الصفحات

الخميس، 8 مارس 2018

كتاب دعوني أرحل (١٥/٢٨) الجزء الثاني

( ١٥ ) حضر .. حضر

وفجـأة .. قامت النساء واستقبلن القبلة عندما كانت الفتاة الحسناء تقرأ قصة المولد .. حتى إذا بلغت : ( وولدته آمنة مختوناً ) !! لقد قمن إجلالاً وتعظيماً لدقائق تخيلاً منهن وضع آمنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. نظرتُ إليهن .. إني خائفة .. مرتبكـة .. ماذا يحدث حولي .. ثم قالت النساء بأصوات وجدانية :
ـ لقد حضـر .. حضر .. حضر .. أمام القبلة .. !!

نظرت باستغراب وتخوف !! أين حجابي ؟! .. انتظرن ! من هذا الذي حضر ؟! .. أوقفنه .. أريد أن أرتدي حجابي .. ولكن .. أنا لا أرى شيئـاً !! من الذي حضر ؟!
هل .. هل يقصدون جنياً ؟ .. من يقصدون ؟ .. هل يرين أشياء لا أراها ؟! .. يا إلهـي !!!

ثـم .. أتي لهن بالمجامر وطيب البخـور .. فتطيبت النساء ! .. ثم درن بكؤوس الماء والعصير فشربن منه بنهم !!

أقبلت إلي بعض النسوة يركضـن وأخذنني وقلن لي فرحات :
ـ هيا معنـا .. بسرعة .. لا نريد أن يفوتكِ الموقف الشريف .. بسرعة .. لقد حضر حضر ..

رأيت الصفقة خاسرة وأحسست بثقل يمشي في صدري .. فقلت بحسرة وأنا أرافقهن :
ـ من هو الذي حضر ؟! .. أهو رجل آخر تطالبنني فيه بالكشف عن وجهي وتقبيله أيضاً ؟!

قلن لي وكأنني قد اعتنقت دين اليهود أو النصارى :
ـ إنه محمد صلى الله عليه وسلم !!!!!!!!!!!!!!

صعقت ونظراتي المكذبة والمصدقة قد آلمتني كثيراً .. عدت إلى مكاني بسرعة .. وعيون القوم ترمقني أن كيف أترك فرصة كهذه وأستهين بها !!

جئن واللوم باد على وجوههن بعد أن انتهين من الابتهالات الجماعية والدعوات والصراخ ! .. وبعد أن ذهبت روح المصطفى إلى بارئها !!!
ـ بالتأكيد أنتِ لا تحبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم !! .. أنت لا تريدينه أن يشفع لك يوم القيامة !! .. ستحدث لك نكبات ومصائـب لأنك استهنت بحضوره بيننا ولأنك رفضتِ مشاركتنا في زمن حضوره !!

يـا إلهـي ! .. هل ما يقلنه صحيح ؟! .. هل هن صادقـات ؟ ..
يبدو التأثر على أوجه الكثيرات منهن !!!

تقدمت إحداهن إلي وقالت لي وكأنما تصب سمّـاً زعافاً في عقلي :
ـ أيتها الحمقاء المعتوهة !! .. لقد كنت مثلك أو أشد منك ! .. وكنت أعتقد أن هذه خزعبلات وترهات !!!
ولكن بعد أن منّ الله علي شعرت بحلاوة الإيمان .. آه كم أنا سعيدة .. وأتمنى لو أنني أقيم في كل يوم مولداً نبوياً في منزلي !! .. جربي ولن تندمي .. وستصبحين مثلنا وأشد ! ..
 وإن لم يعجبك الحال فامتنعي ولكنني متأكدة من أنه سيعجبك !!

يـا إلهـي لم أعد أحتمل .. أين الصواب وأين الخطأ ؟! ..
 هل يعقل أن يكون أهلي على خطأ ؟! .. هل يمكن ؟! .. وبدأت الشكوك تساورني ! .. آه لقد أثّروا علي من كل اتجـاه .. وحدي أنا ! بدأت أسلحتي تضعف شيئاً فشيئاً !!
ربـاه .. أرجوك .. أريد أن أعود لنقائي .. أفكاري النقية .. معتقداتي وعقيدتي الصافية ! .. سريرتي الطاهرة .. قلبي السليم .. هل يمكن ذلك ؟

مضى الوقت يتلكأ حتى أوشك الليل أن ينتصف !! .. وسيطر السكون بعدها على المكان .. فلم أر وأنا بمكاني إلا عيونـاً قد أخذها اللوم علي ! .. فخشخشت الأوراق بتأثير نسمة طرية باردة .. معلنة عن وقت الرحيل من هذا المنزل .. !!

ركبـت في السيـارة .. التقت نظراتي الحزينة التائهة بنظرات الزوج المتلهفة لمعرفة ردة فعلي على ما سمعت وما رأيت .. أغمضت عيني .. شعرت بحاجتي لصدر أمي الحنـون .. حتى البكاء .. أصبح عسيراً علي .. ربـاه .. اللهم اكفنيهم بما شئت .. !

عـدت إلى المنزل .. وقفت أفكاري وعاد إليها ركودها الأول .. أحسست برغبة جامحة في الدخول إلى مخدعي .. ولكن السكون المطلق الذي ران على المنزل لم يشجعني على سرعة الدخول .. فأخذت أنظر إلى غير هدف ! .. أنظر إلى أي شيء !! .. وأنظر إلى كل شيء !

شعرت بتقدم خطى الليل .. فوقفت بتكاسل .. وتحسست طريقي في الظلام حتى وصلت إلى فراشي .. واندسست تحت اللحاف الخفيف .. أخذت نفسـاً عميقـاً .. وأنا أشعر بالوحدة .. كان آخر ما تذكرته في هذه الليلة هو اليوم الكئيب الذي عاصرت فيه أحداثاً ثقيلة .. في البحر .. في المنزل .. في المولد النبوي ..

بقيت نظراتي تائهة .. وأفكاري متلاطمة حتى بانت خيوط الصباح الأولى .. ثم .. أسدلت أجفاني بثقل شديد .. فنمت وأنا أسمع أنيني يخترق فضاء الأحـزان !!!


( ١٦ ) رحلة مع العبد الصالح الخضر !!

عند الفجــر ..دقّ جـرس الساعة المنبهة إعلاناً لقرب الآذان .. فتحت عيني المجهدتين .. أغلقت المنبه .. استرخيت قليلاً .. ثم نهضت .. سمعت صوتاً على نافذتي .. اقتربت بخوف .. آه .. كان المطر ينهمر على سقف المنزل !! .. نقراته اللطيفـة هي التي تطرق نافذتي .. انشرحت كثيراً .. مرحباً بك أيها المطر ..

اقتربت من النافذة كثيراً .. أخذت أتأمل المنظر من ورائها .. ارتسمت على شفتي ابتسامة عريضة .. لقد أتى حتى يغسل همومي وآلامي .. مرحى .. مرحى .. تسلّلت ببطء نحو الضوء .. أشعلته .. أردت أن أوقظ الزوج للصلاة .. لم أجده ! لم يأتِ بعد !! هذا أفضل .. هذا أفضل !! .. ما أسعدني !!

توضأت .. صليت .. دعوت الله أن يخرجني من هذا المكان .. أن ينير لي درب الخير .. لأتبعه .. بكيت كثيراً ضارعة إلى الله تعالى .. إن الأمطار التي تهطل ما هي إلا قطرة من أدمعي التي تذرف من عيني الباكيتين .. رحمـاك يا الله .. رحمـاك .. رحمـاك ..

عدت مجدداً إلى النافذة .. كان المطر قد توقف عندئذ عن الانهمار .. فتحتها قليلاً .. لم أعد أرى في الخارج إلا القطرات المتساقطة فوق السقف المنحدر لبناء المنزل .. أو من أغصان الشجر .. ابتسمت مجدداً .. ما أجمل المنظر .. ثم .. أغلقت النافذة ببطء .. واستدرت لأرفع سجادتي .. فوجدتـــه !!
صرخت من شدة الخوف .. كتمت أنفاسي فجأة .. غمرتني موجة حارقة جعلت سعادتي تتحول إلى كآبة .. كان وجهه شاحباً .. يبدو عليه الإرهاق .. وثوبه مكمّشاً .. فرك يديه وهو يجلس .. ثم قال :

ـ أرغب في الخروج اليوم إلى النزهة في هذا الجو الجميـل .. أيقظت الجميع للاستعداد .. هيا استعدي أنتِ أيضاً .. نظرت بإمعان إلى وجهه لأرى هل هو جاد أم هازل .. فسألته :

ـ حقاً ؟!! .. هل أنت جاد ؟ .. هل سنتنزه في هذا الجو الجميل ؟ .. حقاً ؟!!
اعتدل في جلسته وقال بصوت هادئ :
ـ نعم .. سنتنزه .. ألا تريدين الخروج معنا ؟ هل تفضلين عدم الذهاب ؟!

صرخت قائلة في فرح مفاجئ أدهشه كثيراً :
ـ لا لا .. لا أريد البقاء .. سأذهب للنزهة .. كم أنا سعيدة .. أحب جو المطر .. هيا لنذهب .. هيا :
ـ حسناً .. استعدي .. سأنتظركم في السيارة .. لا تتأخروا ..
وخـرج .. شعرت بشي من النشوة تسري في عروقي .. آه .. أخيراً سأخرج إلى الهواء الطلق .. بعيداً عن كل شي .. ما أسعدني .. ما أسعدني .. تناولت معطفي الواقي من المطر .. وكذلك معطفه .. أغلقت حجرتي .. قفزت السلالم قفزاً وكأنني في واحة غنّـاء .. رفرف قلبي من فرط الفرح .. منذ زمن لم أخرج للطبيعة أحتضن جمالها ..
توقفنا في مكان رائع الجمال .. كانت الأرض موحلة ومشبّعة بالماء .. وأعواد القمح الممتلئة بعصارة الربيع قد خارت وتمددت على الأرض في أمواج ممتدة على مدّ النظـر !!

خرجت من السيارة .. فتحت عيني باتساع .. تلفتُّ حولي بدهشة .. أرسلتُ ضحكة كانت مقيّدة ومكبلة .. أطلقت لها العنان .. شعرت بأني غارقة في محيط نظراتهم المتوهجة !
وفجأة سمعت نفسي أقول له وأنا لا أكاد أشعر بأني بدأت الحديث :
ـ هل .. هل تسمح لي بالذهاب حول هذا المكان للتنزه .. لن أبتعد ..

قال بصوت لا يخلو من حدّة :
ـ ليس الآن .. اجلسي معنا .. لا تنفردي بنفسك .. نريد العودة باكراً .. فاليوم هو ليلة الخامس عشر من شعبان !! .. لم أكن أتوقع مثل هذه الإجابة .. فأحنيت رأسي بأسف وقد اضطرم وجهي خجلاً وحزناً ..
ورحت أتأمل أطراف أصابعي وأحاول تمالك نفسي .. ولكن ماذا يعني بليلة الخامس عشـر من شعبـان ؟!!

تناولت الإفطار وحدي .. نظروا إلي وقد أدهشهم ما طرأ علي من تغيير .. لاحظت دهشتهم بقلب مرتاب .. وأخذت أجمع بعض الأعواد من الأرض ..

تردّدت الأم برهة ثم قالت لي :
ـ يجب أن نعود مبكرين حتى نستعد للذهاب إلى المكان الذي سيتم فيه اجتماع الناس في هذه الليلة ..

كتمت أنفاسي .. هذه المرة الثانية التي يؤكدون فيها أهمية هذه الليلة !! .. يا إلهي .. ماذا سيفاجئني اليوم أيضاً ؟! .. أومأت برأسي إيجابـاً .. ابتسمت بهدوء ..

في تلك اللحظة .. اختلست النظر إلى الزوج ووالدته .. راقبتهما في محاولة مني لفهم المعاني التي ينطوي عليها حديثهما .. ولكنني لم أستطع أن أفهم شيئاً !! .. سوى أنهم جميعاً صائمون اليوم !! .. لماذا ؟ ..

قلت لهم بتوسّل ..
ـ هل أذهب الآن ؟! .. لن أبتعد .. أرجوك ..

أزال عن كتفه بعض القش العالق به ثم قال :
ـ اذهبي .. ولكن ..
وفتح فمه ليقول شيئاً .. ولكني انصرفت بسرعة .. لم أنتظر .. ركضت .. ضحكت .. بكيت .. اختلطت مشاعري .. رحت أقفـز في كل الأرجاء .. نظرت إلى الأرض الجميلة .. لقد تجمع المطر فيها .. ثم راح ينطلق في جداول صغيرة سريعة ويملأ كل منطقة منخفضة .. حدّقت في روعة السمـاء !
إن صفحة السماء تصفو من الغيوم التي تمزقت وتباعدت كتلها تاركة رقعاً واسعة من الصفحة الزرقاء المضيئة ! .. بعضها صاف تماماً وبعضها لا يزال محجوباً بغلائل من السحاب الرقيق !!!
أما الهـواء فقد سكن على الأرض تماماً وشاعت فيه رائحة العشب المبلل والجذور العارية .. لا أعرف كم من الوقت مضى .. ساعـة .. ساعتـــــان .. أكثر !! لم أشعـر .. أوه !! لقد ابتعدت كثيراً .. أين أنــا ؟!

بدأت أشعر بالخوف .. إلى أي اتجاه أعود ؟!! ربـاه .. أين المكان .. رباه !! .. أين معطفي ؟ أين أضعته ؟! .. بدأت أبحث .. وأبحث .. آه .. قطرات المطر عاودت في النزول .. يا رب .. آوه .. معطفي هنا .. وجدته .. ارتديته لأتقي المطر .. ولكن أين المكان ؟

تناولت نظارتي .. مسحت قطرات المطر عنها بمنديلي ثم أعدتها إلى عيني .. رحت أنظر إلى الأرض الموحلة حتى أتجنب الخوض في إحدى الحفر المتناثرة حولي .. رفعت بصري إلى الأفق .. ازداد انهمار المطر .. رفعت النظارة عن عيني ووضعتها في جيبي ..
رأيت عن بعــد رجـلاً يقدم تجاهي .. أسدلت غطائي .. رحمـاك يا رب .. إنه شيخ كبيـر .. يعمل على تنظيف المكان .. دبّ الـرعـب في أوصالي .. هل سيختطفني ؟! الويل لي .. تقدم إلي وسألني وقد بدت على وجهه آثار الزمن على هيئة خطوط عميقة تحيط بوجهه :

ـ كيف جئتي إلى هنا يا ابنتي ؟! المكان خطر .. هيا بسرعة الحقي بعائلتك ..

انحدرت دموعي من شدة الخوف :
ـ ولكني أضعت المكان .. الويل لي .. كيف أصل إليهم ؟ أرجوك ساعدني .. أرجوك ..
ـ هيا اتبعيني من هذا الطريق ..

جل اهتمامي كان منصباً على غضب الزوج وحنقه .. وعدتُه ألا أبتعد !! يا ويلتي .. يا ويلتي !!

وبعد أن قطعنا مسافة من الطريق .. رفعت رأسي .. وإذا بالزوج يهرول قادماً إلي !! .. يا ويلتي !! ..
وقف أمامي كصخرة جامدة .. والشرر يتطاير من عينيه .. فوجدت نفسي أقول بسرعة وكأني أشرح له موقفي الضعيف :

ـ أرجوك .. أنا .. أنا .. آسفة .. لم أقصد .. سرقني الوقت وأنا أتجول في هذا المكان ! ولكني …… نظر برفق إلى الشيخ الكبير .. مما أثار دهشتي .. لم يغضب منه .. أشار إلي أن أتقدمه .. ففعلت .. أقبلت على والدته وباقي الأسرة .. وجدتهم حانقين .. غاضبين !!

استدرتُ لأرى الشيخ الكبير والزوج .. جاء الزوج إلى أهله .. تشاوروا .. تهامسوا .. أكرموا الشيخ إكراماً عظيمـاً !!!!!! .. أغدقوا عليه العطاء .. طلبوا منه الدعاء لهم .. ولي !!!!!
 تسمّرت في مكاني وأنا أرقبهم !! .. ما بالهم لم كل هذه الحفاوة ومن الجميع !!!

ذهب الشيخ الكبير في طريقه .. أخذ ينظف ما بقي من أقذار .. وابتعد شيئاً فشيئاً حتى اختفى .. والجميع يرقبه .. تكاد قلوبهم أن تتبعه .. رأيت وجوههم في صورة أخرى .. اختفت إمارات القسوة والسخط .. نظروا إلي في قلق .. خاطبتني الأم قائلة في تودد :
ـ هل تعلمين من يكون هذا ؟!!

ارتعشت .. نظرت بوجل .. قلت بصوت بالكاد سمعوه :
ـ من .. من يكون ؟!

قال الزوج وهو يضع ساقاً على الأخرى .. وينتهد بارتياح :
ـ إنه الخضـر .. العبد الصالح الخضر .. الذي كان مع موسى .. بالتأكيد هو ! يا فلان بن فلان !!

أطبقت شفتي فـوراً …. انعقد لساني من فرط الاضطراب والارتباك :
ـ من ؟ من ؟ أي خضر ؟ .. العبد الصالح ؟!! .. كيف ؟! .. لا بد أنك تمزح !! .. الخضر ؟!!!! .. لا بد أنك …………............. رفع يده وقاطعني :
ـ هذه الأمور ليست مجالاً للهزل والمزاح ! قلت لك أنه الخضر .. ألم تسمعي عنه ؟!!

ارتسم الجزع على وجهي فقلت :
ـ ولكن .. ثم نظرت إلى الجميع .. كلهم جادّون .. فأكملت :
ـ ولكن .. الخضر عليه السلام قد مات منذ زمن بعيد .. هل تقصد أنه ما زال حياً يُرزق ؟! .. لا .. كانت أخته تتلوى في مقعدها .. لم تصبر فقالت :
ـ من غير الممكن ألا تكوني على علم بحياته !!! .. إن الخضر صاحب موسى عليه السلام حي يرزق للآن .. ويطوف الدنيا كلها ويتشكل في صور مختلفة .. فقد يأتي في صورة سائل مرة .. وفي صورة مريض .. ينزل من جسده القيح والصديد .. أو في شكل شيخ كبير كهذا الرجل مثلاً .. فبالتأكيد هذا هو الخضر قد زارنا … !!

ارتعدت .. نظرت إلى وجوههم !! تخوفت .. تململت .. أردت أن أنطق .. لم يتركوا لي مجالاً ..

كانت الأم تراقب تعبيرات وجهي وترى أثر كلماتهم علي .. فقالت بسرعة :
ـ عندما يأتي الخضر بهذه الأشكال ويزور الناس فيطردونه يكون هذا دليلاً على شقاوتهم وتعاستهم .. أما إن رحبّـوا به وعالجوه وأكرموه .. اختفى بدون أن يترك أثراً له .. وكان ذلك دليل سعادتهم !!!!!! .. فاحذري من طرد أي رجل بهذا الشكل أو تعنيفه .. احذري .. فربما كان هو الخضر جاء لزيارتك !

غصصت بريقي .. قلت متلعثمة من الصدمة :
ـ صدقوني .. لقد مات الخضر – عليه السلام – قبل إرسال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .. إنه لم يخلّـد !!

أرسل الزوج ضحكة جافة ساخرة وهو يقول :
ـ الخضر هو حارس في الأنهار والصحاري ويعين كل من يضل عن الطريق إذا ناداه ..

ـ كيف يكون حارساً وهو ميت شأنه في ذلك شأن الأموات .. لا يسمع نداء من ناداه .. ولا يجيب من دعاه .. ولا يهدي من ضل عن الطريق إذا استهداه .. !!!

كشّر عن نابيه وقال :
ـ إذا لم يكن ذلك صحيحاً .. فكيف اهتديتي إلى مكاننا عن طريقه ؟!! .. أيتها الحمقــاء ..
 لقد زارك وهداكِ إلى طريقنا ومكاننا .. أفلا تعقلين ؟! أفـلا تتفكرين ؟! .. عجباً لك أيتها العنيدة !!!

ـ إنما هو رجل قد سخره الله لي لأستدل طريقكم ليس إلا !! .. ولا يشترط أن ..

تأفّـف .. في تلك اللحظة تلاشى جو الألفة والمودة بيني وبينهم .. وخيّمت مكانه سحب الشك والتربص !! .. لم يعتقدون ذلك ؟! .. هل اعتقادهم خاطئ حقاً ؟! .. نعم .. نعم .. أنا متأكدة .. نعم .. قطع صوت الزوج حبل أفكاري حين سمعته ينادي من السيارة :
ـ هيا .. لا نريد التأخـر .. أمامنا ليلة حافلة .. فلنستعد للعودة .. المطر يتساقط بغزارة ..

ركبنا جميعا ً.. ابتسمتُ في قرارة نفسي .. ازداد إحساسي بالبهجة .. كم كنت أهفو إلى مثل هذا اليوم الذي أقضيه بمفردي تماماً .. بلا خوف من زوجي أو أهله .. وبلا أية هموم أو متاعب .. ولكن .. هذه الليلة .. ماذا عساها تكـــــون ؟! ستـــرك ورحمتـك يـــا رب ..


( ١٧ ) ليلة الخامس عشر من شعبان

وصلنا .. كم أشعر بالإرهاق .. أتمنى أن آخذ قسطاً من الراحة .. أذّن المؤذن لصلاة العصر .. إنها فرصة .. سأصلي .. ثم أخلد للراحة قليلاً .. صعدتُ أولى درجات السلم .. استوقفني الزوج بلهجة عاتبة وجادة :

ـ توقفي .. لماذا لم تصومي معنا اليوم ؟ أم أنك تريدين مخالفتنا فقط !!!!

استدرتُ نحوه بعينين أثقلهما النعاس .. ثم هززت كتفي ببراءة وقلت :
ـ أصوم ؟! .. اليوم ؟! .. وأي مخالفة تلك التي تتحدث عنها ؟

تضايق من ردّي .. ولكني لم أفهم ما يرمي إليه !! ما به ؟! .. لماذا يوبخني على عدم الصوم اليوم ؟!!!

رد قائلاً في غضب مفاجئ أدهشني :
ـ كل من يعظّم ليلة النصف من شعبان فإنه يصوم في يوم الرابع عشر منه .. إلا أنت !! .. ألا تشعرين بنوع من المخالفة ؟!!!

قلت وقد فهمت غرضه الحقيقي :
ـ ولم هذا اليوم بالذات عن بقية الأيام ؟ سأصوم غداً إن شاء الله .. أو ..

قال بعنف :
ـ لا أريد أن يعرف أحد من الناس أنك لم تصومي اليوم هل فهمتي ؟! .. ستذهبين معنا اليوم للإفطار وكأنك صائمة ! .. ولا تفصحي لأحد عن إفطارك مطلقاً .. لا نريد أن يوكلنا الناس بألسنتهم .. مفهوم !! لقد كثرت مخالفاتك ؟ وكثرت امتناعاتك ! .. إلى متى ؟! .. إلى متى ؟! .. لقد ……….

قلت له لما رأيت غضبه يزداد تأججاً بصوت خافت وهادئ :
ـ أرجوك .. كفى شجاراً .. أرجوك .. ماذا دهاك ؟!! سأفعل ما تأمرني به .. لن يعرف إنس أو جن بإفطاري .. ولكن أرجوك .. أريد أن أعيش بسلام .. لا تغضب .. ولا تجرحني .. أكثر من ذلك .. كفى .. لك ما تريد .. سأكون جاهزة خلال عشر دقائق .. ولكن اهدأ .. واتركني أهدأ أنا أيضاً .. أتوسل إليك ..
ـ حسناً .. هيا اصعدي ..

تنهّدتُ بارتياح عندما لا حظت أن البرود يشع من صوته بعد العاصفة .. لقد اطمأننت أخيراً .. عرفت كيف أسكب على غضبه الجامح ماء بارداً .. أنا لست نادمة على تهدئته ! لأن رجلاً كهذا كفيل بأن يخرجني عن طوري من فرط القلق والسأم ..

تناولت معطفي الذي سقط من يدي من دون وعي مني .. صعدت السلم قفزاً .. آه .. كم أنا متعبة .. متعبة .. صليت العصر .. لم أجادل في ذهابي ! .. لن يسمح لي بالبقاء في المنزل .. لا أريد أن أثير غضبه أو أن أتعب قلبي ! .. سأذهب .. سأذهب ..
أعدت المشط وأدوات التجميل في حقيبتي .. ارتديت ملابسي .. وحذائي .. لبست حجابي .. ركبنا معاً في السيارة .. وانسابت منحرفة إلى طريقها القديم .. وازداد وجه السماء تلبداً .. أطلت من النافذة .. حيث رأيت الظلام قد بدأ ينشر أجنحته في صفحة السماء ..

دخلنا إلى مكان الاحتفال بليلة الخامس عشر من شعبان .. الجميع صائمات .. وصائمون !! .. وهذه موائد قد أعدّت عند أكثر الناس تقوى وإيماناً !!!!!! ..
اجتمعت النسوة حول الطعام .. أجلستني والدة زوجي بجانبها .. هل هذا الطعام من حلال أم من حرام ؟!
مجموعة من النساء ما زالت تردد ابتهالاتها وتسبيحاتها بشكل جماعي .. ويقرأن القرآن أيضاً بصوت واحد .. لقد شحب وجهي كثيراً .. تغيّرت حالي كثيراً .. كثيرات يسألنني عن سبب هذا الشحوب وهذا الذبول .. فتجيب والدة الزوج بسرعة :

ـ تعلمون أنها ما زالت عروساً .. إنها لم تبلغ الثلاثة أشهر من زواجها بعد .. لذلك هي لا تأكل ولا تنام جيداً .. ما زالت الحياة الزوجية جديدة عليها .. نعم .. فقط هذا هو السبب ..
انظر إليها بعينين زائغتين .. أومئ للنساء برأسي بأن هذا هو السبب فقط .. فقط .. فقط !!!!

أذن المؤذن لصلاة المغرب .. تناولت النساء إفطارهن .. تصنعت التذوق .. أخاف أن يكون الطعام حراماً .. رباه .. أنا مكرهة ! أخشى مكرهم .. ينظرون إلي .. إلى العروس التي ذبلت بعد زواجها .. كلي .. ما بك ؟! .. فأصطنع الأكل وأشرب كميات الماء .. هل هذا الماء يحوي شيئاً ما أيضاً ؟ .. رباه ما العمل ؟!

انتهينا .. تقدمت إحدى النساء الصالحات !!!!!!! .. تعظ وتذكّر بفضل هذا اليوم وبفضل صيامه وقيامه .. وبفضل صلاته وذكره !!! .. ثم .. أمرت النساء بفتح المصاحف على سورة يس .. وبدأن جميعاً بصوت واحد بقراءتها .. حتى إذا انتهين منها .. كرّرن قراءتها مرة ثانية فثالثة !! .. واكتفين !!

ثم قالت المرأة بانفعال :

ـ والآن ادعين الله بأن بمحو آجالكن السابقة .. ويثبت الآجال الجديدة بعد قراءة يس ثلاث مرات .. ولتطمئنوا .. فلن تموت إحداكن هذه السنة ما دامت قرأت معنا سورة يس .. ثلاث مرات .. والآن سوف يوزّع الله عليكم الأرزاق الجديدة .. والآجال الجديدة .. ويمحو الآجال القديمة التي كتب الله فيها بموت امرأة منكن في هذه السنة !!!

ربـاه .. أستغفر الله العظيم .. وكيف يضمن عدم موتهن في هذه السنة ؟! .. رأيت الارتياح بادياً على وجوههن لقد وثقن بعدم موتهن خلال العام ؟!!! .. أي عقول يملكن ؟!!!

أضافت تلك المرأة في قولها وهي تثّبت نظارتها السميكة على عينيها :
ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي ، من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو أحد عشر مرات إلا قضى له كل حاجة .. " الخ .

تعالت صيحات النسـوة :
ـ يا فلان بن فلان .. يا فلان بن فلان .. !!

آه …. بدأ الهزل وأوشك الجد أن يختفي ! .. إنهن يستنجدن ويسغيثن !! .. رباه .. أخرجني من بينهن يا رب !! .. ثم أكملت المرأة في ابتسامة عريضة :
ـ كلنا نعلم .. أن هذه الليلة من أعظم الليالي المباركات وفضلها جد عظيم .. وسبب تفضيلها على باقي الليالي .. هو أنها المقصود بها في القرآن .. ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) في سورة الدخان .. لذلك يستحب في ليلة النصف من شعبان العبادة والذكر والقيام وقراءة القرآن وصيام يوم أربعة عشر منه .

صرخت بالمرأة بدون وعي مني .. وقلت لها وقد خيّم السكون على الجالسات :
ـ مهلاً .. مهلاً .. هناك لبس في الأمر .. المقصود بهذه الآية هي ليلة القدر في رمضان .. وليست ليلة النصف من شعبان !!
رأيت المرأة تطرف بعينيها ويضطرم وجهها وترتبك فجأة .. فلا تحير جواباً .. نظرتُ إلى والدة الزوج .. فشعرت كأن سهماً قاتلاً أرداها قتيلة وقد اخترق صدرها حين رأتني أعارض أمرهم العظيم .. بدأ الهمس .. نظرت المرأة إلي بنظرات محرقة .. ساخطة .. متحدية .. ابتعدت النساء اللاتي بجانبي شيئاً فشيئاً !! .. هل كفرت ؟!!!!!

توقفت المرأة عن الحديث .. انعقد لسانها .. تفاجأت بوجودي فيما بينهم !! .. وقفت وأنا أرى حقدهن ونظراتهن المغرضة ! .. وقلت بصوت مسموع :
ـ استغفر الله العظيم …….. !
ثم .. مضيت بسرعة نحو دورة المياه .. كنت واثقة بأني تركت تلك المرأة ومن معها في حالة يرثى لها من شدة الغيظ .. ولكن يا ويلتي من ذاك الزوج الذي لا يفتأ ينهرني ويعتدي علي بالتجريح والضرب .. بدأ الخوف يتشبّث بأجزائي .. وجدت حجرة فارغة .. مكثت فيها .. وحدي .. الكل .. يحقد علي ..

فكرت ملياً .. ما الذي يجبرني على البقاء أكثر ؟!! سأرحـل .. ها أنا أشعر مرة أخرى بهذا السأم العميق الذي طالما أثقل علي بسبب هذه الحياة الرتيبة المخيفة معه .. ومعهم !! .. لشدَّ ما تهفو نفسي إلى لون آخر من الحياة .. حياة يملأها الإيمان والصدق .. والراحة والطمأنينة .. بذكر الله وبالصلاة على وجهها الصحيح .. ولكن .. كيف ؟! كيف ؟! كيف ؟!!!!

سمعتُ النساء يصلين المائة ركعة ! .. يا رب .. أخرجني من هنا برحمتك .. اللهم ألهمني الصبر والسلوان .. تحسست وجهي بيدي .. آثار الشحوب قد ظهرت عليه .. لقد ارتسمت علي سمات تنم عن أني سأفقد شبابي قبل الأوان .. هم السبب في تعاستي وذبولي .. اللهم خلصني منهم يا رحيم ..


( ١٨ ) عقاب على الحق !

في حوالي التاسعة خرجنا من المنزل .. الأم حانقة جداً .. لا تكلمني .. لا تنظر إلي .. لقد لاقت من النساء التوبيخ والتعنيف على تكذيبي لبدعتهم .. أتى ابنها الأصغر ليستقلنا إلى المنزل .. الحمد لله ..
دخلت مباشرة إلى المطبخ .. أما الأم فقد قبعت بانتظار زوجي في الصالة .. هل ستخبره ؟! بالتأكيد .. إنها تكاد أن تنفجر .. ولكني لم أخطئ .. ليس من العيب قول الحق !!!

سمعت صوت الزوج وقد بدأ بالعلوّ .. اختلست النظر إليه فوجدت أمه تصرخ وتشكو مني ثم .. بكت !

أرعد صوت الزوج بالانفعال وهو يدخل إلى المطبخ ؟
ـ أين أنتِ ؟ .. أين أنت ؟!

صرخت بخوف وأوقعت كأس الماء في الأرض فتحطم .. أمسك بشعري بقوة ولكمني لكمـة ثم أتبعها بلطمـة .. وهو يصـرخ :
ـ أيتها الضالة .. إلى متى ؟! .. لماذا تعثين بيننا الفساد ؟! .. لماذا تحرجين أمي وتحرجيننا أمام الناس ؟
 تباً لك .. لماذا تفعلين ذلك ؟! .. لن ينفعك الكفــرة ! .. أغربي عن وجهي .. أغربي ..

بدأ الانهيار على تصرفاتي .. صحت من أعماق قلبي .. تلوّيت من شدة الألم :
ـ أرجوك .. كفى .. أرجوك .. إنك تؤلمني .. آه .. اتركني .. أتوسل إليك .. ارحمني …..
وقفلت عائدة إلى حجرتي .. كي ألوذ بها من غضبهم .. فاستوقفني عند باب المطبخ صارخاً :
ـ قفي أيتها المتمردة .. قفي .. لا تتحركي ..
وقفت مفتوحة الفم والدماء تسيل على وجهي .. وصدرت عني أصوات أنين وعويل خافتة .. ضعيفة .. وأنا أتراجع بفزع وخوف من أن يزداد ضربه ..

كانت علامات القسوة والسخط والتحدي واضحة عليه :

ـ اذهبي الآن واعتذري للجميع على ما سببتيه لهم من مضايقات وإحراجات .. هيا .. والويل لك إن وجهت لي شكوى بسببك .. الويل لك …..

ركضت إلى والدته ووقعت أرضاً لتعثري بالسجادة .. نهضت .. اختلطت أدمعي مع دمي .. مسحتها بيدي .. استعدت أنفاسي الممزقة وأنا أقول :
ـ أعتذر لكم جميعاً .. أعتذر .. أعتذر .. أرجوكم .. أريد الذهاب إلى أبي وأمي .. أريد الذهاب ..
 خالتي .. أرجوكِ .. أقنعيه بذلك .. أنا لا أصلح للعيش هنا .. أرجوكِ .. خذوا كل ما تريدون .. لا أستطيع الاستمرار .. فقط اتركوني أرحـــــــل ..

ثم توجهتُ إليه باكية :
ـ أرجوك .. ارحمني .. لا أستطيع العيش هنا .. أتوسل إليك ..

ترددت أنفاسه بصوت مسموع .. ونظر إلي بعينين ناريتين وقال :
ـ لن تذهبي .. لن تذهبي .. ستبقين معي إلى آخــر حياتـي .. هل تفهمين .. لن أدعكِ تذهبين …..

أحسست بخيبة أمــــل شديدة .. فتح باب المنزل .. وأغلقه بقوة .. تحطمت مشاعري .. توجهت نحو غرفتي .. مؤنستي .. الصدر الحنون .. جفت الدماء التي كانت تسيل على وجهي .. غسلت ما علق به من الدم والدمع ..

توضأت .. توجهت إلى الله .. بأن الظلم قد بلغ حداً عظيماً .. فلا مجال .. اللهم قد تسلّط علي من لا يخافك في ولا يرحمني .. وأنا أدعو الله من أعماقي دعوة مظلوم .. حتى جنّ الليل .. فتوسدت سجادتي ونمت مكاني .. نوماً عميقاً .. عميقـــــاً ….


( ١٩ ) السفر المفاجئ لزيارة القبور !!

مرت ثلاث ساعات على نومي في الأرض .. تحركت قليلاً .. آلمتني أضلعي .. تنفّست الصعداء بعد أن صافح وجهي نسيم الليل المنعش النديّ .. وصافحتني معه الكثير من الأفكار .. نظرت إلى ساعة يدي بصعوبة .. بسبب الظلام .. إنها الثالثة ليلاً .. ولكن .. ما مصدر هذا الهواء المنعش ؟ ..

التفت إلى النافذة .. وإذا بالزوج قد فتحها على مصراعيها وأخرج رأسه ونصف جسده منها !! يتأمل .. يتنشق الهواء الندي .. اعتدلتُ جالسة .. شعرت بألم في وجهي وكتفي .. تذكرت ما حدث بسرعة .. لم ينتبه ليقظتي .. انتقلت نظراتي إلى حقيبة سفر كبيرة وضعت على الأريكة !! .. هل هذه الحقيبة لي ؟ .. أوه كم أتمنى ذلك .. لم أتحدث .. أغلق النافذة والتفت نحوي .. ثم ابتعد بنظره ولم يتحدث هو أيضاً .. شعرت به يأخذ نفساً عميقاً .. توقفت أنفاسي وأنا أسأله بصوت خافت خائف :

ـ هل أنت .. جائع ؟! هل .. هل أحضر لك طعاماً ؟

نظر إلي مطوّلاً .. وكأنما ينقّب في وجهي عن مكان لم تطله ضرباته .. فلم يجد !! ..
أخفض نظره إلى الحقيبة .. ولم بتحدث .. قام ووضعها على طرف السرير وفتحها .. إنها لا تزال جديدة .. أشعل الضوء ..

قلت بحذر ..
ـ أما .. أما زلت غاضباً ؟!

أيضاً لم يتحدث .. فتح خزانة الملابس ووقف أمامها طويلاً .. فقلت بهدوء :
ـ أنا آسفة .. ولكن الأمر كان لا يحتمل أن تضربني ضرباً مبرحاً .. لقد آلمتني كثيراً ..

كنت أرتعد عندما تراجع إلى الخلف ونظر إلى غمام وجهي الممتقع الجريح وقد سترته الظلال .. سكت .. لا فائدة ..

قال بدون أن ينظر إلي :
ـ هل آلمتك ؟ كان ضرباً عنيفاً .. ولكن أرجو ألا تثيري حفيظتي مرة أخرى حتى لا أكرره فيما بعد !!

تشنج وجهي استعداداً للبكاء .. ولكني لم أفعل .. قلت بكبرياء :
ـ شكراً لك .. وأتوقع منك المزيد .. هل أنت جائع ؟!
ـ لا أريد طعاماً .. أريد منك أن تجهّزي ملابسي وتضعيها في الحقيبة .. سأسافــر ..
ـ ماذا ؟! .. ستسافــر ؟! .. وأنا !! .. ماذا سأفعل ؟!

جلس على الأريكة ببطء وقال ببساطة :
ـ أنتِ ؟ ستبقين هنا لحين عودتي بالطبع ! .. لن أتأخر .. بضعة أيام فقط وأعود ..
قاطعته برجـاء ..
اصطحبني معك .. أريد رؤية أهلي .. أرجوك .. لا أريد البقاء هنا .. وحدي ..

قال وهو يضع ساقه على الأخرى ..
ـ هل جننتِ ؟! .. أنا أذهب بك إلى أهلك ؟! .. قلت لكِ مراراً لن ترحلي من بيتي أبداً .. ستبقين معي إلى الأبد .. ثم .. من قال أني ذاهب إلى أهلك ؟! أنا ذاهب إلى مكان آخر ..

ترددت برهة .. ثم قلت بمكر وأنا أشعر بألم في عضلات وجهي المكلوم :
ـ حسناً .. ما رأيك في أن أذهب لزيارة أهلي خلال الأيام التي ستسافر فيها .. ثم .. أعود .. ما رأيك ؟! أنا مشتاقة إليهم كثيراً .. هاه ما رأيك أرجوك وعندما …..

ابتسم لهذه الفكرة .. ثم قال :
ـ لا .. لا .. لا .. لا تفكّري في هذا الأمر مطلقاً .. لت تذهبي .. لأنك لن تعودي إلي .. أليس كذلك !!
إني أفهم ما ترمين إليه .. ولكن لن يحدث هذا أبداً أبداً أبداً ..

انعقد لساني .. لا فائدة .. إنه داهية .. أجبت بهدوء واتزان مصطنعين :
ـ حسناً .. لك ذلك .. لن أسافر .. سأبقى هنا .. في انتظارك !!!!!!! ولكن إلى أين ستسافر ؟

وقف …….. وذهب لينظر إلى نفسه في المرآة ثم قال :
ـ سأذهب لزيارة قبور الأولياء الصالحين وسأصطحب أمي معي .. لقد أخذت معي شاة حتى أذبحها بجوار القبر .. وسنقيم عنده يوماً أو بعض يوم .. وبعد ذلك سأنقل بعض اللحم إلى الأصدقاء والأقارب .. و .. إليك بالطبع .. هدية .. فهل تذهبين معنا ؟!!

صرختُ بسرعة : لا .. لا ..
ثم أطبقت شفتيّ !! .. إن شعر بأني لا أريد الذهاب فسيرغمني .. نظر إلي بتوجس .. فأسرعت باصطناع ابتسامة باهتة وحاولت تغيير الموضوع .. فقال :

ـ ولم لا ؟! .. لم لا تريدين الذهاب ؟!!!

وجدت صعوبة في الرد من شدة الارتباك الذي سيطر علي .. قلت وأنا أجلس وأبتسم :
ـ لا مانع لدي من السفر مطلقاً .. سأذهب .. ولكن .. الطريق شاقة .. وأنا لا أحتملها .. وبالذات عندما يكون السفر بالسيارة .. لأنه .. لأنه ..
قاطعني بهدوء : لالالا .. يجب أن تذهبي معنا .. يجب أن تتعلمي .. كيف غابت عني تلك الفكرة .. هذه الحقيبة تكفي لشخصين .. قلت بلفهة :
ـ حسناً حسناً .. لا بأس .. ولكن ستكون رحلتكم متعبة .. لأنني .. لأنني سأجعلكم تبطئون في السير .. فكما قلت لك .. لا أحتمل السفر براً .. ثم .. رفع يده وقال :
ـ أوه .. لالا .. إذاً لنترك سفرك معي لوقت آخر .. نحن عجلون هذه المرة .. فقط جهّزي ملابسي أنا ..

رفعت نظري إلى السماء .. تنفست الصعداء .. الحمد لله .. أبديت اهتماماً بالغاً بسفره دون أن أعارضه .. قلت باهتمام وأنا أرتب الحقيبة :
ـ وما القصد من هذه الرحلة ؟

أجاب بحماس بكبير :
ـ ليس لها قصد سوى التقرب إلى الله بزيارة قبور الصالحين والدعاء عندها والتبّرك بها والتوسل إلى الله بهم .. إن من عاداتنا الذهاب إلى هذه القبور إذا أصيب أحدنا بجنون أو مرض شديد .. أو ..

كتمت أنفاسي فجأة .. وغمرتني موجة ضيق مما أسمع ولكني صبرت .. أن أسمع أهون من أن أفعل .. سألته وأنا أغلق حقيبته بعد أن انتهيت منها :
ـ وهل يبرأ المريض من مرضه أو المجنون من جنونه بسبب هذه الزيارة ؟!!!!!

ـ أجل .. أجل .. يبرأون .. ويهتدون .. ويتماثلون للشفاء .. سوف أدعو لكِ معي .. وأرجو أن يهديك الله !!!!!

تسمّرتُ في مكاني .. اللهم لا تجب دعوته ..

قطعت حديثه فجأة وقلت باستغراب :
ـ وهل ستذهب أمك معك أيضاً ؟ .. أعني .. هل .. هل ستزور القبور ؟!!

لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال .. فقال بصوت حاد :
ـ نعم ستذهب معي .. وستزور قبور الأولياء وتتبرّك بها .. فهل هناك ما تعارضينه ؟

أطرقت بعيني أرضاً .. وأخذت أعبث بالسجادة بأصابعي .. ثم قلت :
ـ لا .. ولكن .. لا يجوز للنساء زيارة القبور .. فقد نهى عنها النبي صلى ……………

قاطعني بصوت كالفحيح وقد تألقت عيناه بوهج مخيف :
ـ لا شأن لك مطلقاً .. يبدو أن تأديب اليوم لم يُجدِ معك .. فهل أحاول تطبيقه مرة أخرى ؟!!!!!

نهضت من مكاني مرتبكة .. ابتعدت عنه سريعاً ولم أعلم ما الذي أستطيع أن أفعله .. فضّلت تركه وشأنه ! .. طُرق الباب طرقاً خفيفاً .. توجهتُ لفتحه .. فإذا بوالدته قد استعدّت للذهاب ..
ـ تفضّلي يا خالتي ..
ـ أين زوجك ؟ .. آه ابني .. هيا أنا جاهزة .. فلنذهب الآن ..

نظر إلى ساعته .. وابتسم لوالدته .. حمل حقيبته واتجه نحو الباب .. خرجت أمه قبله .. عاد بعد ثوان وقال : لقد أنقذتك أمي من قبضتي فاحمدي الله ..

اقتربت من الباب .. وأغلقته بهدوء .. نظرت إلى المرآة بحزن .. كان الضوء يظهر الهالات السوداء والشاحبة التي أحاطت بعيني !!


( ٢٠ ) رنين الهاتف !

بعد ساعتين هبطتً إلى الأسفل .. نظرت إلى النافذة .. كان المطر يسقط بغزارة .. صنعت كوباً من الشاي الساخن .. جلست بقرب النافذة المغلقة في الطابق السفلي .. وحدي .. أنظر إلى المطر بذهن شارد وأمامي كوب الشاي .. وفي حجري صحن صغير به قطعة من كعكة جوز الهند .. لقد اقترب موعد الآذان .. آذان الفجر ..

رنَّ جرس الهاتف في الحجرة الثانية فما كان مني إلا أن انتفضت في مكاني .. تواصل رنينه .. نظرت إلى الساعة .. إنها الرابعة والربع فجراً ..
قمت بارتجاف وأضأت النور بأصابع مرتعشة .. أين أخت زوجي ؟ لا بد أنها نائمة ..
 امتنعت عن الإجابة على الهاتف .. أصرّ على الرنين .. فأهملته .. بقي نصف ساعة على الآذان ..

صعدت السلم حتى وصلت إلى منتصفه .. وفجأة .. طُرق الباب الخارجي للمنزل !!!

أخذ قلبي ينبض بسرعة .. وأنفاسي تتسارع .. استدرت على عقبيّ .. ظهرت علامات الخوف على وجهي .. عدت أدراجي بهدوء أتلمس من الطارق !! .. وفي هذا الوقت !! .. اقتربت من عين الباب الصغيرة .. وإذا به أحد أقاربه !!!!

دققت النظر فرأيته يسترق النظر إلى المنازل الأخرى المجاورة لئلا يراه أحدهم وهو يريد الدخول إلي !!!

قلت له بحزم من خلف الباب الموصد :
ـ نعم !! .. ماذا تريد ؟! .. ومن تريد ؟!!

قال بلهفة وبصوت يختلف عن الصوت الذي عهدته له :
ـ افتحي الباب .. بسرعة .. هيا افتحي الباب !!!

تراجعت خطوة إلى الوراء ! .. واشتدّت نبرة صوتي :
ـ ماذا تريد ؟ .. زوجي غير موجود الآن !! .. عد في وقت لاحق حين يعود !!

حاول أن يحافظ على هدوئه قائلاً :
ـ أعرف ذلك .. لذا أنا موجود الآن ! .. أعلم أنه قد رحل منذ ساعتين ولكن لِم لَم تجيبي على الهاتف !! .. هيا افتحي الباب لم يعد هناك متّسع من الوقت !!!!!!!!!

صدمت ! .. صعقت !!! .. خفت أن أسيء الظن ولكن .. لا .. لسان حاله ينطق عنه ذاك الوغد الخائن !!!!
شعرت بالكراهية العميقة نحوه .. ونحو زوجي الذي جعلني عرضة لكل ما يصيبني !! .. أوقعت كوب الشاي فتحطّـم ! .. صرخت بأعلى صوتي وأنا أشعر بالغثيان :
ـ قلت لك زوجي غير موجـود .. أغرب عن هذا المكان .. اذهب الآن وفوراً .. لن أفتح لك الباب .. هيا اذهب .. اذهب ..

سمعته يوجّه الشتائم من فرط الخيبة !!! .. ويحدّق بالباب ويحرّك مقبضه بكل قوته وكأنما سيكسره !! ..
صرختً وأخذت أجري وأنا أقطع الممر الطويل ! .. كالمصابة بالجنون ! ..

توجهت نحو السلالم لا ألتفت خلفي خشية أن يكسر الباب فيدخل .. طرقت حجرة أخت الزوج بعنف استيقظت مفجوعة مأخوذة !! .. رأتني أغلق بابها بالمفتاح مرتين .. أضع كل ما استطعت حمله خلف الباب !! .. ارتميت بين ذراعيها أنتحب .. نهضت فتلقتني وأجلستني على السرير بجانبها وهي تقول مذعورة :

ـ ما بك ؟! .. ماذا حدث ؟! .. هل أنتِ بخير ؟ .. هل أنتِ على ما يرام ؟!

رفعتُ وجهي المبلل بالدموع وتمتمت قائلة :
ـ لا شيء .. لا شيء .. لا شيء !!

لن يصدقوني !! .. سيعبثون بعواطفي !!

فاضت عيناي بالمزيد من الدمع .. والمزيد من الحرقة .. فدعوت عليهم في ثنايا الليل .. بألا يسامح هذا الزوج على ما أرداني إليه من شرور .. وألا يسامح من يساعده في إيذائي ..
 فكم ألمحتُ له ما أعاني من مضايقات أقاربه كلما التقيت بهم .. فاتهمني بسوء النيّة !! .. وأنني أنا التي أغريهم بي عندما أتخفّى عنهم .. يا إلهي ما أشد ظلمه لي !! .. هذه هي النتيجة !! .. لم أعد آمن على نفسي منهم .. لم أعد أثق به أو بهم !

يا رب أنت ولييّ وناصري ـ فانصرني عليهم بما ظلموني وبالغوا في إيلامي !! .. ثم رفعت من سجودي .. وسلّمت .. واحتضنت يدي أحاول تهدئة نفسي .. بنفسي !!! .. فكل عصب في جسدي كان يدعوني لترك المكان !!!

مر النهار الجديد بسرعة .. تلته الأيام الباقية .. وكلما جن ليل أو طرق الباب شعرت بدنوّ أجلي .. وخوفي على نفسي .. وعاد الخوف من الزوج يرافقني .. سيعود .. سيعود .. وستعود معه كل الآلام وسيحطّم كل الآمال !!


( ٢١ ) العودة من الروحانية !

اقتربت عودته .. هذا اليوم الثامن لغيابه .. اشتقت لأهلي كثيراً .. أريد محادثتهم .. ولكن !!
لقد منعني من ذلك .. وأمرني بعدم محاولة مهاتفتهم .. ليكن ! لن أحادثهم .. لقد وعدته !! ..
مع أنه لا يستحق الوفاء ! .. ولكن لن أغضب الله من أجله .. لن أفعل .. مع أن الشوق يحرقني إليهم ..

صليت المغرب .. خرجت من حجرتي وأغلقت الباب بهدوء .. ما هذا السأم ؟! .. أشعر به عميقاً في حناياي !!

سمعت أصواتاً في الطابق السفلي .. ارتعشت ! .. من هذا أيضاً ؟! .. هل هو أحد أقاربه ؟! .. أين أختبئ ؟! .. نظرت بحذر وخوف من أعلى السلّم لأتعرف على القادم ! .. أوه لا !!!! .. إنها والدة زوجي !! .. إذاً فقد عاد !! ..

ارتجفت .. تجمدت أطرافي .. وتشوّش ذهني .. هل أعود إلى حجرتي ؟! .. لم أتمكن من ذلك فقد لمحتني والدته عند السلم وكذا أخته ! .. تصنعتُ المـرح .. هبطت مسرعة ! .. عانقت والدته وحمدت الله على عودتها سالمة .. تحركت نظراتي تبحث عنه !! .. أين هو ؟

قالت أمه وهي تجلس :
ـ زوجك قادم .. إنه في الخارج ! سيأتي بالأمتعة من السيارة ..

نظرت إلى ساعتي وابتسمت في محاولة لإخفاء خوفي واضطرابي .. وفجـأة .. سمعت صوتاً خلفي استدرتُ بوجل .. ورأيته يغلق الباب بعنف !! .. شعرت وكأن صوت إغلاق الباب يصم أذني .. ويتردد صداه في عقلي .. ليعيدني إلى الحاضر ويسدل ستائره على الراحة والحرية .. في الأيام الماضية !!

انتبهتً إلى صوت أخته تقول :
ـ ما بالك ؟ .. هل أنت معنا ؟!!

ـ آسفة .. كنت .. كنت أفكر في .. هل قلتِ شيئاً ؟!

تداركت الأمر سريعاً وقلت له :
ـ حمداً لله على سلامتكم .. كيف كانت الرحلة .. ؟!

رمى بنفسه على الكرسي قائلاً بفرح غامر :
ـ موفقة جداً جداً جداً .. أشعر بروحانية عالية وإيمان متزايد منذ أن ذهبت إلى ذلك المكان !! ..
بلعتُ ريقي بصعوبة وقلت : الحمد لله ..

ثم جلست معهم .. نتبادل أطراف الحديث .. وأجبرت نفسي على سماع تلك الرحلة الإيمانية !!!!!

نظرت أخته إليه وكانت تقاسيم وجهها تعبر عن السرور قائلة :
ـ أخي .. أين وضعتم أماناتكم وحاجياتكم أثناء الرحلة ؟

أغمض عينيه بسرور بالغ .. وابتسم ابتسامة لم أرها من قبل :
ـ لقد وضعناها على قبور الصالحين .. لأنهم يقومون بحراستها فلا تسرق ولا تؤخذ .. وكذلك من أجل الحفاظ عليها وإنزال البركة بها ..

تمالكت نفسي وشعرت بالذهول من قوله .. يا إلهي !! .. هل يعتقدون أن الموتى يقومون بحراسة ما يوضع على قبورهم ؟ .. أنه كفر بواح .. ماذا يقول ذلك المتطاول ؟

أجابته أخته وما زالت تحت تأثير سحر كلماته :
ـ هنيئاً لكم .. هنيئاً لكم .. يا ليتني كنت معكم !
ـ آه يا ابنتي …. إنها أيام جميلة لا تنسى .. لقد طفنا حول القبر ثلاث مرات بالسيارة حتى لا يلحق بنا أذى أو ضرر خلال رحلتنا ..
والحمد لله كان لنا ما أردنا ..

فتحت عيني تعجباً ! .. توقفت عن التنفس فقاطعتها بدون شعور :
ـ تطوفون حول القبر ؟ .. حول القبر يا خالتي ؟ .. وهل هناك كعبة أخرى في تلك البلاد للطواف ؟ ..
إذا كان الطواف حول قبر نبي من الأنبياء لا يجوز شرعاً فما بالكِ بقبر أحد العامة ؟!!!!!

خيّـم صمت قاتل .. تنملت أطرافي وأنا أنتظر جواباً لما يدور بداخلي .. كانت نظرات الزوج المرعبة هي الإجابة الشافية ! .. أزاح بنظره عني .. وتظاهر باهتمامه بإكمال الحديث .. تغيرت ملامحه وهو يقول :
ـ لقد شهدنا وفاة أحد الصالحين هناك .. كان منظراً مؤثراً لا يزال عالقاً بذهني حتى الآن ..

تكدّر وجه والدته وهي تضيف :
ـ نعم .. عندما حملت جنازته للدفن وبعد أن قرئت عليها قصيدة البردة ـ للبوصيري ـ وتلي عليها القرآن ورددت الأناشيد .. جاء الإمام ودعا على الحجر الذي يجعل وسادة للميت ..

قلت بتهذيب مغلف في محاولة مني للفهم :
ـ وهل ……. وهل هذا جائز ؟

لم يجب أحد منهم سؤالي للمرة الثانية !! .. فأيقنت بأنها إحدى البدع التي استحدثوها .. ماذا يفعل هؤلاء ؟ .. ثم تذكرت قول الرسول عليه الصلاة والسلام " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .

ابتسم أخوه الأصغر في محاولة لتهدئة وتخفيف التوتر وأضاف :
ـ أخي …. بم يدعو الإمام على ذلك الحجر قبل وضع رأس الميت عليه ؟

ردّ عليه بكلمات تحمل الكثير من الحنوّ والعاطفة :
ـ يقرأ في دعائه أنك يا فلان تأتيك هذه الأسئلة ويذكرها …… ويقول إذا سُئلت فأجب عنها بهذه الإجابات ولا تعجز فتكن من الهالكين .. وإذا أجبت ضمنت لك الجنة ووفّقت إلى الصواب ..

دققتُ سريعـاً في وجهه .. إنه جـاد !! .. ما هذا الهراء ؟ .. سألته بهدوء مصطنع :
ـ وهل ينفع الدعاء ذلك الميت ؟ .. أعني .. هل يجيب حقاً عن تلك الأسئلة كما أمره بذلك الإمام ؟!!!!!

اعتدل في جلسته وكأنه قد قرأ أفكاري ثم أجاب بثقة مفرطة :
ـ بالطبع تنفعه !! .. وإلا فكيف يضمن له الإمام الدخول إلى الجنة إذاً ؟!
إنه عالم يصعب عليكِ فهمه .. لأن تفكيركِ جـامد !!!

أمسكتُ بالكأس بأصبع مرتعشة …. وهتفت :
ـ لكن الغيب لا يعلمه غير الله ـ سبحانه وتعالى ـ ……… ولا يمكن لأحد أن يضمن مصير أحد كائناً من كان …. حتى وإن كان عابداً أو زاهداً !! .. أليس كذلك ؟!!!!!

حــدّق بي .. ثم بدأ بتوجيه الشتائم :
ـ إنكِ تحملين عقلية متحجرة محدودة ! .. فكيف لكِ أن تفهمي تلك الأمور ؟! .. من الأفضل لك أن تتوقفي عن الجدال .. وإلا فالعلاج الناجح سيبدأ الآن !!!!

كانت الكأس قد شارفت على نهايتها .. فاجترعتُ ما تبقى منه ثم وضعتها بصمت .. بينما قال لوالدته واخوته باختصار :
ـ لقد تبرعتُ بالمال الذي جمعته منكم لصالح إقامة مسجد على قبر أحد أولياء الله الصالحين هناك .. فأرجو أن يتقبل الله منا جميعاً ..

اجتاحتني رعدة مفاجئة فنطقت بعد أن ابتلعت ريقي بصعوبة :
ـ إقامة مسجد على ضريح ؟ .. أنت تبرعت بالمال من أجل ذلك ؟ .. كيف فعلت ؟ .. ولماذا ؟ ..

قال بنفاد صبر وحيرة :
ـ وماذا في الأمر ؟ .. لماذا تعارضين كل شي ؟! .. ألا تعجبكِ أمور الخير أيضاً ؟! .. كفّي عن ذلك !! .. هذا يكفي .. هل تسمعين ؟!!

تركزت أنظارهم علي ! .. كيف لهم أن يفهموا ؟ .. كيف أقنعهم ؟

التفتُّ إليهم بتركيز .. ثم قلت بوجل :
ـ صدقـوني …. الصلاة لا تجوز في هذه المساجد .. ولا يجوز بناؤها فكيف بالصلاة فيها ؟ .. إنها من عادات اليهود والنصارى ! .. افهموني أرجوكم ـ زمجـرت أمه وقالت ساخطـة  :
ـ يبدو أننا ترفقنا بك كثيراً ! .. ولكن أن تسخري منا فلا .. أنت ذات عقلية معقدة .. ولن أسمح لك بالمزيد ..

أردفتُ بسرعة :
ـ آسفة .. آسفة .. لم أقصد ذلك ! ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .. بل يجب نبش قبور من دفن فيها ونقلها إلى مقبرة عامة !! …. و …….

رفـع حاجبيه استغراباً وقاطعني :
ـ ألا تعلمين أننا قبّلنا القبور والحجارة الموضوعة عليها تعظيماً وتكريماً للأموات ؟ .. وطلبنا المدد والعون منهم ؟ .. وتوسلنا بهم وبجاههم لتتركي ما أنتِ فيه من ضلال ؟ .. ولكن يبدو أنكِ هالكة لا محالة !!

عبثاً حاولتً أن أثنيه عن آرائه ! .. ولكني وقفت أجمع الكؤوس وأقول ببساطة حتى لا أثير غضبهم :

ـ لا أعتقد أن طلب العون والمدد من غير الله يجدي ! .. ولا أن تقبيل القبور والحجارة سوى خضوع وذل لغير الله تعالى ! .. ولا أن تعظيم الجمادات والأموات مشروعاً فيقبله عاقل لبيب !!!

استرقتُ النظر إليهم .. إنهم واجمون .. وكأن على رؤوسهم الطير ..
توجهت نحو باب الحجرة ففتحته …….. وخرجت وأنا أردد في قرارة نفسي قوله تعالى
 ( ذلكم  الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير )

أعددت طعام العشاء .. ما زالوا ثائرين على معارضاتي أن كيف أتطاول على معتقداتهم الشريفة !! ..
 ابتسمت للجميع وكأن شيئاً لم يكن .. ثم دعوتهم لتناول العشاء .. أمرني بالجلوس فجلست ..
فتح حقيبته وأخرج منها بعضاً من الحجارة والتراب وناولني إياها .. رفعت نظري إليه ببطء وقلت بتعجب :
ـ وما هــذا ؟

ركز نظره علي ثم قال بتحد وعناد :
ـ هذا نصيبك مما حملته معي من تلك القبور للتبرك بها .. فحافظي عليها واعتني بها .. وسأتابع ذلك بنفسي ..

بادرت بالاحتجاج .. فرفع يده ليلزمني الصمت بعد أن نظر إلي بتلك النظرات المتوهجة التي قاربت على إحراقي .. فامتنعت عن الحديث وتنهّدت بألم وأطرقت برأسي إلى الأرض قسراً ..

قالت أخته ببهجة وهي تحتضن يدي والدتها :
ـ أمـي .. ما رأيك في الذهاب مرة أخرى ؟! .. ولكن لن تذهبوا من دوني .. آه .. كم أشتاق لذلك ..
بادلتها الأم بابتسامة أعمق وهي تضمها وتقول باهتمام :
ـ أوه بالطبع يا ابنتي سنذهب في أقرب فرصة .. وسترافقنا زوجة أخيك بلا شك !! وإلاّ فـلا !!! ..
شعرتُ بجسدي كله يرتجف فقلت منتبهة :
ـ ماذا ؟ .. نعم نعم ….. سنرى إن شاء الله .. لكل حادث حديث ..

قالت أخته تخاطبه بفـرح :
ـ إلى أين ستكون رحلتنا القادمة يا أخي ؟ .. هيا أخبرني .. إلى أين ..

هـزّ كتفيه وقال بحرارة :
ـ المرة المقبلة سنترافق بنية السفر بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ..
ثم حدّق ناحيتي .. لم أتفوّه بأي تعليق .. وعلت جبيني تقطيبة خفيفة .. فواصل كلامه :
ـ للتبرك به وسؤاله قضاء حاجاتنا وتفريج كرباتنا .. و .. هداية ضالّنا !!

فلمعت عيناه فجأة وكأنه يهدد ! .. تراجعت .. خفضت عيني لأحملق في يدي .. حاولت جاهدة أن أبتسم وأستعيد ثباتي .. فقلت بصعوبة بالغة :
ـ أنت تقصد أن نذهب إلى هناك بنية الصلاة فيه فقط ! .. أليس كذلك ؟! .. لأن ……..

قاطعني بعنف :
ـ لا يا عزيزتي .. بل بنية  شد الرحال وزيارة القبر !!! .. هل لديك اعتراض أيضاً ؟!!!

بدأ عقلي وكأنه سينفجر فقلت بصعوبة وكأني أنتزع الكلمات من بئر سحيق :
ـ ولكن .. ولكن .. لا تجوز زيارة القبور بشد الرحال إليها .. بل هي ..

تبادل الجميع النظرات الحاقدة .. واشتدت نبرة صوته وهو يقف ويزيح كرسيه إلى الوراء قائلاً :
ـ أتمنى ألا نخطئ في اختيار الكلمات الآن .. وإلا فإنك تعلمين ما الذي سيحدث !! .. لا أريد نقاشاً !

أجبته وعيناي تشعّان ألماً :
ـ حسناً سأفعل …. اهدأ أرجوك ..

أدركت بأنه لن يغيّر رأيه ولا نيته كذلك !! .. فهو يعني ما قاله بأنه ليس هناك من موضوع ليناقش !!!


( ٢٢ ) حمرة الغضب !

دخلت حجرتي .. أغلقت الباب بهدوء .. بدأت بترتيب خزانتي .. وفيما أنا أفعل .. إذ بالزوج يفتح الباب بكل قوته ويبحث عني بعينين قاتلتين وصدر متأجج !! .. وما إن عثر علي حتى شعرت بأن وجهه يتفجّـر حمــرة من شدة الغضـب !! .. ما الذي حدث يا تــــــرى ؟!!!

سألني وهو يقبض يديه بكل قوته كعادته عند الغضب :
ـ هل أتى أحد ما إلى المنزل في حين غيابي ؟!!

قلت بهدوء وقد عرفت المغزى من سؤاله :
ـ نعم ….. جاء قريبك فلان بعد ذهابكم بوقت قصير .. لماذا ؟!

زفـر بقــــوة وهو ما يزال واقفـاً :
ـ وهل فتحتِ الباب له وأدخلتيه وأكرمتيه ؟

عقدت المفاجأة لساني عن الكلام ! .. فظللت صامتة أحدّق فيه .. فكرر سؤاله ثانية :
ـ هل فتحت الباب أم لا ؟ .. تكلمي !

حاولت الحفاظ على ثبات صوتي فأجبته بإجهاد :
ـ كلا بالطبع !! .. كيف يجرؤ على الدخول إلينا في غيابك ؟!! .. لقد اعتذرت له عن إدخاله .. وعللت له ذلك بعدم وجودك .. وأنه بإمكانه المجيء عند عودتك .. ولكن لماذا الـ ………..

طار صوابه عندما أيقن منعي من إدخال قريبه ! .. فقال بصوت عال وأسلوب جارح :
ـ لماذا لم تفتحي الباب له وتجالسيه وتشربي المرطبات معه وتحادثيه ؟! .. إن المنزل منزلي وليس منزلك !!!!

هل فقد صوابه ؟ .. ألهذا الحد يريد مني أن أفعل ؟ .. ظننته سيبتهج !! سيفرح !!!
نظرت إليه طويلاً بحزن عميق وصدمة بالغة ! .. عصفت بي رغبة في تحطيم كل شي !! .. هل يجهل حقاً عواقب ذلك ؟ . أم أنه يتجاهلها ؟!! .. ألا يميّز الحق من الباطل ؟ .. ألا يفرق بين الأمور الجادة والهازلة ؟!!! .. قلت بأسف :
ـ هل أنت جاد حقـاً فيما تقول ؟ .. لالا .. بالتأكيد أنت تمزح ..

ثم استجمعت شتات ذهني لأطرح عليه إجابة شافية على سؤاله :

ـ لست أنا من تفعل ذلك !!! .. لن يدخل رجل غريب إلى هذا المنزل في عدم وجودك ! .. مهما كانت قرابته لك !! .. لن يدخل !! ..
 ثم عبّرت دموعي تعبيراً أصدق عن جام غضبي وأنا أهتف :
ـ إدخال الرجال الأجانب عند النساء في عدم وجود المحارم … حرام .. !! وأنا لن أقبل بذلك أبداً حتى وإن غضبت لن أقبل أبداً أبداً .. هل تسمعني ؟!!

استشاط غضباً وقال هائجـاً :
ـ بل ستفعلين !! .. لستِ أنت التي ستقلبين حياتنا رأساً على عقب وتفسدين بيننا !! .. الجميع يشكو من أفكارك المعقدة ونيتك السيئة !! .. ولكني أنا من سيقلب حياتك وسترين !!

وقفت بسرعة وأنا أمسح دموعي الحزنـى :
ـ لا أعدك بذلك مطلقاً ! .. مهما كلفني ذلك من استهانة وتعذيب وتنكيل ! .. وسأقولها أمامــك وأمــام الجميع … إن أردتم قتلي فافعلوا .. ولكني لن أسمح والله لرجل غريب بالدخول في غيبتك !!

اجتاحته رعدة مفاجئة .. فأراد كسر شوكتي وإرغامي على ما يريد :
ـ لكِ ذلك !! .. ولكني أقسم بالنبي الكريم أن أضعك بين خيارين مؤلمين لك وسترضخين لأمري !!

شعرت بحرارة الغرفة في هذه اللحظة على الرغم من فتح جميع النوافذ فيها والستائر ! .. ترقبت بوجل طرحه للخيارات ! .. ماذا عساه أن يقــول ؟!!!!!

عقد ذراعيه واتكأ على الجدار قائلاً :
ـ إما أن تفتحي الباب في عدم وجودي لكل أقاربي من عرفتي منهم ومن لم تعرفي …… وتجالسيهم وتسامريهم وتكرميهم … ولا تردّي أحداً منهم …..
ثم .. سكت .. فشعرت بغصة مؤلمة في حلقي وأنا انتظر قراره في الخيار الآخر ! .. فأكمل حديثه وهو ينظر إلى السقف باستخفاف ونفاذ صبر :
ـ أو أمنع عنك زيارة أهلك .. فأمنع دخولهم إلى هذا المنزل إلى الأبد !! .. فأي الخيارين تفضلين ؟!

سادت لحظة صمت مؤرقة .. معذّبة !! هرب صوتي مني .. لقد سألني ويجب أن أجيب عليه !

ابتسمت ابتسامة مجردة من الحياة .. وقلت بحزن قبل أن أفقد جرأتي :
ـ حسناً …. لا عودة في قراري ولا تراجع !!! ومع صعوبة الخيارين إلا أنني أرفض الخيار الأول وأقبل بعمل الثاني !! .. وليسامحني الله !!

ضاقت عيناه وكأنه لم يصدق ما سمع :
ـ أتعنين بذلك عدم إدخال أقاربي في منزلي عند غيابي ؟! .. مقابل عدم السماح لأهلك بالدخول إليك وزيارتك ؟!

عانيتُ كثيراً في اختيار كلماتي .. ثم قلت وأنا أتنهّد وأتظاهر بالهدوء والبساطة :
ـ ماذا أفعل ؟! .. سأطيع أمرك في الاختيار ! .. ويجب علي من اليوم فصاعداً أن أتعلم معايشة هذا الواقع الجديد !!!!

هـبّ في وجهي قائــلاً :
ـ تبـــاً لك أيتها الوهابيـة !! .. كلكم معقـدون .. ويبقى رأيي الذي يطبّق على الجميع .. هل تسمعين ؟!

لزمتُ الصمت .. فأغمضت عيني وأنا أراه يشمخ بأنفه ورأسه عالياً ثم يتابع :
ـ انتهى الأمر ! .. بعد يومين سنلبّي دعوة العشاء عند قريبي الذي هاتفني قبل قليل .. والويل لك إن عارضتي أمري لك بالذهاب !! .. أتسمعين ؟!

أومأت برأسي وقلت في محاولة لتهدئته :
ـ أرجوك اهدأ …. لا تغضب ! سأذهب أينما تريد ! .. اهدأ !!

أدار ظهره بسرعة وبدأ بفتح الباب فسألته وأنا أتبعه :
ـ إلى أين ؟ .. لا يجدر بك الذهاب وأنت في هذه الحال ! .. إلى أين ؟!

قال بنبرة حادة :
ـ إلى الجـحيــــــم !!!!!!

عندما أصبحت وحدي استندت بظهري على الباب مندهشة متسائلة !! .. ما الخطأ الذي قلته ؟! .. هل أخطأت حقاً ؟! .. اللهم ما فعلت ذلك إلا طمعاً في رضاك عني ! .. فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ..

داهمني إحباط مفاجئ بتذكر الذهاب إلى منزل ذلك الوغد !! .. استلقيت على فراشي وقتاً طويلاً أحدّق في سقف الحجرة .. ما زلت في دوّامة !! .. اللهم فــرج علي همــومي وأحــزانـي  ..


( ٢٣ ) الدواء الفعّال

طرق الباب .. تصنعت النوم فلم أجب .. تواصل الطرق ! .. لا أريد الصدام معه أو إغضابه أكثر من ذلك .. لا قوة لي في المزيد من الجدل والنقاش !! ..
 أدار مقبض الباب ففتحه .. توقعته هو .. ولكني أخطأت في توقعي .. إنها والدته !!!

اعتدلتُ جالسة .. أضأت المصباح الخافت .. أجلستها .. ابتسمت لها .. إنها تحمل شيئاً ما في يدها !! .. ماذا أيضاً ؟!!
سألتني بتشكك :
ـ ألم تنامي بعد ؟ .. ما الذي يؤرقك ؟ .. يكاد الفجر أن ينسج خيوط ضوئه لينير أرجاء الكون !

استغربتُ اهتمامها بأرقي وقلة نومي ! .. ثم من حديثها العذب ! .. فقلت ببراءة :
ـ لا شي البتة يا خالتي ! .. هرب النوم عن أجفاني فقط لا غير ! .. ولكني سأحاول النوم علّي أفلح !!

قالت في محاولة جادة للتأثير علي :
ـ لديّ دواء لك ! .. ما رأيك بأن تجربيه ؟ .. إنه جد مؤثر وفعّال !

كانت تبدو وديعة مما جعل تعجبي منها يتلاشى بسرعة .. فقلت :
ـ حقاً ؟! .. وما دواؤك ؟!

رفعت يديها أمام عيني .. وقدّمت لي قماشاً ملفوفاً بحجم يصغر حجم البيضة قليلاً .. محشواً في داخله بشي يميل إلى الصلابة نوعاً ما ! ..
تسمّرت نظراتي في هذه القطعة .. تحوّلت أنفاسي إلى تنهيدة طولية ! .. ثم انتقلت عيناي بتلقائية إلى عينيها الغائرتين ثم إلى ذقنها الذي امتلأ بشتى رسوم الوشم !! .. فتحت فاهي لأسألها عن الدواء الذي وصفته لي ! .. فتداركت استغرابي وقالت تصطنع البساطة :
ـ هل تعلمين أن هذه التميمة بحوزتي منذ ما يربو على العشرين عاماً ؟

اتسعت حدقتاي وأنا أهتف :
ـ تميمة ؟!!!! .. هل هذا هو الدواء ؟!

أجابت بحماس :
ـ نعم .. نعم تستطيعين تعليقها على نحرك أو على عضدك أو وضعها بين ثيابك أو في فراشك .. وأعدكِ بأن أعمل لكِ واحدة تخصك وحدك وباسمـــك !

ـ لي أنا ؟ .. وباسمي ؟!

اعتدلت في جلستها ثم قالت :
ـ نعم نعم .. إنها تدفع الضر والحسد والعين والسحر وتجلب لك النفع وتشفي من الأمراض .. كما أنها تساعد على النجاح وترد كيد الأعداء ..

عدتُ إلى الواقع .. ما زلت تحت تأثير كلامها الغريب ! .. فسألتها :
ـ وهل تفعل التميمة كل هذا يا خالتي ؟!! .. أوه لا أصدق !! .. إذن فهي مفيدة جداً !!!

أجابت بسرعة :
ـ بالطبع بالطبع مفيدة جداً .. ألا ترين جميع أبنائي وبناتي يعلقونها على أعضادهم .. وعلى نحورهم !! .. إنها هي التي تحميهم وتذود عنهم .. نحن لا نتركها أبداً !!

ابتسمتُ باهتمام :
ـ أخبرني يا خالتي عن محتوى هذه التميمة حتى يكون لها كل هذا المفعول !!!

ضحكت بملء فمها وقالت وهي تضرب كفاً بكف :
ـ سؤالك أعجبني .. يا عزيزتي .. تُكتب فيه أدعية نبوية شريفة مع شي من القرآن الكريم ………...
 قاطعتها باستغراب :
ـ أدعية نبوية وقرآن كريم ؟!! .. أليس ذلك امتهان لها ؟ .. فالمرء يحملها ـ على حد قولك ـ في كل مكان !! .. إذاً ستكون معه أيضاً حين قضاء حاجته واستنجائه ..و ..

بلعت ريقها بصعوبة وتابعت في تجاهل لسؤالي :
ـ أيضاً يكتب فيها توسّل بالأولياء والصالحين .. كما تحتوي أيضاً على أسماء النبي صلى الله عليه وسلم .. وترسم فيها بعض النجوم وبها كلام بغير لغة العرب ..

توقفت أنفاسي وجف حلقي .. بدا عقلي وكأنه سيتّقد .. رمقتها بنظرة فاحصة ثم قلت :
ـ هل ما تقولينه صحيح يا خالتي ؟! .. وهل تريدين مني بعد كل ما ذكرت أن آخذها ؟ .. أو حتى أعتقد في نفعها ؟!!!

تلاشت ابتسامتها وانعقد حاجباها ..
ـ ماذا تقصدين ؟! .. إنها آمن وسيلة لحياة سعيدة وأفضل علاج للقلق والهم .. ضعيها تحت وسادتك وسترين .. إنها .. دخل الزوج في هذه الأثناء بخطوات وئيدة وكأنه يستمع إلى حديثنا ! .. ووضع يده على كتف والدته يطمئنها .. ونظراته تعصف بي ..

ـ ستأخذها يا أمي فلا تبالي .. وستضعها تحت وسادتها أو في أي مكان تريدين ! .. وإن لم تفعل فسأعرف أنا كيف أجعلها تفعل .. لا تقلقي يا أمي !!!

نهضت واقفة وقد عادت ملامح السعادة إلى وجهها :
ـ حسناً .. أتمنى لكِ نوماً هنيئاً برفقتها .. حافظي عليها جيداً .. إنها سبب حفظنا جميعاً .. تصبحـون على خـير ..
ثم .. وضعتها في يدي وضغطت بها باهتمام في كفي .. ثم .. خرجت !!!!

تقدم الزوج إلي بتحد ومد يده ليأخذها وأنا مشدوهة .. فناولته إياها ! .. مشى متعمداً بكل امتهان وزهو ووضعها تحت وسادتي .. ثم .. ثم رفع سبابته متوعداً :
ـ إياك ثم إياك أن تخرجيها من تحت الوسادة !! .. علّها تنفع في دفع الحسد والعين التي بيننا !!!
ثم ألقى بجسده على الفراش .. ونـــام .. فوقفت أتهادى من فرط الحسرة !! .. أي عين وأي حسد ؟  إنه واهم !! .. يعلّل الأمر بهما وما هو إلا خلاف عقائدي ديني قوي فحسب !!!

أطفأت الضوء .. دسست يدي تحت الوسادة .. أمسكت بها بعنف .. كم أخافها !! سأخرجها دون علمه .. وأضعها في أي مكان حتى الصباح .. وما كدت أفعل حتى ارتفع صوته يخترق الفضاء :
ـ أعيديها إلى مكانها .. وكفّي عناداً .. وإلا أرغمتك على تعليقها على نحرك !!!!

شهقتُ من الخـوف .. لم أتحدث .. وضعتها في مكانها .. فاضت عيناي بالدمع الغزير .. حتى اغرورقت وسادتي وأنا أكتم الأنين .. مضت ســاعة !! .. إنه لا يتحرك ! ..

لزمت الهدوء .. سمعت أنفاسه تنتظم .. إنه دليل قوي على نومه .. أخرجتُها برعب .. وضعتها في أحد الأدراج بجانبي .. ثم افترّت شفتاي عن ابتسامة ارتياح .. فغرقتُ في نوم عميق بعيداً عن الخزعبلات .. وقبل استيقاظه أعدتها تحت وسادتي .. و .. نهضــــت !!


( ٢٤ ) صراع الحق والباطل

في أحد الأيام جاء أخوه الذي يدرس في المرحلة الإعدادية وعلامات الحيرة والشك تبدو على محيّــــــاه !! .. لفتني منظره وارتباكه ..

كانت الأم تجلس بجانب جهاز التسجيل تستمع إلى أحد أولياء الصوفية وقد خفضت الصوت .. بينما جلس الزوج وأخته يطلعان بعض الصحف والمجـلات .. أما أنا فأخذت أسّرح شعر الطفلة الصغرى وأداعبها ..

ألقى الصبي بحقيبته على الأرض بصورة أثارت دهشتنا جميعاً !!! .. فبادرت الأم بسؤاله :
ـ ما بك يا بني ؟ .. لم أنت مستاء ؟! .. هل حدث لك مكروه ؟

تأفف الصبي وألقى بجسده على الأريكة .. بينما ترك الزوج الصحيفة ونظر إلى أخيه باستغراب فسأله :
ـ ماذا حدث ؟! .. ما بك ؟!! .. هل تشاجرت مع أحد رفاقك ؟!

تركزت أنظارنا عليه .. فقال أخيراً بنفاذ صبر وحيرة :
ـ أشعر بأني أعيش في تناقض تام مع نفسي .. وفي صراع دائم معكم ومع مدرستي للمواد الدينية !!! .. هناك اختلاف كلّي بين كل منكما !! .. أنا في حيرة !! .. ماذا أفعل ؟! .. لم أعد أستطيع الاستيعاب !!!

نهض الزوج بسرعة وجلس بجانب أخيه واحتضنه بقوة ثم قال :
ـ وما الذي جعلك في حيرة من أمرك يا صغيري ؟ .. أخبرني ..

هز كتفيه .. ثم قال بشرود :
ـ هل والد الرسول صلى الله عليه وسلم مات كافراً ؟ وهل هو في النار ؟!

ثار الزوج وزمجرت الأم وصعقت الأخت !! .. ما هذه الأسئلة ؟!!!!!!

أجاب الزوج غاضباً :
ـ ماذا تقول ؟!! .. تباً لهؤلاء الكفرة الوهّابين !! .. هؤلاء الضالين ! .. قاموا بتكفير والد الرسول أيضاً ؟! .. عليهم اللعنـة !!!

أردفت الأم بسرعة :
ـ قاتلهم الله ! .. إنهم لا يحبون الرسول الكريم فيتقوّلون عليه الأقاويل ! .. كل هذا هراء وأباطيل يا بني فلا تصدقهم لا تصدقهم .. تباً لهم !!

قال الصبي ببراءة :
ـ ولكن المعلم حدثنا عن ذلك بقوله : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أين أبي ؟ قال له ( في النار ) فلما ولّى الرجل قال له الرسول عليه الصلاة والسلام " يا هذا أقبل أبي وأبوك في النار " ..
فما مدى صحة هذا الحديث إذاً ؟!!

وقفت الأم بتثاقل تحمل جسدها الثقيل وهي تحتضن ولدها :
ـ كل هذا هراء يا بني فلا تصدق .. إنما مات مؤمناً ! .. ولكن هؤلاء الكفار الوهابين يشوهون دائماً صورة النبي عليه الصلاة والسلام في أعين الناس !! .. فعلينا الحذر منهم دائماً ومحاربتهم بل ومقاطعتهم !!

وفجـــــأة ! .. تذكروا وجودي بينهم فحدّقوا في بنظراتهم الحاقدة .. وكادوا يلتهمونني !! ..
 فسألني الصبي رأي فيما قيل .. فوقفتُ أبتلع ريقي وشعرت بنظرات الزوج المتوعدة فاستحثني الصب على الإجابة .. لا بد إذاً أن أقول الحقيقة .. لن أكذب !! .. فقلت وأنا أسترجع أنفاسي :

ـ لا .. لا أعلم .. ولكن .. ولكن أعتقد أن هذا الحديث .. صحيح رواه مسلم !!!!! …… و …….

أمسك الزوج بتلابيبي حينها وألقى بي على الأريكة وهو يزمجر :
ـ صمتاً .. صمتاً .. لا تفسدي أفكار الصبي  !! إنك تكذبين ! .. لا أريد سماع ذلك مرة أخرى ..
 إنك تتبعين ذلك الوهابي الكافـر .. سيرديكِ في جهنم أنت وزمرته !!

تدارك الصبي الموقف فسأل الزوج تغييراً للموضوع :
ـ لماذا يقول المعلم أن الرسول بشر خلق من طين ؟!! .. ألم يخلق من نور وجه الله ؟! .. لقد قلت لي يا أخي إنه خلق من نور الله وأن هذا الحديث صحيح !!! .. ولكن المعلم يؤكد أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله ولا أصل له في كتب الحديث المعتبرة !!!

آه ما آسعدني !! .. لقد أشفى هذا الصبي غليلي ! .. انبسطت ملامح وجهي بعد العاصفة الهوجاء !! .. ولكن الزوج زجر أخاه بعنف :
ـ لا تستمع لكلامهم ! .. فأحاديثهم هي المكذوبة .. ومذهبهم هو الزائف ! .. وحياتهم حياة كفر وضلال وفسق !! .. وثق دائماً بصحة ما تتعلمه منا نحن .. لا تكن كسواك !!

فنظر إلي حاقداً غاضباً .. وأخذ الصبي معه إلى الحجرة التالية !! .. تبعته أمه وأخته بسرعة .. يريدون إغراق هذا البريء فيما هم فيه غارقون !! ..

وقفتُ .. ذهبت إلى الحديقة وعيناي تشّعان حبوراً وسروراً .. لا بد للحق يوماً أن ينجلي ولو على يد هذا الصبي الصغير !! ..
عدت إلى الصالة وقد عادوا إليها قبلي ! .. الكل قد لفّـه الصمت والوجوم .. وهم يفكّرون في الحقائق القوية القادمة إليهم من ………… الوهّـابيـن !!!!


( ٢٥ )  قرار التحدّي

وفي المســاء .. أغلقت حجرتي وهبطت إلى الأسفل بعد أن انتهى الزوج من ارتداء ثيابه استعداداً للذهاب إلى وليمة قريبه الخائـن ! .. وقد جزمت في قرارة نفسي أن أرفض طلب الدخول إلى الرجال الذي سيجتمعون اليوم وكل يوم مع النساء .. ولو كلّفني ذلك حياتي !! .. فليقتلني إن شاء !! .. فليصلبني إن أراد !! .. لا رجعة في قراري !!

قُدّم الطعام في ذلك المجلس الذي خلا من اللباقة والأدب والاحترام !! ..

وعللتُ عدم دخولي إليهم منذ البداية بأني منشغلة مع النسوة في إعداد هذا الطعام !! .. ثم اجتمعت النساء بالرجال فسمعت بعضاً من الأحاديث الجوفاء المتبادلة !! .. وترددت في مسامعي صدى الضحكات الخرقاء المتعالية !! .. وبعضاً من الطرائف والنوادر السخيفة !!

أما أنا !! .. فقد قبعت كطائر أسير في إحدى الغرف مصيري المجهول خلال الثواني الباقيات !!!

ابتهلت إلى الله أن يكون خير معين لي على قراري .. ووالله ما عشت قط موقفاً أقسى ولا أعنف من موقف تلك الليلة التي خفت فيها وروّعت منه .. و … منهم !!!

فجأة .. سمعت أصوات الجميع مع تباينها تسأل عني وتنادي ! ……. لفّني الصمت واكتنفتني الرهبة وأطبقا على قلبي !! .. فشعروا جميعاً بأنني أمتنع عنهم .. فتبادلوا النظرات الغضبى .. ثم .. ركّزوا تلك السهام الحانقة على الزوج ينتظرون منه تفسيراً لما يجري !!

سرعان ما جاءت أمه إلي تركض وتطلب مني الانضمام إليهم .. فاعتذرت لها بأنني متوعّكة .. ثم أنني لم أعد أستطيع المجيء إليهم .. وتمنيت لها ولهم طعاماً هنيئاً ! .. وأني سألحق بالنسوة بعد ذهاب الرجال !

عبثاً حاولت تثنيني عن قراري ! .. فتغيرت تعبيرات وجهها عندما قالت :
ـ إن زوجك غاضب وأعصابه هائجة وكأنها بين أصابع الشيطان يعبث بها !! .. وأخشى أن يخطئ معك أمام الجميع !! .. استعيذي بالله من الشيطان وشاركينا المجلس والطعام ….

رفضت بأدب .. ورجوتها ألا ترغمني على ذلك فأنا ما خلقت لهذا أبداً !! .. ثم .. ذهبت تضرب كفاً بكف وتطلب الرقوة من أوليائها الأموات !! .. بينما دخلت أخته تقنعني بالدخول .. وأن التوتر يسود المكان !! .. والجميع بانتظاري .. فيجب ألا أفتعل مشكلة !!

أجابتها دمعاتي الحزينة وقلبي الذي كاد أن ينفطر خوفاً منهم ..

ـ لا أستطيع …. لا أستطيع الدخول على هؤلاء الرجال أبداً .. أنا أخاف من الله ! .. أخجل من الأمور التي تحدث بينكم فدعوني أرجوكم .. أتوسل إليكم لا تجبروني على الذنب والمعصية ! .. اتركوني سوف يطعمني الله ويسقيني برضاه ورحمته .. أنا لم أخلق لأخلع حيائي وخجلي  بهذه الصورة البشعة .. !

يـا رب أين الزوج الملتزم ؟! .. الذي طالما حلمت به ! .. الذي طالما حلمت بأن يعايش واقعي ؟! ..
 أين مؤدي الصلاة في المساجد ؟ .. أين الرجل الغيور الذي يغضب ويثور عندما يُعتدى على حد من حدود الله ؟ ..
 أين الرجل الذي يرحمني ويقدّرني ؟ .. يرحم امرأة ضعيفة جُلّ طلبها منه أن يحفظها ويصونها عن أعين الرجال ؟ .. أين الرجل الذي يدفع حياته ثمناً للحفاظ على محارمه والخوف عليهم ؟! .. أين وأين ؟!

ربّــاه لقد ضاقت علي الأرض بما رحبت !! .. وعندما طال انتظارهم غير المتوقع لي .. غضبوا فقلبوا أواني الطعام رأساً على عقب ولم يتذوّقوا منه لقمة واحدة !

كل هذا وأنا أتهاوى كما ريشة ضعيفة رقيقة تعبث بها العواصف الهوجاء .. وكما طفل غريق تتقاذفه الأمواج في كل صوب واتجاه !! .. وحدي !! .. لحظات مرّت علي وأنا أسمع صراخهم وغيظهم وقد ملأ الأرض ! .. أيقنت خلالها أن كل فرد منهم قد حمل ساطوراً وسكيناً وهبّ لتشريحي وإذاقتي ألوان التنكيل والعذاب !!

بالطبــع .. فأنا أخالفهم ملة ومذهباً ! .. يا ويلتي ماذا هم بي فاعــلون ؟! .. رباه لا ملجأ لي منهم إلا إليك .. اللهم لا تكلني إلى نفسي أو إليهم طرفة عين ..
اللهم فكل هذا من أجل رضاك ومغفرتك .. اللهم قد ضاقت الدنيا بما اتسعت وشملت .. فاجعل لي من ضيقي فرجاً ومن همي وبلائي مخرجاً !!!!!!!
رباه رباه رباه .. الويل كل الويل لي ! سوف يتفنون في إيذائي .. فأنا وحدي وهم كثر !!

ثم ………. هاج المضيف الوغد بصوت عال بأقصى أنواع الغضب :
ـ دعـوها .. إنهم قوم يتطهرون !!! .. اتركوها تشبع من الطعام بمفردها !! ..
نحن لا نرغب في الطعام .. نخشى أن تكون بنا نجاسة أو قذارة فنفسده .. فلا تستطيع هي أن تأكل الطعام!!

قام الرجال جميعاً من على المائدة وكأن غضب الدنيا يعبث بهم منّي !!! .. قرابة ثلاثة وعشر رجلاً وامرأة !! .. فخيّـم سكون معذّب قاتل على جميع أرجاء المنزل !!

خاطبت نفسي بما تبقّت لي من أنفاس :
ـ هل أخطأت ؟ .. هل أبادر بالاعتذار ؟! .. هل عملت منكراً عظيماً ؟! .. هل ارتكبت كبيرة لا تغتفر ؟!! .. من الذي يحق له العتبى والغضب ؟! .. بل والتحطيم والتدمير ؟!! ..
ما للموازين مضطربة ؟! .. أين الخطأ وأين الصواب ؟! ..
 يا رب .. أنت تعلم أني أكابد من أجل إراحة ضميري ووازعي الديني .. أما هم فإنهم يكابدون من أجل نزواتهم ووازعهم الشيطاني !!

ربما أخطأت ! … لم أعد أعرف ! .. ماذا أفعل ؟ هل .. هل أهرب ؟! .. لقد فعلوا بي ما فعلوا ولم أرضخ ولكن الله يشهد أنه لم تتبقّ لي ذرة من مقاومة ! .. فهذه الأخيرة من نوعها .. فلا يمكن أن أصمد أكثر من ذلك ..
نعم .. أشعر بحناياي تضطرب .. وجوانحي تتأرجح .. و ..

سمعت صوت والدة الزوج .. وزوجة المضيف الوغد تنادياني بصوت وديع !! .. ولكنه مملوء بشتى صنوف الغيظ الممزوج بالرغبة القاتلة في السحق !! .. وبابتسامة كاذبة من كل منهما قالتا :
ـ تفضلي .. تناولي .. الطعام .. بالهناء .. والعافية ..

نظرتُ إلى الطعام المقلوب رأساً على عقب !! .. سرى الشلل البطيء في قدمي .. جلست ونظراتي المرتعبة وقلبي الذي ران عليه الانفطار ينتظران حكماً أكيداً بالإعدام !! .. فتبادلت المرأتان النظرة ذاتها وعلّقت المضيفــــة :

ـ ما السبب في اعتقادك يا أم …. في غضب الرجال بهذه الصورة الوحشية ؟! .. آه .. كم أحقد على صاحب السبب !! .. كنا جميعاً ننعم بالسعادة والبهجة ولم تحدث بيننا مشاحنات أو خلافات إلا منذ فترة وجيزة !! .. فما السبب يا ترى ؟! .. أهي عين أصابتنا ؟ .. أم تراها فتن وقلاقل زُرعت بيننا !! ..
من هو الذي قلب حياتنا وعبث بها ؟ .. من صاحب هذا العقل المتحجر الذي لا يلين ؟!!

أجابت الأم بغيظ مكظوم :
ـ نعم نعم .. الحق كل الحق معك .. كنا في سعادة غامرة .. ولا أعرف من صاحب هذه الفتن والمشاكل ..
وليس لنا إلا ندعو عليه ليل نهار حتى يدفع ثمن ما نحن عليه !! .. قاتله الله !!

إنهم يقصدونني بلا شك !! .. أنا المعنيّة بكل ما تقولان !! .. لزمت الصمت .. ربي .. ديني .. أهلي .. كرامتي وكبريائي المنزوفتان المُراقتان !! .. وقاري وحشمتي وعفافي !!

صرخ الزوج بي أمام الجميع بعدما اجتمعوا معه لتفكيك ثقتي بما أعتقد :
ـ هيا انهضي .. سنذهب إلى المنزل الآن ونتفاهم هناك .. الويل لكِ .. لقد تخطيتي كل الحواجز والقيود !!

نظرتُ إلى القوم بتمهل وكأني أودعهم !! .. فرأيتُ الشماتة والتشفّي تتراقص بفرح على تعبيرات وجوههم !!

أدركتُ بفـرح أنه لا مجال إطلاقاً للاتفاق بيننا .. وعزمت في قرارة نفسي على الرحيل الأبدي !!
لكل إنسان طاقة .. وقد كُلفتُ معهم ما لا طاقة لي به .. لم أعد أطيق صبراً ! ..
 تعبت وأنا أناضل .. هذا ليس ما أدين به !!



وقف الجميع في وجهي .. وأنا كالطائر الجريح كسير الجناح .. أقاتل وحدي ضد جوارح قوية متعاضــدة !!


( ٢٦ ) مراوغات الفرار !

عدت معه إلى المنزل .. وقد انهال علي توبيخاً طوال الطريق .. وأنني أفسدت بينهم جميعاً بعدم إطاعتهم فيما يعملون .. عدا عن أنني لا أطيعه هو وهو زوجي الذي يجب أن أرضيه وأخضع لأوامره !

فتجرأتُ أخيـراً وقلت :
ـ والله لو كانت طاعتك فيما تأمرني به واجبة مقابل معصية الله تعالى لما توانيت !! .. ولكنك تأمرني بالمنكرات والأباطيل وأنا أرفض طاعتك في ذلك .. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ! ..
 وأنا لست على استعداد لإغضاب الله تعالى أكثر من ذلك .. أرجوك .. افهمني .. وفكّر في الأمر مليّاً ..
الحياة بيننا مستحيلة للغاية .. وأريد أن أعود إلى عائلتي بالحسنى !! .. والآن !!

رفض بشدة .. إنها نقطة ضعفه .. لا يستطيع تركي أبداً .. يا لها من كارثة .. ولكنه أدرك أن لا جدوى من إقناعي بالمكوث معه .. في هذا الوقت العصيب على الأقل .. ثم فكّر مليـاً وبصمت مطبق .. ولان أخيراً بعد النصلّب والإعصار فقال :
ـ هذا الموضوع تحدثنا فيه كثيراً .. ومهما بلغت هفواتك وكثرت زلاّتك لا مجـــال إطلاقاً للتنازل عنك .. وكُلّي أمل في أن يهديك الله إلى طريقنا الصحيح !!! .. ثم …

قاطعته بشدة قائلة :
كــفى بالله عليك .. أنا لن أرضخ أبداً ولن أهتدي لطريقكـــم !!!
ولكن .. ربما .. إذا وافقت لي بزيارة أهلي وتركت لي فرصة أعمق للتفكير .. حسناً .. أرجوك .. أطلب منك أسبوعاً واحداً فقط وأكتفي به .. ثم .. سوف أعود إليك سريعاً .. لن أتأخر عليك .. امنحني هذا الطلب أرجوك .. ألا تثق بي ؟!!

بالطبع كان غرضي هو الفرار الأبدي الذي لا عودة بعده .. ولكنني خفت من رفضه إن علم !

فقال بتشكك وتخـوّف
ـ قلت : لن تذهبي .. أخشى .. أخشى ألا تعودي !!!!

أجبته بسرعة أطمئنه ونيران الدنيا تستعر في صدري وأنا أبتسم ..
ـ قلت لك .. أسبوع واحد فقط .. اشتقت لأهلي كثيراً .. بالإضافة إلى أني أشعر بحاجة إلى الراحة والخلود حتى يتجدد ما بيننا .. سوف أعود إليك سريعاً صدقني .. وحتى تثق بكلامي فلن آخذ معي أي شي من متاعي .. فالمدة قصيرة جداً ولا تحتاج أبداً للمتاع !!

قال وهو يحاول تصديقي .. وقد بدت لهجة الاطمئنان في حديثه :
ـ لا أعرف ! .. أشعر بأني غير مطمئن .. ولكن .. حسناً .. هل تكفيك خمسة أيام فقط ؟!

أجبته متظاهرة بالقناعة والرضا …..
ـ وإن أردتها ثلاثة أيام فقط فلا بأس !!! .. هيا الآن أرجوك .. احجز مقعداً إلى بلادي بأسرع وقت .. حتى أعود إليك بأسرع وقت !!!

وأخـيــــــراً ……..........


( ٢٧ ) الرحيل الأبدي

حجــز لي مقعداً منفرداً .. الإقلاع في العاشرة ليلاً .. والساعة الآن الثامنة .. لا وقت .. قبل أن يغيّر رأيه !!

قمت بإعداد نفسي بسرعة .. دخل ليستحم .. انتهزت الفرصة .. كتبت له أن الحياة بيننا مستحيلة .. منذ أن وقعت قدماي على هذه الأرض .. وأنني حاولت الإصلاح ففشلت !! ..
 وأنني لم أطق البقاء معه يوماً بعد أن علمت بخديعته لي ولأهلي في .. دينه !! ..

لا اتفاق بيننا من حيث الدين ولا الأخلاق ولا الحياة والعقيدة والعادات .. لذا يجب علينا الافتراق إلى الأبد دون عودة ! ..
 وهذا الأمر كان يُفترض بنا أن نفعله ليس من الآن فقط .. بل .. من يوم عقد فيه قراننا !!! .. أنا لست منكم .. ولستم منا !! .. وداعاً وداعاً إلى الأبد !!

سمعته يفتح مقبض باب الحمام .. طويتها بسرعة .. وضعتها في حقيبتي .. عاملته جيداً .. حتى لا يظهر تغيّر علي .. نظرت إليه وهو يستعد للخروج .. إنها النظرات الأخيرة .. سامحوني جميعاً ..
طـأطـأ رأسـه .. ما به ؟!! حاول إخفاء وجهه عني .. تظاهرت بأني لم أره .. ورأيته .. لقد اكتسى وجهه حمرة من شدة البكاء !! .. لا بـأس .. هذه هي النهاية الحتمية ولكني سأجعله هو من يفهم ذلك بنفسه ..

ركبنا في السيارة .. كأنه يشعر أنني لن أعود .. لم ينظر إلي .. تركته .. فضلت الصمت والسكوت .. لمحت في عينيه بريقاً .. دققت النظر إليه .. فإذا هي الدموع تترقرق في عينيه .. مع أني لم أخبره بقراري بعد .. لا مجال للعيش بيننا إطلاقاً .. قدر الله وما شاء فعل .. أخذ يحذرني من عاقبة تأخري عليه عند أهلي .. وأجهش بالبكــاء .. فلم أهدئه .. لا أريد أن أكذب عليه ..

نظر إلي بعينين حزينتين وقال :
ـ هل ستعودين ؟!! .. لا أعرف لم أنا حزين ! .. عندما تعدين فإنك تفين بوعدك دائماً ! .. فهل ستفعلين ؟!!

نظرت إلى النافذة واصطنعت البراءة هذه المرة وأنا أقول :
ـ نعم .. لا داعي لحزنك .. يجب أن تصدقني .. هل بدر مني أسلوب الكذب معك ؟!!
( اللهم سامحني )

هز رأسه نافياً وصمت .. إلى أن دخلنا إلى المطار .. وقلبي يخفق بشدة .. وداعاً للجميع وليسامحني الجميع على كل ما بدر مني .. شعرت بالأمان في المطار .. لن يستطيع إرغامي على العودة .. الموت أهون عندي !

وقبل النــداء على ركّـاب الطائرة .. فتحت حقيبتي وأخرجت منها رسالتي .. وناولته إياها .. وحلّفته ثلاثاً ألا يقرأها إلا عندما يعود إلى المنزل .. إلى حجرته .. فوافق على مضض .. دخلت إلى صالة المسافرين بسرعة .. أدهشه ذلك .. لوّح لي والحزن يبدو متفجراً من قسماته والدمع يفيض كما يفيض النهر .. بعد ماذا ؟!!!!

نظرت إليه .. كنت سعيدة .. خائفة .. لم أطل البقاء لأنظر إليه .. ولكنني لمحته يغطي وجهه بثيابه وكأنه يحمي نفسه من البرد .. وما زال النحيب والبكاء يسيطران عليه بينما انتبه إليه الكثير من الناس في حالته تلك .. فرحموه !! ولم يعلموا من هو !!!

شعرت بنوع من الحرية التي طالما افتقدتها بينهم .. شعرت باستقلاليتي من معتقداتهم التي فعلت بي الأعاجيب !!
هل حقاً أنا بعيدة عنه ؟ .. عنهم ؟! .. تركتهم إلى الأبد ؟!! .. صحيح ؟!! .. لا ..لا .. هذا حلم جميل وسرعان ما سينقضي .. ركبت الطائرة .. نظرت بخوف فيمن حولي وأنا أحتضن حقيبتي الصغيرة ! .. هل كلهم صوفيون ؟! هل اتفقوا معه ؟!

لماذا ينظر الركاب إلي بهذه الطريقة ؟! .. هل علموا بشخصيتي ؟!
هل جميعهم ضدي ؟! .. ربما .. اتجهت بنظري إلى الخلف !!! .. يا إلهي !! .. هناك راكب يشبهه !! .. لالالالالالالالا ! .. هل لحق بي ؟ لماذا تبعني  ؟ .. لماذا أتى  ؟! .. سأصرخ .. سأفقد صوابي !! .. ولكن .. تحرك الرجل هو وزوجته إلى مقعد آخر !! .. الحمد لله .. إنه ليس هو ! ليس هو .. ليس هو !!!

يا إلهي ما العمل ؟ .. لجهاد بالسيف والرمح أهون علي من جهادي ضد نفسي !

ســاءت حالي .. تحّول مزاجي .. تمكنت العزلة من اختطافي عن أنظار الجميع ! ..
حتى الطعام كنت آكله قسراً حتى أتعايش مع اللحظات الباقيات لي !!

بعد ستة أيام .. كنت ملقاة على فراشي في بيت عائلتي .. أصارع الحياة والموت .. أشعر ببقايا من أنفاسي المعدودة .. لا أحب الطعام .. ولا الماء .. ولا النوم .. ولا اليقظة .. أتململ في مكاني .. وأنا أنتظر أمر الله في أي لحظة أن يناديني .. بينما فاضت عيوني بالدمع المنهمــر دون توقــــف ..


( ٢٨ ) .. لن أعود .. لن أعود ..

وفي عتمة المكان دخل نور خافت يتفـقـدني ..استدرت إليه .. فإذا هو والــــدي .. يطمئن علي .. ويسأل عن حالي .. وعيناه تفيض بالحزن والكمد !! ..
حتى الابتسامة ترفّعت عن شفاهي !! .. تردد أبي كثيراً قبل أن يقول :

ـ يا ابنتي .. هل ما زلتِ مستيقظة ؟ أريد .. أريد أن أخبرك بــ .. بــ ..
ـ يا ابنتي .. هل ما زلتِ مستيقظة ؟ أريد .. أريد أن أخبرك بــ .. بــ .. بأن زوجـك قد جاء .. وهو .. وهو في انتظارك .. ويريد أن .. أن يتفاهم معك .. و ..........

استجمعت شجاعتي .. اتأكت على يدي حتى وقفت أترنّـح من شدة الإرهاق والتعب والحزن .. هتفت بصوت بالكاد سُمع :

ـ ماذا ؟ .. ماذا ؟! .. لماذا أدخلتموه إلى المنزل ؟ .. ألا يكفيه ما آلت إليه حالي ؟! .. ألا يكفيه ما فعله بي ؟ .. أبــــــي !! .. كيف تستطيع النظر إليه أو مخاطبته ؟! .. إنه إنه بلا قلب .. ألا ترحمونني ؟!!

وأجهشت بالبكاء الذي رجا الدنيا أن ينفيه من أمامي.. ولكن .. أبي أمسك بي برفق وقال بهدوء :
ـ يا ابنتي أخبرته بكل ما تريدين .. فبكى بمـرارة .. وقال أنه لا يصدّق ذلك ـ وأنه يريد أن يراكِ ويسمع ذلك منك ..

ـ لالالا .. لا أريد رؤيته حرام عليكم .. أنا أكرهه .. هل تعرف معنى ذلك يا أبي .. أرجوك .. أرجوك ..

رجاني أبي بقلب وجيـــع :
ـ أرجوكِ يا ابنتي .. يجب أن تخبريه بما تريدين .. وأنك تريدين الفراق عنه .. فلن يصدّق أحداً سواكِ !!
هيا يا ابنتي أرجوك .. سأقف معك فلا تقلقي ولا تخشي شيئاً .. هيا يا ابنتي هداك الله !

مشيتُ معه بخطىً متماوتة .. متثاقلة ! .. حاولت الدخول فلم أستطع !! .. فشجعني أبي بأن دخل قبلي .. وبقيت خلف الباب .. أمسك بالحائط عّله يساعدني في الثبات .. دخلت ببطء .. وجدته يجلس في وسط المكان وعلى الأرض .. لم أعرفه !!! .. من هذا الرجل ؟!! ..

استدرتُ للخروج بسرعة .. فناداني أبي .. ظننت أني قد دخلت على رجل آخر !! .. هل يُعقل أن يكون هذا ؟!! .. ما أبشع منظره !! .. يا إلهي ما هذا الاختلاف الكلي الذي طرأ عليه !!! .. أين القوة والضخامة ؟! .. أين الصحة والخشونة ؟ .. لالا .. لا يُعقل أن يكون هو !!!

وقف بسرعة كلمح البصر ! .. لم أتعرف على ملامحه ! .. كرهت النظر إليه .. أو سماع صوته !! ..
جلست متهاوية على الأريكة .. شقّـت ابتسامته نهر الدموع في عينيه .. اعتقد أني وافقت على العودة معه ..

نظر إلي بفـرح .. وتغيّرت ملامـح وجهه فجأة وهو يقول :
ـ ما بك لا تنظرين إلي ؟!!! .. لقد نحلتِ كثيراً !! .. هل أصابك مكروه ؟! .. حتى أنا تغيّر حالي .. منذ أن ذهبتِ ونحن نعيش في فراغ كبير .. في جفاء ووحشة أنا وأهلي جميعاً !!

لزمت الصمت ! .. لا أريده !! .. الآن !! .. بعد ما جعلتموني أعاني من الذل والهوان ؟!!

كرر حديثه ثانية :
ـ ما بك ؟!!! .. ألا تعرفين من أنا ؟ .. أنا زوجك ! .. لقد وعدتيني بالعودة ولم تفعلي ! .. جئت لآخذك معي .. هيا .. هيا استعدي فالطائرة ستقلع بعد ساعتين ونصف من الآن ..

أيضاً لزمت الصمت !!

نظر إلى أبي في تساؤل وحيرة :
ـ ما بها يا عمّــــاه ؟! .. ما بزوجتي لا تطيق حتى النظر إلى وجهي ؟!! .. اجعلها تكلمني أرجوك !! .. ما بها ؟

ثم حوّل نظره إلي وقال :
ـ ألا تريديني ؟!! .. لماذا ؟ .. تكلمي !! .. ماذا تريدين ؟!

نطقت أخيراً من بين دموعي الوجعى وما زلت أشيح بنظري عنه :
ـ لا أريدك .. لا أريدك .. أرجوك .. أطلق سراحي .. فأنا لا أطيق النظر في وجهك .. ولن أعود معك !! .. مهما حييت ! ..
 ألا ترى ما فعلته بي ؟! .. أبي أرجوك .. أخرجه من هنا !! .. أنا لا أريده لا أريده لا أريده .. أكرهه ..

أمسك أبي بي بسرعة وأوقفني بتمهل وهو يبتعد بي عنه إلى الغرفة المجاورة ..

ـ على رسلك يا ابنتي ! .. ارحمي نفسك وما وصلت إليه حالتك .. أرجوك .. لا تنفعلي كثيراً .. أرجوك ..

صرخ الزوج بأعلى صوته وهو ينتحب وجميع أهلي يسمعونه :
ـ أعيدوا إلي زوجتي .. لن أتركها لكم !! .. حرام عليكم .. أنا لا أستطيع العيش بدونها !! .. أعيدوا زوجتي .. أريد زوجتي .. أريدها أن تعود معي لمنزلي .. لن أدعها تذهب مني !! .. أعيدوها إلي .. أعيدوها .. سأوافق على كل ما تريد .. صدقوني .. ماذا تريد هي ؟!! .. أين زوجتي ؟!

عدت إليه بسرعة وأنا أستند على الجدران وسألته بصوت باكٍ ومغتاظ :
حسناً .. هل ستترك ما أنت فيه من ضلال ؟ .. هل ستهتدي إلى الطريقة المثلى ؟!! .. هل سيعتدل سلوكك الديني وأفكارك العقيمة ؟!!!! .. بالطبع لا .. أليس كذلك ؟!!

صمت .. ثم قال باكياً :
ـ اطلبي كل ما تريدين .. إلا هذا !! .. لا أستطيع !! .. لا أستطيع العيش بدون ذلك !! .. إنها عقيدتي ومذهبي وهو الصحيح !! .. ولكني أعدك ألا أجعلك ترغمين على الذهاب إلى مكان لا تريدينه .. فعودي أرجوكِ ..

قلت له بأسف :
ـ لا جدوى من عودتي ! .. سيعود الحال إلى ما كان عليه !! .. نحن لا نستطيع العيش معاً .. لا نستطيع
معيشتنا ستكون عيشة ضنكا !! .. مؤلمة متعبة .. الخلاف الديني سيقف حائلاً دائماً بيننا .. عدا أني قد زهدت فيك وقطعت الأمل في تفهمك لما أعني .. أرجوك .. لا يمكننا البقاء معاً أبداً .. أبداً ..

وخرجتُ .. أبكي .. فاحتضتني أمي .. وهدّأت من روعتي أختي .. أما أبي .. فهو يمسح دمعات فيّاضة تطفو قسراً من عينيه وهو يعاين لحظات الوداع الأخيرة .. لا جدوى منه أو مني !! .. لا جدوى !! ..

رحل .. سمعته يناديني .. فلم أجب .. ما الفائدة !! .. أغلقتُ الدار علي بالمفتاح .. لا مجال للعودة أو التراجع .. هذا أمر الله .. ولا يمكن  أن يجتمع الضـدّان أبداً !!!!

مرّت أيام عصيبة على حياتي .. وفي هذه الأثناء التي كنت أحتضر فيها جاء القريب والبعيد يرجونني بالعودة إليه !! .. إنه بقايا إنسان !! ..
يتصل مراراً وتكراراً حتى أعود إليه !! .. إنهم قوم لا يعلمون !!

وما فائدة عودتي إلا زيادة في العذابات والمفارقات !! .. بالطبع رفضت .. مجرد محاولة واحدة فقط منهم في استمالتي إلى ما يدينون وسوف تؤدي بحياتي إن عدت وأنا بهذه الحال المترنحة !!! .. حتى وإن كان يعاني فقدي ونقل مراراً إلى المستشفى فلن أعــود !! .. لن أ أعــود د .. لن أعــــود ؟! ..

( النهاية )

◽️◽️


◽️◽️

📚 المصدر : كتاب ( دعوني أرحل ) بقلم الهاشمية
دار القاسم للنشر والتوزيع

 تحرير : حورية الدعوة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة : ولك بمثل »

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق