كلا !!
نهر الحياة يجري بالإنسان، يجرفه يميناً مرة، وشمالاً مرة أخرى. وفي الطريق يصطدم ببعض من يجرفهم النهر معه. يحتك بحافات النهر، تعلق به بعض (الطحالب) التي يبدو التقزز على وجهه، وهو يبعدها عنه.. ربما شعر بتعب من كثرة التجديف، ساعداه أنهكا، وأنفاسه بدأت تتسارع، ووجيف قلبه بدأ يسمع.
هناك تهب عاصفة صراع عنيفة داخله: هل يستسلم؟
هل يترك للماء بـ(عوالقه) أن يدخل جوفه بحرية؟
هل يلقي بالمجاديف، وينتظر رحمة المياه؟
هل يسمح لذرات اليأس أن تتسرب إلى نفسه؟
يسترجع – بصعوبة – مكامن القوة لديه التي كادت تبهت، تبدو بالوضوح أكثر مع كل محاولة تَذَكُّر، ويبدو تأثيرها في نفسه أعمق.. يتساءل- بإيجابية- مسترجعاً: ليست هذه أول مرة أسبح في نهر الحياة.. ولست أنا أول من يسبح.. هناك أناس صارعوا بقوة، ولم يرضخوا لتهديدات اليأس، التي تلاحقهم. لِمَ لا أكون مثلهم؟!
هنا يصرخ – بكل قوته- : كلا .. لن أنهزم.. إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الضالون!!
وهنا يبدأ (تدفق) شلالات الشجاعة.. التي تردم (عوالق) التراجع، وتغسل آثار (البثور) التي خلفتها، وتحقن النفس بطاقة عجيبة!!
كم أقف مبهوراً أمام موقف خديجة – رضي الله عنها-. جاءها المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في بداية لقائه بجبريل، يرجف فؤاده، وهو يقول: (زملوني.. زملوني).
لم تكتف خديجة بعد (التزميل)، بكلمات الترحم والتعاطف، التي لا تعدو ترطيب النفس.. وإنما وقفت – بقوة-، لتمنع تدفق مشاعر الخوف، ولكن بطريقة رائعة، تتمثل بالتذكير بمكامن القوة الإيجابية: ( كَلاَّ وَاللَّه مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبْ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقَّ ).
ولكنها تبدأ (حركة) مشروع ذلك الإيقاف بـ(كلا) الجازمة الشامخة!!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٧٨) شوال ١٤٢٧ هـ
امسحي نظارتك .. !!
ذات يوم كنت مسافراً، وكان الجو يبدو قاتماً.. وكنت أحاول فتح عيني بأوسع دائرتيهما، لأحظى بأكبر قدر من الرؤية، انعكس الأمر على وضعي النفسي، فشعرت بضيق شديد.. اضطررت – أخيراً – إلى أن أوقف على جانب الطريق انتظاراً إلى أن يستعيد الجو (عافيته)، لأواصل مسيري.
خلعت نظارتي لأريح عيني أثناء التوقف.. أطلقت ضحكة طويلة، أزالت كدر النفس (المتراكم) من (قتامة) الجو.. كانت مفاجأتي أن (الكدر) ليس في الجو، ولكنه في نظارتي!!.. فما إن مسحت نظارتي، حتى كان الطريق (مغرياً) لي بمواصلة السير.
تذكرت – وقتها – كيف أن كثيرين ينظرون إلى بعض الأمور، أو بعض الأشخاص نظرات (معلبة)، لكنها ليس لها مدة (صلاحية) محددة.. فيظلون يهابون الإقدام على تلك الأمور، نتيجة لنظرات (تكونت) عنها – في نفوسهم – عبر الزمن، وسط ظروف وأجواء معينة. ولو أن هؤلاء تخلو عن نظراتهم لحظة، واقتحموا تلك الأمور لأدركوا وقتها أن (العيب) ليس في تلك الأمور، ولكنه في (نظارات) نفوسهم!.. فهم لو (نظفوها) وأقدموا، لاتضحت لهم تلك الأمور على حقيقتها.
وهناك آخرون (تتشكل) نظرتهم إلى بعض من حولهم؛ من أهل أو أصدقاء أو زملاء أو جيران، وسط أجواء نفسية، قد يكون (لوّنها) موقف ما، جرى (تفسيره) بطريقة سلبية، أو حتى (تكرر) سماع أحكام من أشخاص (مأسورين) بموقف.. فيمثل لهم ذلك (نظارة) قاتمة يرون بها ذلك الشخص، أو أولئك الأشخاص.. ولو أنهم (نظفوا) نظارة نفوسهم، من (غبار) تلك التصورات والاعتقادات، فسيكتشفون أنهم مختلفون – جداً – عن تلك النظرة (السلبية)، التي حبستهم فيها تلك (النظارة)!
أليس من الأجمل أن نعتاد (مسح) نظاراتنا باستمرار، حتى لا يشكل الغبار – مهما كانت خفته – طبقة قد تغير لون النظارة (الأصلي) الشفاف؟!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٩٠) شوال ١٤٢٨ هـ
دفتري القديم
فتاة في العشرين، كانت تشكو لي الضيق من أهلها، الذي تزداد دائرة ضغطه مع كونها القائمة على أعمال البيت.. مشكلات والديها على أشدها.. والدها عصبي، وحين تهب رياح عصبيته يكاد رعد تلك العصبية يصم الآذان، ويكاد سيلها يهدم كل ما أمامه. وحين ذاك تشفق على والدتها، التي تقف في وجه الطوفان.
يبدو أن والدتها، بتآزر هذه الإشكالات، مع أعباء الأطفال، انشغلت بنفسها فأصبحت بعيدة عن ابنتها، مما زاد غربة البنت في بيتها!.. إذ صارت لا تسمع إلا الجانب الخشن من الأصوات؛ هدير عصبية الوالد، أو أنين عتاب الوالدة.
تقول: بأنها تحتاج –بقوة- إلى من تتحدث معه، من يسليها، ينفس عنها، يسمع منها، يصغي إليها.. وأن حبل الصمت يلتف على عنقها، ويحاول خنقها.
تأملت أكثر –في حديث البنت- فاكتشفت أن مستواها الثقافي رائع، ولديها مواهب أدبية، وتمتلك أسلوباً تصويرياً أخاذاً.. مشكلتها أنها ترى أن مستوى أمها الثقافي والفكري لا يمكن معه سباحتهما في بركة (همًّ) واحدة، بل ربما رأت الأم –بعفويتها، وبسبب الأجواء النفسية التي تلفها – أن مواهب البنت تلك (خرابيط).. تضيع بها البنت وقتها، لتنشغل عن (أعمال) البيت المهمة!!
هنا ذكرتني مشكلة تلك الفتاة بما كنت أصنعه وقت الطفولة.. حيث كان يعجبني أن يكون قريباً مني دفتر صغير، وقد زاد ارتباطي به أكثر كثرة (شخبطتي) باعتباري أملك موهبة الخط، وأحب كثرة الألوان.. فكنت أصطحب دفتري، في بعض السفريات والمناسبات، لأودعه (كوكتيلاً) من الكلمات.. فمرة يخطر لي أني شاعر، فأصارع بحور الشعر، لأظفر منها ولو ببيتين، وقد يكون ذانك البيتان هجاء طريفاً، لشخص آذاني، وأكثر الأحيان يكون النثر أسلس قياداً، فمرة أسجل وصفاً للطريق، أو تصويراً لحادثة، أو تسجيلاً لمشاعري في إحدى اللحظات.
وحين يمر قطار الزمن ثم أرجع إلى دفتري، الذي يبدو وقتها كما لو كان قد كتبه أحد غيري، إذ يكون بركان العواطف الغاضبة قد ركد، والأمور تغيرت.. فينطلق من شفتي –أثناء قراءتي- (سيل) ابتسامات، قد تتحول إلى ضحكة لم أستطع السيطرة عليها، فتلفت نظر من حولي، ويبدون تعجبهم، وقد يحمدون الله على العافية (!!)، خاصة وهم لا يرون شيئاً حولي يثير الضحك.
ثم هو مع مرور الزمن يكشف لي عن (التحولات) التي طالت أسلوبي، ويمثل مذكرات (جميلة) من حياتي، ما كانت ربما لتبقى لولا التدوين، ثم إن الانفعال الداخلي بالموقف، يجعل تصويره مختلفاً (جداً) عن تصويره في الحالات (العادية).. ولذا فإنه –أثناء التسجيل- (يمتص) انفعالات الشخص، بصورة رائعة، ولذا غالباً تنطلق على صاحبه شحنة طاقة غير عادية، تدفعه للإسراع في التسجيل خوف النسيان... وحين ينتهي، يتنفس نفساً طويلاً كأنه يتأكد من خلاله أنه لم يبق شيء من (أشلاء) الانفعالات!
كنت أجهد أن أقنع الفتاة بالتجربة، ولكنها كانت تستبعد أن يستوعب الدفتر (كوم) المشكلات، التي تكاد تدفنها.. قلت لها فلتجربي!!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٩١) ذو القعدة ١٤٢٨ هـ
القدر الصغير
بعض الفتيات قد يعانين من مشكلات؛ سواء مع أحد أفراد البيت، أو مع إحدى الزميلات.
وقد يكون لديها سلوك سلبي – كالعصبية أو الحساسية مثلاً -، وهي تعترف بذلك، ولكنها تصرّ على أنها غير قادرة على (التغيير)، وأنه يفترض في الآخرين أن يراعوا ظروفها!
ولاشك في أن مواقفها (المزعجة) حينئذ ستجعل الأخريات (يتهربن) من لقائها، ويفررن من الاجتماع بها .. وحتى أهلها ربما دفعهم سلوكها (المزعج)، وانتظارها منهم المراعاة، إلى (تقصير) حبل الحوار، وتقليص رقعة الاجتماعات .. لتشعر – بعد مدة – بنوع من الوحدة، ومن ثم فإنها في الأخير قد تشنّ حملة على (الجميع)؛ فهم أنانيون، وغير مخلصين .. وحتى أهلها لن يسلموا من (سهام) نقدها الجارح .. فهم يفضلون أخواتها – بزعمها – عليها. وتضيق صدورهم عند الجلوس معها.
وهكذا تعيش (المسكينة) الأزمة مرتين .. ولكن ذلك (كله) لا يوقظها إلى مراجعة ذاتها، ومحاولة (تعديل) بوصلة سلوكها. وما أشبه وضعها بقصة رجل مرّ على رجل آخر يصطاد السمك، على شاطئ البحر .. لكن لفت نظره أمر غريب؛ فالرجل الصياد كان حين تخرج سنارته سمكة (كبيرة) يرميها في البحر من جديد، وحين تخرج سنارته سمكة (صغيرة) يضعها في سلته .. وأقبل عليه – بدهشة – وسأله عن (سرّ) عمله ذاك ... فقال الرجل: إن روحي تكاد تخرج، مع كل سمكة (كبيرة) أرميها في البحر .. لكن ماذا أعمل، فقدري لا يتسع إلا للسمك الصغار!!
وما أجمل قول الشاعر:
دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ
............ وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٨٢) صفر ١٤٢٨ هـ
دون فواتير
إحدى الكلمات التي أحبها بشغف كلمة (ابتسمَ)؛ لأني حين أقرؤها يرتسم في ذهني –مباشرة- صورة صاحبها، الذي يقبلك دون حواجز، فكيف حين يكون صاحبها أمامك حقيقة؟!
إن الابتسامة تلغي المسافات، فربما رأيت إنساناً لأول مرة، لكنه استطاع –بابتسامته- أن يجعلك تشك في أنك تعرفه منذ زمن طويل.. بل إن ابتسامته تلك (أغرتك) بمدّ حبل الحديث معه بصورة عفوية، وربما حين لا تنتبه دفعك –بابتساماته المتتالية- إلى (انطلاقك) في الحديث، دونما (فوترة) فنكلمت معه بما تتحفظ في الكلام فيه إلا مع خواصك!
في مقابل ذلك فإن صديقك المقرب حين يلقاك بوجه عابس، فإن جسمك كله يستفز، لتبدأ رحلة الأفكار (السلبية)، والظنون (السيئة).. وربما اكتشفت –فيما بعد- أنه كان حين لقيك (متعباً)، وأن سحابة العبوس تلك كانت تظلله لذلك السبب!!
وإذا كانت الابتسامة تفتح (أبواب) النفوس لصاحبها بهذه الصورة (العجيبة)، فإنها لا تنسى صاحبها من (الخير).. إذ تشيع في نفسه أجواء (واسعة) من الرضا والراحة، تغريه بالمضي أكثر في طريق الابتسام حتى ربما تحولت الابتسامة لديه إلى (عادة)، تصحبه حتى حين يقابل المواقف الصعبة.. وحينذاك تمنحه هدوءاً يستطيع معه أن يكون تفكيره يسير بانسيابية ودون ارتباك، فيعبر (جسر) المشكلة بثقة وإيجابية وهدوء.
حين ندرك ذلك لا أظن أننا نعجب أن تكون الابتسامة في وجوه الآخرين صدقة.. كما ورد في الحديث النبوي الشريف وندرك لم قال جرير بن عبد الله –رضي الله عنه- ( مَا حَجَبَنِي النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي )!!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٨٨) شعبان ١٤٢٨ هـ
غيووووور
الغيرة قد تكون (الوجه) الثاني لعدم الثقة بالنفس، ولذا فحين ترى الفتاة، غير الواثقة من نفسها، فتاة أخرى تتصور أنها (أجمل) منها، قد يثور عندها (بركان) الغيرة.. وعند التأمل قد نجد أن الفرق (ضئيل) بين الفتاتين، أو على الأقل إن كانت تلك الفتاة أجمل (وجهاً) فهذه أطول (قامة)، وأكثر صحة.. لكن لأن البنت الأولى تعاني من (فيروس) عدم الثقة بالنفس، فهي تركز في نظرتها على ما (ينقصها)، وليس على ما (تتميّز) به.
إن هناك نتائج نفسية (خطيرة)، تلحق بنا، حين نرخي (زمام) الغيرة.
فالفتاة قد تغار من فلانة لأنها شعرت أنها (أجمل) منها وجهاً، ومن فلانة لأنها رأت فيها (جرأة) لم تستطع الوصول إلى مستواها فيها، ومن فلانة لأن صورة (موديل) ثوبها أدهشتها.. وهكذا. إنها كلّ يوم يمرّ عليها، وتغار فيه (يتعمق) لديها عدم الثقة بالنفس، فهي –لا شعورياً- (تتجاهل) مميزاتها الشخصية لتبحث عما تتميز به الأخريات وترى أنها تفتقده.. ومع مرور الوقت (تهتز) ثقتها حتى فيما تملكه من إمكانات وملكات.. فربما رجعت (لاحتقار) نفسها، وهذا سينعكس عليها (تراجعاً) على المستوى الاجتماعي.
إن الفتاة (الغيور) قد تحاول –جاهدة- لإبراز نفسها كمنافسة، وقد تحرص على إبداء (اللامبالاة).. لكن (فيروس) عدم الثقة، الذي ساهم بوجوده وتضخمه داخلها، شعورها بـ(الضعف)، أمام رؤيتها (قوة) الأخريات، ذلك الفيروس يجعلها تنفضح، فيبدو عليها الارتباك، أو يبدو على (طقس) وجهها سرعة التغيّر.. ولأنها تحس –داخلياً- بذلك، فقد تظل –بين حين وآخر- تردد: (فلانة.. والله ما همتني)!!
تقول هذا، لتفضح نفسها، فربما إن أحداً لم يقل لها إن فلانة قد أهمتها!
بالله عليك يا ابنتي: هل ترضين أن تلبسي (عباءة) الغيرة، وهي توصل إلى هذا المنحدر؟!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٩٢) ذو الحجة ١٤٢٨ هـ
أيهما أعلى صوتاً ؟!
كانت والدتي رحمها الله تقص علينا ونحن أطفال، وكم كنا نستمتع بقصصها.. ومن القصص التي ما زالت عالقة بذهني ما حكته لنا ذات يوم أن رجلاً كان له زوجتان، وبينهما خصومة شديدة، وكانتا في منزلين يفصل بينهما فناء .. وكان لهما برنامج عصر كل يوم، إذ تقف كل منهما (قبالة) صاحبتها متحجبة، ثم تبدآن البث.. فتدخلان في مباراة من السباب لا ينهيهما إلا ارتفاع صوت المؤذن بأذان المغرب!
وفي ذات يوم طرق مسافر الباب على إحداهما بعد صلاة العصر، ولم يكن هناك مطاعم، ففتحت فترجاها أن يدفع لها ما معه من لحم وطحين ومستلزماتهما لتصنع له عشاء.. فاعتذرت منه بارتباطها بالبرنامج (اليومي)
فتبرع أن يقوم بالدور بعد أن تعطيه ثوباً من ثيابها وخماراً يختمر به!
وتم الاتفاق وتسلل إلى حيث كانت تجلس صاحبة المنزل..
ولم يطل الوقت حتى رأى الزوجة الثانية تأخذ مكانها وتبدأ البث..
لم يتعب نفسه بتقليد صوت المرأة .. فهو ربما أنفضح،
ومن جهة أخرى فهو يريد الاختصار.. ومن هنا تفتق ذهنه عن حيلة.. فإذا هو يقابل (موجات) الكلام الصاخبة من قبل الزوجة الثانية بحركة لم (يفتر) عنها.. كان يرفع يديه أمامها ويفرك أصبعين من أصابع كل يدٍ ببعضهما، وقد لزم الصمت..
بدأ صوت المرأة يرتفع ويرتفع.. وهو ملازم حركته.. خرجت المرأة عن طورها وكانت تطل من بين شرفتين من شرف الجدار الطيني.. فجمعت يديها حول أعلى الشرفة لتقلعه (وهو يمثل لبنه طينية)، وترمي بها صاحبتها، خاصة وقد بلغ بها الغيظ من حركة الرجل مبلغه.. لكنها مع ذلك التوتر لم تتوازن فـهـوت إلى الفناء
رجع صاحبنا.. ورأته صاحبة البيت .. واحتجت عليه كيف يقبل الانهزام بسرعة ويرجع.. لكنه فاجأها بالخبر
وحين أستذكر هذه القصة، أتساءل: كم أولئك الذين يجعلون عواطفهم (المشبوبة) تقودهم وهم يواجهون المواقف. فترتد تصرفاتهم عليهم، وتترك أثراً (سلبياً) كبيراً في نفوسهم.. وربما مر الناس دون أن يتوقفوا عندهم، أو يلقوا نظرة عليهم.
ترى هل نعطي الآخرين فرصة لاستفزازنا ... أم نجعل ذلك الاستفزاز (تمريناً) يبيّن لنا مستوى (فراملنا)، ومن ثم نظل نمارس (لصيانة) بصورة دورية ؟!!!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٩٣) محرم ١٤٢٩ هـ
ثور ساحر !!
صار للسحر في الآونة الأخيرة دولة ورجال.. كانت لغته الأمس ساذجة، إذ يتمثل في رسائل عبر البريد، تأتي لبعض الصحف من قبل بعض السذج، وبصورة بسيطة، تتكئ على الأبراج، وتفسير (مستقبل) الأشخاص تجاهها..
لكن اليوم أصبح السحر طازجاً، يتولى الساحر تقديم مختلف الخدمات، وهو جالس على كرسيه، من خلف الشاشة.. وتبدو على محياه ابتسامة عريضة بمساحة (جهل) الشريحة التي تتفاعل معه..
ويندهش الإنسان كيف تزداد مساحة (الجهل) مع تقدم العلم، واتساع مساحة المتعلمين.. ولكن حين يعرف السبب يبطل العجب – كما يقال.
إن جمهور الساحر ذوو اهتمامات محدودة، وهي بالنسبة إلى اهتمامات الحياة كلها شبه ساذجة.. ثم إن قسماً من هؤلاء الجمهور (تنابلة).. يريدون أن يتحقق لهم (كل) شيء، دون أن يقوموا بـ(أي) مجهود.. وقسم قد أسرهم العجز، وقيدهم الوهم، فبدلاً من أن يواجهوا ضوء الحقيقة، ينحازون إلى طريق الظلام.. كنوع من إبقاء (ذبالة) أمل، في طريق اليأس.. وهذا الأمل (الكاذب) يبعد الأمر بدلاً من أن يقرّبه!
أبعدت كثيراً.. فحديثي عن سحر (مختلف).. فعبر عدد من الاتصالات والرسائل، كانت كلمة (سحرني) تتردد على أفواه البنات وأقلامهن.. وذلك السحر (شيك بلا رصيد).. أي أنه يعتمد على مجرد الكلام.. وقد تتخدر فتاة من وقع هذا السحر، فتتجاوب معه، خصوصاً حين يكون ساحراً (متمرساً)، قد لعب على (كثير) من البنات قبلها.. ومن ثم استطاع – بذكاء – أن يستنطقها مشكلاتها، ثم يبدي لها تفاعله (الكبير) معها.. وهو بذلك يجهد نفسه في (تخديرها)، لتأتي مرحلة (إبداء) الإعجاب، وإظهار الرغبة في (الزواج)، المفروشة على بساط الأماني (الحلوة).. وتعقب ذلك مرحلة (طلب) الرؤية، كنوع من (التوقيع) على (صفقة) الحب!!
من المؤكد أن ذلك (مسلسل) عبث (مفضوح)، وإن كانت كثرة الحديث عنه – للأسف – الشديد لم تطفئ بريقه (الكاذب)!
الأمر الأشد خطورة حين تستجيب الفتاة لهذا العاشق (المستقبلي)، فتلبي رغبته بإرسال (صورتها).. ومع أن كل ذلك كان يدعو للغثيان، إلا أن الشيء الذي لم أجد له (أي) عذر هو طلب قيس من ليلى (إرسال) صورتها (عارية)، وتطوع ليلى (لإشباع) رغبته.. فتبعثها له!!
ومع أن (انحراف) الطلب – بهذه الصورة – يفضح (زيف) قيس، ويكشف منه عن (تيس) يركض، وراء الغريزة، إلا أن النعجة (ليلى) المخدرة، لم تعد تدرك شيئاً.
المصيبة الكبرى أن قيساً ذاك لا يعدو أن يكون (ثوراً) يجيد إثارة الجوانب (الغريزية) فحسب، أما أمور الحياة (تعليم.. ثقافة.. تواصل..)، فقيس ذاك فاشل من الدرجة الأولى.
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٨٩) رمضان ١٤٢٨ هـ
بكم تبيعين ؟!
كنا – ذات حج – في منى، وكان حبل الحديث ممدوداً قطعه دخول شخص من جنسية غير عربية، يحمل بين يديه زجاجات عطر..
أقبل عليه الزملاء.. رفع أحدهم زجاجة وسأل البائع عن سعرها
وأجابه البائع: بمئة وخمسين ..
ولكن صاحبنا، ربما أراد أن يجس النبض، فقال: يمكن أن أشتريها بخمسين!!
فوجئنا بموافقة البائع..
لكن صاحبنا تراجع وقال: لا سأشتريها بثلاثين.. وكم كانت دهشتنا أن يوافق البائع
ولذا قال صاحبنا: خلاص رفيق، تبغى عشرة وإلا ما فيه يشتري!
وفعلاً باعها عليه الرفيق بعشرة..
لقد كان انطباعنا، عن زجاجة العطر، في البداية الإعجاب (الكبير).. لكن ذاك الانطباع انقلب ليحل محله تعليق على زميلنا: ربما لو لم تشترها إلا بريال لباعها عليك.. لقد خسرت تسعة!!
إن الزجاجة لم تتغير، ولم يطرأ عليها (أي) شيء.. لكن (تحوّل) سعرها بهذا الانحدار هو ما (غيّر) الانطباع عنها، من إيجابي (جداً)، إلى سلبي (جداً).
ولو أن صاحبها أصرّ على قيمتها (الأصلية) لاشتراها زميلنا، وربما أغرى كل واحد منا بشراء واحدة مثلها.. ولكن حين قَبِلَ (التنازل) لم يكن للتنازل حد، حتى بدا لنا أنه لو ساومه إياها بريال لباعها عليه.
كثير من الفتيات يكون تقويمها لشخصيتها منطلقاً من زاوية واحدة، مع إهمال (كامل) لبقية الجوانب، ومن ثم قد تقبل بخاطب أقلّ منها بدرجات، بحجة أن جمالها عادي، أو أنها قصيرة القامة، أو أنها لم تكمل الجامعة، أو أنها غير موظفة(!!) ولو أن هذه الفتاة التفتت إلى الجوانب الإيجابية (الضخمة) لديها، لأصبحت تلك الصفة، التي تراها سلبية، (حبة خال) في وجه تلك الجوانب!
الأمر الأكثر سوءاً حين تظل الفتاة تخرج هذه المشاعر من داخل نفسها إلى من حولها، أو يوحي لها بها من حولها، فتكون مهيأة للتنازل.. وكأنها – وقتها – ترى أن من يتقدم لها – مهما كان مستواه – قد أحسن إليها
وهذه المشاعر، فوق ما سيحدثه زواجها بهذه الطريقة، من سلبيات ومشكلات، ستظل تجعلها تشعر بالدونية في حياتها كلها، وهو ما سيؤثر في سلوكها، وعلاقاتها بالأخريات.
وأود أن أذكر هنا أن هناك دراسات كثيرة تربط بين الشعور بالجمال والثقة بالنفس.
وثمة نموذج آخر يقابل هذا النموذج سيكون مادة الحديث، في الشهر المقبل.
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٩٤) صفر ١٤٢٩ هـ
للعرض فقط !!
حين كنت أتردد على معارض الكتب كان يستوقفني عناوين رائعة، في بعض أجنحة بعض الجامعات.. وحين أسأل مسؤول الجناح عن قيمتها، يبتسم ويرد: هذه للعرض فقط!
وحينما يقدر لي أن ألتقي ببعض الزملاء المهتمين، ممن يجوسون خلال المعرض، يجري بيننا حديث عن بعض ما رأيناه من الكتب، فأذكر اسم ما رأيته في ذلك الجناح، من كتب، فيتحمس صاحبي، فأبادره قائلاً: لكنه للعرض فقط!!
وصاحبي قد يقابل آخرين، ويجري بينه وبينهم مثلما جرى بيني وبينه، ومع أن الكتاب قد يباع في نهاية المعرض، إلا أن تداول الحديث عنه بهذه الطريقة ربما جعل الواحد من الناس لا يفكر أن يسأل عنه، فقد استقر في النفوس أنه للعرض فقط!
هناك بعض الفتيات، قد يجتمع فيها عدد من الصفات الإيجابية؛ ما يجعلها متفائلة أن أسهمها سيرتفع مؤشرها في بورصة التداول الزوجي.. ومن ثم تظل ترقب.. فيتقدم لها شاب، بمواصفات معقولة جداً، ولكنها بدلاً من أن تنظر إلى الصفات الإيجابية، التي تدفعها للموافقة، تبحث عما (ينقصه)، ومن الطبيعي أن تجد شيئاً.. وهنا قد يخالجها شعور بأن (كثيرين) يتمنونها، فلم الاستعجال؟!
وهكذا يتقدم الخطاب، واحداً بعد الآخر، ولكنهم يرجعون بالرد.. ولا يلبث موج الخطاب (المقبولين) أن يهدأ، بل ربما توقف.. لأنه استقر لديهم، من واقع ما يسمعون، أن الفتاة لن تقبل أحداً، وكأنها للعرض فقط!!
ثم تفاجأ بنوع من الخطاب، الذين لم تتوقع أن يجرؤ أحدهم بالتقدم لها، فبينهما بون شاسع، وخارطة سلوكه مليئة بالألوان المتباينة.. وهنا من الطبيعي أن ترده الفتاة، على الأقل ليأتي خاطب أقل سلبيات.. وهي تتحسر على أيام، ردت فيها من يساوي الواحد منهم (ألفاً) من خطابها الحاليين!!
د. عبد العزيز المقبل
📚 مجلة حياة العدد (٩٥) ربيع أول ١٤٢٩ هـ
✍ تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »
📂
🔗 ملف متجدد : مقالات د. عبد العزيز المقبل (١/٣)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق