة..؟
أطللت برأسي..
رأيتها.. (مرام) تلك الطالبة النحيلة المؤدبة.. كانت تجلس في منتصف الحلقة وتتحدث عن فضل تدارس القرآن الكريم وفضل حلقات الذكر..
لم يكن حولها سوى خمس أو ست طالبات.. لكن.. كنت أشعر بأن هناك من يجلس معهن!..
كان المجلس عامراً بشيء.. لم أعرفه.. شيء رائع وعظيم..
أهو الحب؟ أهو الراحة والطمأنينة؟ أهي البساطة؟ لا أعرف.. لم أكن أعرف كيف أصف..
ثم بدأن يسمعن نصابهن من الحفظ.. بأصوات جميلة.. واحدة تلو الأخرى.. يا الله.. ما أجملهن.. ما أسعدهن..!
شعرت بمن يربت على كتفي..!
التفت..
كانت عفاف.. معلمة التاريخ ومشرفة المصلى..
- شاركينا يا أبلة بدور.. تفضلي..
- ماذا؟!
شعرت بالخجل وأنا بنظارتي السوداء.. وكعبي العال أن أدخل..
تعودت على وضع حواجز بيني وبين الآخرين.. كيف.. آآ..
لكني لم أقاوم الدعوة.. شيء كان يجذبني..
رفعت النظارة.. وخلعت الكعب.. ودخلت خلفها..
كنت أسير بخجل... وكأني طفلة صغيرة..
جلست بين طالباتي..
فأخذت المعلمة عفاف.. تتحدث مرة أخرى عن أهمية وفضل مجالس الذكر وتثني على الطالبات لعزمهن ولهمتهن العالية.. وأنهن استقطعن هذا الوقت الثمين المريح لهن لطاعة الرحمن..
كنت منسجمة.. ومتأثرة جداً..
شعرت بشيء بارد جامد في داخلي وحولي.. يذوب بدفء.. ويغسل روحي.. بنقاء..
أطلت عدة طالبات من الباب.. وتهامسن..
- أبلة بدور هنا!.. تعالوا شوفوا!!
ودخلت واحدة ثم أخرى..
وبعد قليل كان هناك أكثر من عشرين طالبة تستمع لكلمة مؤثرة ألقتها أستاذة عفاف لتشجع الطالبات على حضور دروس وحلقات المصلى وتذكرهن بنعيم الآخرة..
يا الله.. ما أجمل هذا الشعور بالسكينة..
هذا ما كنت أفتقده منذ سنوات.. رغم كل ما لدي..
أن أكون.. أنا.. الأمة الفقيرة إلى الله.. لا بدور (المليونيرة)!
أردت أن ألتصق بجدران المصلى.. أن أقبلها واحداً واحداً..
أن أقبل أرض المصلى..
أن أحضن طالباتي الرائعات..
أخيراً.. خلعت ردائي.. ووجدت ما أفتقده..
📚 مجلة حياة العدد (٨٠) ذو الحجة ١٤٢٧ هـ
مولودي.. ليس لي
بهدوء.. فتحت درجي..
سحبت صندوقي الغالي.. وضعته في حضني..
فتحته وبدأت أخرج دفتر خواطري.. وأوراقي المتناثرة..
قصائد..
خواطر.. شعر حر..
قرأت.. وقرأت..
هذه كانت في المرحلة المتوسطة..
وهذه في الصف الأول الثانوي..
هذه كتبتها.. أيام الاختبارات النهائية حين كنت في سنة ثالث..
وهذه وأنا على أعتاب الجامعة..
هذه خواطري حين كنت أختار التخصص ووقعت في حيرة..
وهذه قصيدتي حين فقدت صديقتي بسبب سفرها لمدينة أخرى..
وهذه حين سمعت بوفاة معلمتي الغالية رحمها الله..
كنت أسحب الأوراق واحدة بعد الأخرى.. أقرأها.. فتنساب دموعي..
كانت قصائدي تلك بمثابة البنات لي.. خرجن من صلب قلبي..
أقفلت عليهن طويلاً هنا..
وها هن يعدن للحياة بشكل مثير..
لكن..
لم يكن هذا سبب بكائي..
* * *
- أريد أن أكتب باسم مستعار..
- بلا خرابيط.. تدرين أني ما تعجبني هالحركات!
- أي حركات يا عبد الله.. هذي أدب.. أدب راقي ومحترم.. وفي مجلة محترمة.. وعلشانك بس راح أكتبها باسم مستعار.. وش يضرك طيب؟
- بس!.. أنا ما أحترم اللي نسوي هالحركات..
- رجعنا على سالفة (الحركات).. أقول لك كتابة أدبية.. تقول (حركات)..؟!
صرخ بقوة.. وهو يرمي الجريدة على الأرض ويقف..
- إيه حركااااااااات ونص.. شعر ومياعة وكلام فاضي.. قلت لا.. يعني لا!!
وأسرع يخرج ضجراً من الصالة.. وقبل أن يخرج.. عاد وهو ينظر إلي بحدة ويشير بسبابته..
- والله وبالله.. لو دريت أنك مرسلة لأي مجلة أو جريدة لا تلومين إلا نفسك!
كانت رغد الصغيرة تطل من باب غرفتها بخوف.. وحين خرج.. همست بخوف من بعيد..
- مامااااااااااا.. ليش بابا معصب؟!
- تعالي حبيبتي.. ما فيه شي..
* * *
أغمضت عيني..
وابتعدت عن الواقع.. سافرت لشاطئ بعييييد..
نظرت لأوراقي.. لخطي الجميل.. وللرسومات التي رسمتها بدقة مع كل خاطرة..
بحار وشواطئ جرداء.. وموانئ.. وسفن مسافرة نحو المجهول..
تنفست بقوة..
شعرت أني أقدم على عمل قاس جداً لكن لابد منه..
أمسكتها بقوة.. وقفت أمام نار صغيرة أشعلتها في الحديقة..
عدت بذاكرتي لمرحلتي المتوسطة.. حين كنت أحلم أن أكون كاتبة كبيرة..
ثم للمرحلة الثانوية حين أصبحت أحلامي أكثر واقعية..
حلمت أن يكون لي باب أو عمود في مطبوعة..
وفي الجامعة.. أصبحت أحلم فقط أن تنشر لي مشاركة واحدة..
لكنه اشترى أحلامي بلا ثمن..
وباعها بلا مقابل..
لتمت الآن فهذا أرحم من أن تبقى حبيسة الأدراج سنوات طويلة..
وقفت رغودة قربي وهي تنظر إلي باستغراب..
- ماما ماذا ستحرقين؟
- أحلامي.. يا صغيرتي..
- ماما لا تحرقينها.. حلوة فيها رسمات حلوة.. مساكين الطيور لا تحرقينهم..
نظرت إلى صورة طائر يحلق بعيداً فوق البحر.. رحمته..
فكرت قليلاً.. ضممت رغودة وابتعدت..
* * *
- سعاد.. أسلوبك رائع جداً..
أنت لست مجرد هاوية مبتدئة..
أعني.. أسلوبك.. مميز جداً.. أنت تنافسين كبار الشعراء.. لماذا لا تنشرين إنتاجك؟ حرام أن يبقى حبيس الأدراج والدفاتر!
- دكتورة عفاف.. أنت تبالغين.. ليس لهذه الدرجة..
- بل وأكثر.. صدقيني.. يجب ويجب أن تنشري إنتاجك.. أنت مبدعة وأسلوبك مؤثر لدرجة كبيرة.. مجموعة قصائدك هذه لو نشرت في ديوان فسيكون ناجحاً جداً.. تفتقد في الساحة الأدبية لدواوين شعرية بهذه اللغة القوية المبهرة..
ابتسمت بألم وخفضت رأسي..
- لا أستطيع..
- لماذا؟
- لا تعرفين يا دكتورة.. هذه الدواوين ليست ملكي..
- لماذا ألست أنت من كتبها؟
- أنا من كتبها.. لكنها ليست ملكي للأسف.. وليس قراري أن أنشرها أم لا.. زوجي.. يرفض فكرة النشر نهائياً..
- أمر مؤسف.. لكن ماذا عن فكرة النشر باسم مستعار..
- يرفضه أيضاً.. لا أمل..
أخفضت رأسي وأنا أقاوم دموعاً ثقيلة كيلا تسقط..
- على هذه القصائد أن ترضى أن تبقى حبيسة الأدراج طيلة العمر.. إنه حكم مؤبد!
أطرقت الدكتورة قليلاً ثم انتفضت فجأة..
- لدي فكرة.. أعطني القصائد وسأتولى نشرها لك بنفسي.. باسم مستعار.. أعرف ناشراً جيداً.. وسأتولى النواحي الإدارية.. فقط اختاري اسماً وأنا سأتولى الباقي.. لن يعلم زوجك بهذا الأمر..
شعرت بحيرة.. وقررت أن أعطي الأمر فسحة من أمل..
* * *
بعد أشهر طويلة..
ناولتني النسخة الأولى من الديوان..
أمسكته بحذر بين يدي كمولود صغير.. كانت يداي ترتجفان.. تأملته بشغف والدموع تترقرق في عيني..
ما أجمله..
تصفحته.. إنها قصائدي.. ظهرت للحياة أخيراً..
أطلق سراحها من قفصها.. وها هي تحلق نحو الأفق البعيد..
يا له من شعور.. هزني من الأعماق..
شعرت بالفخر بقصائدي الصغيرة.. لقد استطاعت أن تفعلها..
أغلقت الديوان لأتأمل الغلاف..
هناك.. لم أكن أنا..
كان إسم انسانة أخرى..
انسانة مجهولة.. لا حياة لها على أرض الواقع..
شعرت بالألم الذي لم أتصوره..
مولودي البكر الصغير.. يؤخذ مني.. وينسب لغيري.. وأنا أرى كل ذلك بأم عيني!
ضممته بقوة..
هنا بين دفتي هذا الكتاب.. كانت دموعي.. أحلامي.. وآمالي.. ومشاعري..
هنا.. نبض قلبي.. ودفق دمي..
ضممته بقوة.. وأخذت أبكي..
على مولودي الذي ليس من حقي أن أفرح به.. ولا أخبر أحداً عنه..
مولودي الذي سرق مني.. قبل أن يولد..
📚 مجلة حياة العدد (٨١) محرم ١٤٢٨ هـ
◽️◽️
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
📥
سلسلة { اعترافات فتاة } (١/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٢/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٣/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٤/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٥/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٦/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٧/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٨/٩)
سلسلة { اعترافات فتاة } (٩/٩)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق